وفي مُقلتي ارتسامُكِ يا جنّة الماء والظلّ يا واحَتي(*)

‏ليلى الأطرش ‏

كاتبة وروائية أردنية

 

فايز... صنو الرُّوح!‏

تتقاطع المصائر! تلتقي أقدار البشرـ تبعثر رياح الحياة صورًا لمستقبل مختلف، زاهيًا أو قاتمًا، ‏وتتنوَّع الحياة بألوانها. ‏

كيف أكتبُ حياتَنا؟!‏

مداعبتي لفايز منذ ارتبطنا، (جميلٌ أنْ أعيشَ مع موسوعة! لكنَّ الحياة تفاصيل ومشاغل صغيرة ‏أو كبيرة!)، يضحك ويستمرّ في طرح معرفتِه بعلمٍ غزيرٍ ومرح وكرم، كأنَّما ينفث معرفته ‏بخورًا من ذاكرة قويّة لافتة. ‏

فايز عاشق الأردن! والمتنبي وأبي تمّام وأبي نواس والمعلّقات وعروة بن الورد وعرار ولسان ‏العرب، وطه حسين وكتب التراث والأفلام العالميّة! رحلَ وحوْل سريرِه "لسان العرب" لابن ‏منظور بأجزائه، وظلَّ دليله إلى اللغة وجمالها، وكتاب "الترجمة وإشكالات المثاقفة"، وكتب ‏كثيرة وصلت قبل رحيله لم يتسنَّ له قراءتها.‏

لماذا يتغرَّب مثله عن وطن يعشقه؟

قرار الهجرة لم يكن طمعًا في ثروة أو حياة أفضل، فما نجنيه كلانا من وظيفتين لكلٍّ منّا عادَلَ ‏ما عُرض عليه أوَّل الأمر مُعارًا إلى قطر!‏

ما لم يعرفه كثيرون أنَّ قرار المغادرة كان حتميًّا حين ضاق الأمل وحاصر الأحلام! بعد أن ‏انتقل فايز إلى وزارة الإعلام الأردنيّة مسؤولًا في قسم الصحافة الخارجيّة، ومديرًا لتحرير مجلة ‏‏"أفكار" حين صدورها.‏

انعطافة الحياة! ‏

وصل الدكتور حليم بركات أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية من بيروت لعمل في ‏الجامعة الأردنية، والتقى تلميذه المتفوِّق، عرض عليه العودة إلى الجامعة الأميركية في بيروت ‏وقبول عرضها السابق يوم تخرُّجه لتعيينه مُعيدًا في قسم الاجتماع لأنه خريج بمرتبة الشرف. ‏كان د.حليم بركات يحس بالأسى لأنَّ قوانين التزام فايز مع وزارة التربية والتعليم الأردنية حالت ‏دون تعيينه، فلا بدَّ أن يعمل سنتين في التربية بحسب القانون الأردني، أو يدفع التزامه المالي ‏للحكومة، وهذا أمر مستحيل! فوالده ضابط في الخدمات الطبيّة وعائلته كبيرة ومطلوب منه أن ‏يعمل ويساعدهم.‏

اصطحب د.حليم تلميذه إلى الجامعة الأردنية، وهناك أخبر رئيس الجامعة أنه يعتزم أخذ فايز إلى ‏بيروت ليعمل مُعيدًا، ثم يرسلونه لإكمال دراسته، ومن راتبِه يسدِّد التزامه. قال رئيس الجامعة ‏آنذاك د.عبدالكريم خليفة: نحن بحاجة لشبابنا وسنرسله فيما بعد ليكمل دراسته ويعود ليخدم ‏الجامعة في قسم الاجتماع المزمع إنشائه. ‏

اعتذر فايز للدكتور بركات، وبدأ إجراءات انتقالِه من وزارة الإعلام إلى الجامعة، وصدر أمر ‏تعيينه فيها!‏

‏ بالأمل والفرح أجرى الفحص الطبي لاستكمال المتطلَّبات!‏

طارت الأحلام بالصَّدمة! مُنع من العمل في الجامعة بعد أن خسر عرض الجامعة الأميركية. ‏

تحطيم آماله لم يهزم رغبة الحصول على الدكتوراه، شغلته الحياة، فتأخَّرَت سنوات طويلة، لكنه ‏تخرَّج بها في جامعة تورونتو بمرتبة الشرف كعادته، وحاضر فيها قبل أن يعود إلى الأردن في ‏العام 1995، ويتبوّأ مناصب عديدة، خبيرًا مع المنظمات الدولية، ووزارة التنمية الاجتماعية ‏ووزارة التخطيط.‏

