ماهيّة الأنثروبولوجيا ‏ تَعريفُها ودَوْرُها

د. محمد سليمان شناق

أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية الاجتماعية

جامعة اليرموك- الأردن

 

تهدف الأنثروبولوجيا في مدارسها، وتياراتها واتِّجاهاتها المتعدِّدة إلى الكشف عن الدِّلالة الخاصة ‏بالإنسان، وتنوُّع الثقافات، وتعدُّد الأنظمة، وتوالي التغيُّرات عبْر الزَّمان والمكان. فالحقيقة ‏الإنسانيّة تشكِّل الهدف والغاية الأساسيّة في أوجه البحث الأنثروبولوجي المتنوِّعة والمتعدِّدة. ‏وبالأحرى إنَّها تبحث في الطريقة المتفرِّدة التي يتشكَّل فيها ويتبنّاها الكائن البشري في الوصول ‏إلى إنسانيّته وتحقيقها، وتَجَلّي جوهره الإنساني في دائرة الجماعة والمجتمع كونه عضوًا ينتسب ‏إليهما‎.‎

 

تشكَّلت الأنثروبولوجيا على مرحلتين، الأولى ظهرت على شكل تصوُّر فلسفي، وأخرى على ‏شكل علم مجتمعي. فالإنسان كان، منذ تكوُّن الفكر الخرافي في الثقافات القديمة، حتى نهاية ‏القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، موضوعًا فلسفيًّا، ولطالما كانت الماهية الإنسانية ‏مطلبًا حيويًّا في كل فلسفة حقيقة جادّة عبر التاريخ، وقد تبدَّت هذه الروح الفلسفية في مقولة ‏سقراط الشهيرة "أيها الإنسان، اعرف نفسك!"، وعند "جان جاك روسو" في كتابه "الإنسان ‏النبيل"، وكذلك عند الفلاسفة العرب والمسلمين الذين كان الإنسان محور الفلسفة عندهم.‏

وقد اتَّخذ هذا الهاجس الفلسفي صورًا متعدِّدة، تعبِّر عن مدى التنوُّع في التيارات الفلسفية منذ ‏القدم، ولكنه يتَّخذ اليوم صورة جديدة تتجلّى في استبصار الحقيقة الإنسانية المتفرِّدة المتجذِّرة في ‏الجماعات التي ينتسب إليها الإنسان على اختلافها وتنوُّعها‎.‎

وهذا يعني أنَّ الفلسفة الإنسانية اليوم تركِّز اهتمامها في استكشاف العلاقة الفريدة بين الفردي ‏والاجتماعي، أي بين ذاتيّة الفرد وخصوصيّته وبين الطابع الاجتماعي للوسط الذي يعيش فيه؛ أي ‏بين الخصوصيّة والغيريّة، بين الأنا والآخر في أفضل تعبير‎.‎

وفي هذا السياق يمكن القول إنَّ الأنثروبولوجيا تضرب جذورها في التاريخ الفكري للإنسانية قبل ‏أن تتَّخذ هيئة معرفة علميّة بالمقاييس الموضوعيّة التي تجلّت في المدرسة الغربية بمعنى العلم ‏الحديث ودلالته، وأدواته المبنيّة على التجربة والبرهان.‏

إنَّها تتجلّى في أدبيّات الإغريق القديمة، لا سيّما في الأوصاف التاريخية التي قدَّمها هيرودوتس ‏للثقافات القديمة بعدما قام بزيارات ميدانيّة لأكثر من ثلاث عشرة ثقافة ومجتمع، وقد أسّس أوَّل ‏متحف إثنوغرافي في التاريخ مبيِّنًا فيه التنوُّع الثقافي لهذه الثقافات، وتجلّت كذلك في تاريخ ‏الرحّالة العرب والوصف الإثنولوجي والإثنوغرافي اللذين قدَّموهما عن الثقافات الإنسانية وعن ‏الأمصار التي زاروها وتعايشوا معها وكتبوا عن ثقافاتها في كثير من الكتب والرسائل التي كانوا ‏يرسلونها إلى مركز الخلافة (المخزن)، أمثال: ابن فضلان والمسعودي والمقدسي، وغيرهم. ‏وخطّوا نوعًا من الأدب يُعرف بأدب الرحلات، مستعرضين في كتبهم صورًا إثنوغرافيّة وأدبيّة ‏راقية عن الثقافات القديمة في مشارق الأرض ومغاربها. ولكن الأنثروبولوجيا لم تشهد ولادتها ‏علمًا إلّا في القرن الثامن عشر مع انطلاقة البحث في ماهيّة المجتمعات القديمة‎.‎

