د. زهير توفيق
كاتب وأكاديمي أردني
zuhairtawfiq@hotmail.com
يُمثِّلُ فايز الصيّاغ جيلًا من المترجمين المفكِّرين في الثقافة العربيّة، فلم يكُن مترجمًا عاديًّا يبحث عن الأسهل؛ بل كان مفكِّرًا ومشاركًا في النص المنقول، وخير مثال على نهج فايز الصيّاغ ترجمته الفذّة لكتاب "علم الاجتماع" لـِ"أنتوني غِدِنْز"، فبذل جهدًا خارقًا في نقل مادة الكتاب وتقريبها ما أمكن للقارئ العربي، مراعيًا ذائقته وثقافته، فغيّر بالنماذج التفسيريّة، وطرح شواهدَ ونصوصًا لمؤلفين عرب لإضاءة النص والموضوع، وأظهر تمكُّنه من المفاهيم والمصطلحات المتداولة، وغير المتداولة في العلوم الاجتماعية، وما يقابلها في اللغة العربية.
المترجم القدير مُشارك
في إنتاج المعرفة
هناك عبارة مُستهلَكَة -وأنا أصفها بالمُبتذَلَة- تقول: "إنَّ فعل الترجمة خيانة، وكل مترجم خائن للأصل"، وإذا أخذنا هذه العبارة (الحُكم) في إطارها المجرَّد، لَعَرَفْنا أنَّها تصف ولا تفسِّر الصُّعوبات التي تعترض المترجم في نقل النصوص من لغة إلى أخرى، وخاصة في العلوم الإنسانية والأعمال الإبداعية والفنون.
لقد كانت -وما زالت- الترجمة فعل حضاري، ووسيلة النهوض، فعلى سبيل المثال، استعانت الحضارة العربية الإسلامية بالترجمة في بناء ذاتها، بنقل المعارف العلمية والفلسفة من اليونان والحضارات القائمة والغابرة في ذلك الوقت، فكما يقول "إدوين غنستلر": "أصل الفلسفة هو الترجمة "، وبقيت الترجمة على مرّ الزمن من أوليات التقدُّم المعرفي والمادي في أوروبا عصر النهضة، وعند مفكري النهضة العربية، وخاصة لطفي السيد (أستاذ الجيل) الذي اعتبرها الخطوة الأولية والوسيلة الضرورية لاستئناف النهوض العربي، واليوم، لم تعد الترجمة جهدًا فرديًّا ولا سريًّا يحتكر فيه المترجم النص المنقول، فيجول ويصول بالحذف والإضافة والتصرُّف المطلق بالنص، مطمئنًّا لأميّة الجمهور باللغات الأجنبية، ولم يعد مظهرًا لسلطة الخطاب في الاستشراق والاستغراب.
يمثِّل فايز الصيّاغ جيلًا من المترجمين المفكرين في الثقافة العربية، الذين كانوا وما زالوا على دراية تامة بالموضوع المترجَم وحقله المعرفيّ وسلطاته وسياقه الثقافيّ، وساهموا بالتأليف والتفكير في تلك الموضوعات قبل وبعد الترجمة، ومن هؤلاء جورج طرابيشي وعبدالرحمن بدوي ومحمد عناني والمسيري وغيرهم.
لم يكُن الراحل فايز الصيّاغ مترجمًا عاديًّا يبحث عن الأسهل؛ بل كان مفكرًا ومشاركًا في النص المنقول، وأنا أعتبر ترجمته الفذّة لكتاب "علم الاجتماع"(*) لـِ"أنتوني غِدِنْز" نموذجًا قياسيًّا لمفهوم الترجمة وطريقته التعليمية التي يمكن تعميمها على المترجمين الجُدد.
كتاب "علم الاجتماع" كتاب موسوعي ضخم في علم الاجتماع (800 صفحة) للمفكر الإنجليزي "غِدِنْز" صاحب اتِّجاه الطريق الثالث ومقولاته النظرية بين الاشتراكية والرأسمالية. نُشر الكتاب في ثمانينات القرن الماضي، واعتمد الصيّاغ الطبعة الأخيرة (الرابعة) المزيدة والمنقحة للكتاب والمنشورة سنة 2001، وفي هذا الكتاب تناول المؤلف القضايا الكلاسيكية والمعاصرة والمستجدّة في السوسيولوجيا وعلم الاجتماع من مفاهيم ونظريات وقضايا اجتماعية، والمشكلات الاجتماعية المعاصرة كالعولمة ووسائل الإعلام والإنترنت، وبذل الراحل فايز الصيّاغ جهدًا خارقًا في نقل مادة الكتاب وتقريبها ما أمكن للقارئ العربي، مراعيًا ذائقته وثقافته، فغيّر بالنماذج التفسيريّة، وطرح شواهدَ ونصوصًا لمؤلفين عرب لإضاءة النص والموضوع، فأدرج نصوصًا لكل من: أحمد كمال أبوالمجد، وابن خلدون، وشارل عيساوي، وصادق جلال العظم، وغسان سلامة، ونبيل على، وحليم بركات، وخلدون النقيب، والطاهر لبيب، وفايز الصيّاغ وغيرهم، واستبدل المؤشرات الإحصائية المُدرجة بالكتاب بما هو أحدث منها، وأثبت قدرته كمترجم عالم ومفكِّر بالسيطرة على المفاهيم والمصطلحات المتداولة، وغير المتداولة في العلوم الاجتماعية، وما يقابلها في اللغة العربية.