الحرمان مِن حلم الحصول على الدكتوراه في سنّ مبكرة، ظلّت إحدى أزمات فايز الكبرى على ‏الرغم من التَّظاهر بعدم المبالاة.‏

صدَّقتُه حين قال لي قبل ارتباطِنا إنّه ليس حزبيًّا! كان يعرف موقفي من الأحزاب وإصراري ‏على استقلاليّة فكري، لكن قبل سنوات فقط عرفتُ أنه انتمى يومًا لحزب البعث لمدّة عام وهو ‏في الكرك ثم بيروت، اعترف بهذا في مقابلته مع الدكتور الصديق مهند مبيضين في صحيفة ‏‏"السجل"، وأنه اكتشف حقيقة الأحزاب في بيروت، فانسحب من البعث، لكنه دفع ثمنًا باهظًا. ‏فسعى لإعارته إلى قطر من خلال صديقه الصحفي محمود الشريف الذي يعرفه جيدًا منذ أيام ‏‏"الأفق الجديد"..‏

قرار التوقُّف عن كتابة الشِّعر كان قبل ارتباطنا! ‏

عصرت نكسة حزيران 1967 روحه الشعريّة الرَّهيفة فصمَت.‏

في اليوم الثالث لتوقُّف حرب الأيام الستة، وما زال الناس في غيبوبة الانكسار، رافق أصحابه ‏راكان المجالي وتيسير سبول وجمال أبوحمدان إلى الأغوار لمساعدة مَن يحتاج من اللاجئين ‏الهاربين من ملاحقة النابالم. كانت الطريق إلى عمّان تغصُّ بالجثث المتفحِّمة، لاحَقَت قنابل ‏النابالم المُحرَّمة فلول الهاربين من مخيّمات اللاجئين في فلسطين لتدفعهم إلى غور الأردن.‏

‏ لم يتحدَّث كثيرًا عن تلك التجربة، لكنَّها جرّحت فؤاده ووجدانه! ودفعته إلى موقفه من شعر لا ‏يسعف الناس! ‏

انشغل بالعمل. ‏

خرج فايز من الأردن مُعارًا إلى قطر، رأس تحرير مجلة "الدوحة"، وأنشأ الإذاعة الأجنبيّة. ثم ‏عمل خبيرًا في تدريب الموظفين في شركة البترول.‏

غادر الأردن جسدًا وروحه في وطن لا يبارح نفسه، عاد مرّات قليلة، فتحوّل الرُّجوع كابوسًا ‏بمنْع السَّفر، لكنه بنى بيته في عمّان على أمل العودة في وطن حُرم منه طويلًا بلا ذنب.‏

لا أذكره يومًا إلا وفي يده كتاب، شتّى المعارف وباللغتين العربية والإنجليزية. يعود إلى التاريخ ‏والتراث والفلسفة والفكر! في المكتبة عشرات القواميس بعضها متخصّص في ترجمة ‏الاصطلاحات القانونية والاجتماعية والإعلامية، إلى جانب المنهل والمعجم الوسيط والمورد ‏والمغني الأكبر ومقدمة ابن خلدون والإمتاع والمؤانسة وما لا يُعدّ!‏

حفظ المعلّقات طالبًا، عشق المتنبي وأبا تمام وأبا نواس؛ كأنَّما يحتمي بالتاريخ والتراث من غربة ‏الواقع. ‏

أعاد مرّات قراءة الكتب الإشكاليّة لطه حسين وعائشة عبدالرحمن وسلامة موسى وعبدالرحمن ‏بدوي و"تيودور نودلكة" المستشرق الألماني وكتابه تاريخ القرآن، وكثيرين غيرهم. لم ينم يومًا ‏إلا وأنهى صفحات من كتاب، حتى ولو عُدنا متعبين من مناسبة اجتماعيّة.‏

أحبَّ أن يعلِّم أطفاله هوايات، فقضوا الساعات مع المونوبولي، ثم السباحة رياضته الوحيدة ‏فأتقنوها صغارًا. عاشق للسَّفر واكتشاف العالم وزيارة الآثار والمسارح العالميّة!‏

منذ السبعينيات طاف بنا أرجاء العالم، الشرق الأدنى والأقصى بداية الثمانيات، هونج كونج، ‏وماليزيا وبانكوك والفلبين وسنغافورة و13 ولاية أميركية وكندا ودول أوروبا الشرقية وروسيا ‏ومعظم الدول الأوروبية والعربية ودول المغرب العربي كلّها.‏