ولكون الكتاب كتابًا تعليميًّا لطلبة الجامعات والمثقفين غير المختصين، ومدخلًا لتدريس علم الاجتماع، فقد أنهى المؤلف "غدنز" كل فصل بأسئلة للتقييم الذاتي، وحتى تنسجم إضافة الصيّاغ للنصوص والشواهد العربية مع التقييم الذاتي، غيَّر وبدَّل وأضاف بعض الأسئلة بما يتناسب مع التبديل والإضافة خدمةً للقرّاء، وبقي في كل تفاصيل الكتاب يتمتَّع بيقظة معرفيّة عالية المستوى، وأخيرًا ألحق الكتاب بثبْت تعريفي للمصطلحات والمفاهيم الواردة في النص. وافتتح الكتاب بسيرة فكريّة للمؤلف، ركّز فيها على ما هو مهمّ في مسيرته العلمية والأكاديمية والسياسية بأسلوب ما قلّ ودلّ.
وما يلفت الانتباه إجرائيًّا في مشروع الترجمة عدم وجود مراجع للنص على صفحة الغلاف؛ دلالة الثقة المطلقة وإيمان المنظمة العربية للترجمة بقدرات المفكر المترجم فايز الصيّاغ بشؤون النص المترجَم لغويًّا وفكريًّا.
لقد حقَّق فايز الصيّاغ في ترجمة هذا العمل الكبير شروطَ المترجم النّاقد، والمُشارك من حيث الكفاءة اللغوية الممتازة في اللغتين العربية والإنجليزية والحساسية الثقافية والأسلوبية المفرطة، ومعرفة اختصاصيّة بالعلم الاجتماعي، ولم يكن هذا الكتاب على أهميّته إلا محطة بارزة في مسيرته العلمية في الترجمة، فهناك ما هو قبله وما هو بعده، فالترجمة فن تطبيقي وتحتاج لممارسة واعية مستمرة لتحسين ذاتها.
لقد كان -وما زال- معيار الترجمة الممتازة هو أن نقرأ النص المترجَم بطلاقة، ليوحي لنا النص بأنه ليس ترجمة؛ بل تأليف. وكما قال "فريدريك ويل": "إنَّ أفضل المترجمين هم الذين يتمتعون بالقدرة على أن يصلوا إلى نوع من الدلالة الجامعة في المعنى، والقدرة على أن يعكسوا في شفافية هذا الجوهر في النصوص المترجمة، وهذا المعتقد الذي تشترك فيه شبكة من المحترفين بالترجمة".
في ترجمتِه لهذا الكتاب وغيره من الكتب، أثبت الصيّاغ أنَّ المترجم ليس مُحايدًا حيادًا سلبيًّا، بل هو مشارك بأقصى ما تسمح به الترجمة، كونها في التحليل الأخير موقفًا من النص وثقافته، وهي فعل تغيير وإبداع في اللغة الناقلة، بل هي فعل تأويلي للنص، وتطويع للغته، ومرجعيّاته الثقافية لسلطة اللغة الناقلة، وعلى هذا الأساس، عمل الصيّاغ على تسهيل عملية التمثّل وتنظيمها عند المثقف والقارئ العربي، لتوضيح السياق العام للنص، ومرجعيّاته، واعتماد استراتيجيّة الحذف، والاستبدال، لتقديم أقصى درجات الفائدة للمثقف العربي.
لم تكن ترجمة الصيّاغ لكتاب "علم الاجتماع" -ولا لغيره من الكتب في مختلف الحقول الإنسانية والفنون- مجرَّد إضافة كميّة في معرفة الآخر معرفة سطحيّة، بل كانت إضافة نوعيّة، عزَّزت معرفتنا العميقة بأهم الأسماء والاتِّجاهات الفاعلة في الثقافة الغربية، وهكذا هي الترجمة الموضوعية؛ فعل تواصلي وثقافي، يعزِّز التقارب والفهم المتبادل، والقواسم الحضارية المشتركة للوصول إلى عولمة عالمية، هدفها ووسيلتها مصلحة الجميع، بعيدًا عن التفوُّق والاستحواذ والهيمنة، ودون الترجمة تتحجَّر الثقافة مهما كانت لامعة ومتفوقة، وتصبح كما وصفها "أدونيس" ثقافة ميتة؛ "ثقافة تكتفي بذاتها وتعزف عن الترجمة يصحّ أن توصف بأنها شبه ميتة"، وعليه فالترجمة الثقافية -كما يضيف- مشاركة في إنسانية الآخر وطريق الأنا أو المترجَم له لمعرفة الذات.