الثقة في الشَّريك عنوان للحُبِّ ودليله!‏

كثيرًا ما سافرتُ وحدي للعمل مع فرق تلفزيونيّة من الزملاء الرجال، أو لحضور المؤتمرات ‏واجتماعات القلم العالمي في اليابان وكوريا والسنغال وموريتانيا وألمانيا والنرويج، وظلَّ سعيدًا ‏وفخورًا بما أفعل.‏

في لندن، وعُمْر "دانة" ست سنوات و"تميم" أربع ونصف، طلبتُ أن يفسِّحهم ليترك لي مجالًا ‏لأتسوَّق وحدي. ‏

متأخِّرة عُدت، فلم أجد أحدًا، ووسيلة تواصل العالم آنذاك التلفون الأرضي.. ساعات الخوف ‏والقلق بطيئة محمَّلة بعذاب التوقُّع! لكنّه نزل من "التاكسي" يحمل "تميم" على كتفيه ويجرّ "دانة"! ‏طفلان مُرهقان ذهب بهما إلى "ستاتفورد أبون أفون" ساعتين في القطار من لندن إلى متحف ‏شكسبير! وحدَّثهما عنه بدلًا من اللّعب في حديقة أو "بارك". ‏

ظلَّ يصرُّ على أن يقرأ أطفاله موسوعة الأطفال ويناقشهم فيها، لكنه لم يدرِّسهم مناهجهم ‏المدرسية لأنه يخرج من المقرَّر إلى ما يعرف ويستطرد فيتململون.‏

أصرَّ أن يتعلّموا القرآن، فحفظوا قصار السُّوَر كلّها، وفازت "دانة" ثلاث مرات في مسابقة حفظ ‏القرآن للأطفال في مدارس الدوحة... جمَعَ العديد من المصاحف بأحجام مختلفة ومعها قاموس ‏‏"فتح الرحمن لطالبي آيات القرآن" للمقدسي عن دار الكتب العلمية في بيروت لتحديد موقع أيّ آية ‏في سور القرآن. 

إتقانه اللغة الإنجليزية كالعربية الفصحى السليمة والأنيقة والشاعرية، وحرصه على قواعدها ‏جعل أسلوبه في البحوث والترجمة مطلبًا لتقارير التنمية الإنسانية العربية، وتقارير المعرفة ‏وتقارير جامعة كارنيجي! وحصد لقب المترجم الشاعر وشيخ المترجمين، ونال أكبر جوائز ‏الترجمة في العالم العربي!‏

ترسم الأقدار مصائر البشر: هو قدر لا صدفة، التقينا. ‏

كنتُ أكتبُ وأعملُ في صحيفة "الجهاد" المقدسيّة محرِّرة ثم مسؤولة التحقيقات الصحفيّة حين ‏وصل فايز إلى بيت لحم موظفًا في التربية والتعليم بعد تخرُّجه، فالعادة آنذاك هي إبعاد ‏الأيدولوجيين ممَّن عليهم التزام مادي لبعثاتهم إلى مناطق بعيدة عن أهلهم، الشرق أردني إلى ‏الضفة الغربية والفلسطيني إلى شرق الأردن! ولشهادته المتميِّزة عيَّنوه مدرِّسًا في ثانوية بيت لحم ‏للبنين، فقضى عامين فيها. تغيَّر الحال في الأردن كثيرًا منذ عام 1989 بعد رفع الأحكام ‏العرفيّة. ‏

عرف فايز قرابتي لأحد طلّابه النّابهين "المهندس مكرم قمصية"، فطلب منه أن يرتِّب لزيارتي ‏في المنزل، أخبرني الأهل أنَّ أستاذ "مكرم" يريد التعرُّف عليّ، صرختُ ورفضتُ، لأنّي أدرس ‏وأشتغل، وحين رأى أهلي أنَّ الأستاذ أكبر بسنوات قليلة من تلميذه، طلبَتْ أمي منه عدم تكرار ‏الزِّيارة.‏

‏ كنتُ قد قرأتُ شعره في "الأفق الجديد" للمرَّة الأولى، ثم في "أفكار"!‏

ثقافته الإسلامية والتاريخية والتراثية الواسعة ملفتة للجميع، فاشتهر صغيرًا، بعد أن نشر قصائده ‏في مجلة "الآداب" و"شعر" و"الرسالة"، وتعرَّف إلى السيّاب وصادقه وتردَّد عليه في المستشفى ‏وسكنه، وكذلك خليل حاوي وأدونيس وغيرهم من الشعراء المرموقين وهو ما زال طالبًا.‏

إعجابه بالصعاليك وعروة ابن الورد وعرار جزء أصيل من شخصيَّته.‏

ثلاث سنوات بعد اللقاء الأوَّل ظلَّ فايز ينبع لي من الأزقّة، حجَّته مُطالبتي بالكتابة لـ"الأفق ‏الجديد"! اتَّصل بصحيفة "الجهاد" ليسأل عنّي، فتعاركَ مع المرحوم "محمود يعيش" حين قال له: ‏‏"سألتها ولا تريد التحدُّث إليك! فلا تتصل بالجريدة أبدا!"، وتشاتما.‏

لم يعرف فايز سبب ابتعادي عن "الأفق الجديد" مهوى أفئدة الكُتّاب آنذاك، إلا بعد سنوات من ‏زواجنا وفي قطر! احترمتُ صداقته مع رئيس تحرير "الأفق الجديد" الكاتب الملتزم! لم أخبره أنه ‏أرسل لمقابلتي فذهبت، فإذا به يطلب، دون أن يدعوني للجلوس، بأن أكتب مقالًا كالذي أثار ‏عاصفة نقديّة ومشاركات القراء حين هاجَمَني أحد الغلاة، وكان أوَّل ما كُتِبَ عن جريمة ‏الشرف، طلب أن أكتبَ مقالًا أكثر جرأة فيردّ عليّ ونثير ضجّة! وبحزم قلت: "لم أكتب وفي نيَّتي ‏الإثارة، ولن أفعل"، وخرجت، ولم أقترب من مجلة تبحث عن ضجّة مع كاتبة صاعدة! إنَّها ‏رؤية رئيس تحريرها المؤسفة إلى المرأة الكاتبة!‏

انتقل فايز إلى وزارة الإعلام في عمّان، فلم ينقطع عن القدس! وحين صدر قرار رئيس الوزراء ‏وصفي التل بدمج الصُّحف، وأرسل صحفيين مرموقين وموظفين من عمّان ليشرفوا على ‏العاملين فيها، وبينهم الصحفي الكبير وصديق فايز "راكان المجالي" و"محمود الكايد"، طلبوا منّي ‏أن أكتب وآخرين في مفكرة الجمعة على الصفحة الأخيرة! وكانت مقالة فايز هي الأخيرة قبل ‏النكسة بعنوان "إنها الحرب! ونحن نريدها"! وبدأنا نلتقي أحيانًا ويصرّ على إشعار مَن حوله ‏باهتمامه بي.‏

كم كُنّا جهلاء ومصدِّقين لأوهامنا وأحلامنا، وعاجزين عن تقدير ما تخطِّط له إسرائيل وأميركا، ‏تمامًا مثل الوطن العربي كله آنذاك!‏

كثيرًا ما كنتُ أضيق بامتداد الصَّمت في ساعات قراءاته الطويلة، يبتسم ويشرح ما قرأ في كتب ‏وبحوث عالمية بالإنجليزية لم تُتَرجم بعد، في الآداب والعلوم الاجتماعية والفكر والفلسفة. ‏

لم يتوقف فايز عن طلب الكتب من موقع أمازون! على الرغم من أننا نملك أكثر من عشرين ألف ‏كتاب حين جمعنا مكتبتينا، بعضها نادر ولا يمكن الحصول على نسخة منه، وظلَّ حسابه مفتوحا ‏عند أمازون حين رحل، والدفعة الأخيرة من الكتب لم تُفتح، وما زالت تنتظر ولعًا بها لم يسمح ‏به قدره! ‏

رحل فايز وهو ينتظر صدور كتاب مقابلاتي الإعلاميّة مع رموز الفكر والأدب والسياسة والفن ‏العرب، ممّا لم يُشاهِد معظمها، فقد كان في جامعة تورنتو، وظلَّ يصرُّ على إنجازه وينتظر أن ‏يحرِّره! تكلّم كثيرًا عن تصوُّره لكتاب ملوَّن يعتقد أنه سيُحدث ضجّة، اقترح بجديّة وحماسة ‏عنوانًا له "الإمتاع والمؤانسة"، ضحكتُ ورفضت!‏

‏ فايز.. الحب مثلًا؟ بل ارتباط روحين جمعهما الفكر الإنساني حين التقينا.‏

 

‏- - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) هذا العنوان عبارة عن مقطع شعري لفايز الصيّاغ.‏