ومن خلال مقارنة النص المترجم بالنص الأصلي لكتاب علم الاجتماع كنموذج قياسي لترجمات الدكتور فايز الصيّاغ، نستنتج مستوى المساواة التي حققها المترجم في المفردات والجمل والإطار المرجعي للمصطلحات، التي تحمل الدلالة نفسها في اللغتين، وحتى نفس المعنى والدلالة الشعورية لبعض المفاهيم المشحونة بمستوى عالٍ من الأيديولوجيا؛ كالعولمة والطبقة والجنوسة والمثليّة، وغيرها من المفاهيم.
لقد بات شائعًا، كما أشرنا في مفتتح هذه المقاربة، كيف تنتهي جهود الترجمة في الأغلب الأعمّ لا حمدًا ولا شكورًا؛ كونها خيانة للنص الأصلي، خاصة في ترجمة النصوص الإبداعيّة السرديّة والشعريّة، لكن الأصحّ القول -وهو ما درجت عليه تقاليد الترجمة الحديثة كونها علمًا وفنًّا مقنّنًا في التدريس الجامعي- القول: إنَّ لا ترجمة إلا ويعتريها النقص، وتتوقف مستويات المساواة والمطابقة بين الأصل والترجمة على قدرة المترجم اللغوية والثقافية والممارسة طويلة الأمد.
وعليه، يمكننا التأكيد على ما يقوله "لورنس فينوتي" أشهر علماء ونقّاد الترجمة بأنها "ليست أمينة، ولكنّها حرّة". ولكن، من استقصاء النص الذي ترجمه الصيّاغ، لم نجد إلّا براعة في التوفيق بين الأمانة العلمية في نقل النص والتحرُّر من الالتزام بإكراهاته في المَواطن التي لا تُسمِن ولا تُغني من جوع، وتبقى غريبة على القارئ العربي.
لقد مارس المفكر والمترجم الصيّاغ استراتيجيّاته الخاصة لسدّ النقص، وتبيِئة النص، مع الحفاظ على طبيعته المفارقة للُّغة العربية وثقافتها، من خلال البحث عن الكلمات والمصطلحات العربية المُطابقة للكلمات والمصطلحات والمفاهيم الاجتماعية في اللغة الإنجليزية، واستبعَدَ ما يقوم به المترجمون المبتدئون الذين تخونهم اللغة بالإكثار من الهوامش، والإحالات، والشروحات، لمقاربة الكلمات التي عجزوا عن ترجمتها ترجمة مقاربة للأصل.
مارس د.الصيّاغ الترجمة، وكان له حضورٌ بارزٌ في النص، ولم تكُن لا الترجمة ولا المترجِم (الصيّاغ) غائبًا في كتاب "علم الاجتماع"، كون الترجمة في أهمّ تجلّياتها مراوَحَة بين الحضور الطاغي، والغياب الكامل، وأقصد بالغياب، ميْل المترجمين من البداية إلى نهاية النص إلى طمس ذواتهم لصالح صوت المؤلِّف، فنراه (المترجِم) يقدِّم المادة أو الكتاب المترجَم بلا أيّ تعريف أو مقدِّمة منهجيّة لأسلوبه في الترجمة، فهو مجرَّد رسول ناقل من لغة إلى لغة بحجّة الأمانة العلميّة. وأمّا الحضور الطاغي، فهو منافسة المؤلف على كتابه وموضوعه و(فرض) لغته الخاصة، بعيدًا عمّا هو متداول وشائع، وتقديم الكتاب بعشرات الصفحات التي لا تعني سوى الإصرار على المُخاتلة وخطف الأضواء من النص الأصلي والمؤلف، إلى الترجمة وأسلوب المُترجِم، وهذا ما فعله كمال أبو ديب في ترجمة كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" الذي لاقى استيائًا حتى من سعيد نفسه، فمَن يتقبَّل ترجمة كلمة "استراتيجية" بالاستخطاطية؟!
المترجم والمفكر فايز الصيّاغ، لم يلعب هذه اللعبة، فقد حضر في الكتاب بشروط الترجمة العصريّة، وبحدود ما يسمح له النص الأصلي بالحضور، فأبدع في الترجمة، والمقاربة، وبذل أقصى جهده المعرفي واللغوي في الترجمة، ولهذا جاءت ترجمته درسًا معرفيًّا استحقَّ عليه الشُّكر والجوائز والعرفان، وكان آخر عهدي به قبل الرَّحيل، عندما فزنا معًا بجوائز جامعة فيلادلفيا؛ فاز هو عن أحسن كتاب مُترجَم، وأنا عن أحسن كتاب مؤلَّف في العلوم الإنسانية في العام 2019.
فايز الصيّاغ مفكِّر ومترجم نموذجي، ونموذج للتَّفاني والإخلاص والعلم الرَّصين.
- - - - - - - - - - -
(*) أنتوني غِدِنْز، "علم الاجتماع" (مع مدخلات عربية)، الطبعة الرابعة، ترجمة وتقديم الدكتور فايز الصيّاغ، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2005.