يؤكِّد أحد الأنثروبولوجيين الأميركيين أنَّ الطريقة المثلى للتعريف بالأنثروبولوجيا، تتجلّى في أن ‏يقدِّم الأنثروبولوجي صورة لعملِه الميداني بصورة موضوعيّة دون تحيُّز، وبعيدًا عن إغفال نفسه ‏فيها. وخير تعريف يمكن أن يقدَّم، يتمثَّل فيما جادت به قريحة الباحثة الأميركية "مارغريت ميد" ‏‏(1901-1979) في تعريف الأنثروبولوجيا بقولها: "نحن نَصِفُ الخصائص الإنسانية ‏البيولوجية والثقافية عبر الزمان وفي كل مكان‎.‎‏ ونحلِّل الصفات البيولوجية والثقافية المحلّية، ‏كأنساق مترابطة ومتكاملة ومتغيّرة، وذلك عن طريق مقاييس ونماذج ومناهج متطورة، كما نهتمّ ‏بتحليل وتصنيف الأنساق والبنى والنظم الاجتماعية والتقنية "التكنولوجيا"، المادي والمعنوي فيها، ‏ونعنى كذلك ببحث الإدراك العقلي والصور الذهنية للإنسان ومبتكراته ومعتقداته ووسائل ‏اتِّصاله"(فهيم، 13:1986).‏

‏"يُمكننا أن نعتبرَ الأنثروبولوجيا علمًا حديثًا يقرب عمرُهُ من قرن وربع القرن تقريبًا، كما ‏نستطيع، بعين الوقت، أن نعتبرها من أقدم علوم البشر. فالجامعات لم تبدأ بتدريس الأنثروبولوجيا ‏إلا حديثًا جدًا. فقد عُيِّن أوَّل أستاذٍ لها في جامعة أوكسفورد، وهو "السير إدوارد تايلور" عام ‏‏1884، وفي جامعة كمبرج، عُيِّن الأستاذ "هادن" في عام 1900، وفي جامعة لفربول، كان ‏‏"السير جيمس فريزر" في عام 1907. وعُيِّن أول أستاذٍ لها في جامعة لندن في عام 1908، ‏وفي الجامعات الأميركيّة في عام 1886.‏

ولأنَّ الأنثروبولوجيا تعنى بدراسة النظريات التي تتعلق بطبيعة المُجتمعات البشرية، فإننا نستطيع ‏أن نعتبرها، من جهة أخرى، من أقدم العلوم. إذ هي بدأت مع أقدم تأمُّلات الإنسان حول تلكَ ‏الموضوعات. فلقد قالوا مثلًا: إنَّ المؤرّخ الإغريقي (هيرودوتس) "أبو الأنثروبولوجيا" كما هو ‏‏"أبو التاريخ"، لأنهُ وصفَ لنا بإسهاب، التكوين الجسمي لأقوام قديمة كـ(السيثيين) وقدماءَ ‏المصريين وغيرهم من الشعوب القديمة، وصوَّر أخلاقهم وعاداتهم. كما كتب المؤرخ الروماني ‏‏(تاكيتس) دراستهُ المشهورة عن القبائل الجرمانية. حتى البابليين قبل "هيرودوتس" بزمن طويل، ‏جمعوا في متاحفَ خاصة بعض ما تركه السومريون من أدواتٍ ومخلّفات. وكما هو معروف بين ‏الدارسين الاجتماعيين أنَّ ابن خلدون هو مؤسِّس علم الاجتماع العربي، إلّا أنَّنا في الأنثروبولوجيا ‏نصفه بأنّه "أبو الأنثروبولوجيا" بسبب المنهج الذي اتَّبعه في كتابة التاريخ.‏

إنَّنا نستطيع أن نعتبر القرن الثامن عشر نقطة بدءٍ مناسبة للأنثروبولوجيا. نشهد بعدها ظهور ‏العناصر المكونة لهذا العلم. فآراء "مونتسكيو" في كتابهِ الشهير (روح القوانين) عن المجتمع ‏وأسسه وطبيعته. وكتابات "سان سيمون" وإدعاؤه وجود علم للمجتمع، وآراء "ديفيد هيوم" و"آدم ‏سمث" ونظرتهما إلى المجتمعات باعتبارها تتكوَّن من أنساق طبيعية، واعتقادهما بالتطوُّر غير ‏المحدود، وبوجود قوانين لذلكَ التطوُّر، كل تلك التأمُّلات والآراء حَوَت بلا شك البذرات الأولى ‏والمكوِّنات الأساسية التي نمت في القرن التاسع عشر، فكوَّنت المدراس الأنثربولوجية الكبيرة.‏

وبعدَ مُنتصف القرن التاسع عشر بدأت الكتب القديمة في الأنثروبولوجيا بالظهور في أوروبا ‏وأميركا. وكانَ أبرز تلكَ الكتب كتاب "السير هنري مين" (القانون القديم) عام 1861 وكتابه ‏عن (المجتمعات القروية في الشرق والغرب) (1861)، وكتاب "باخوفن" عن (حق الأم) عام ‏‏1861، وكتاب "فوستل دو كولانج" عن (المدينة القديمة) 1864، وكتاب "ماكلينان" عن ‏‏"الزواج البدائي" عام 1865، وكتاب "السير إدوارد تايلور" المُسمى (أبحاث في التاريخ القديم ‏للجنس البشري) عام 1865 وكتابه الآخر عن (الحضارة البدائية) عام 1871، وكتاب "لويس ‏هنري مورجان" عن (أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية) عام 1870، وكتاب ‏‏"المجتمع القديم" في عام 1877، وكتاب فريدريك إنجلز "أصل العائلة والدولة والملكية ‏الخاصة"، في عام 1884(فهيم 1986:33).‏

كما ظهرت في الوقت نفسه مدرستان كبيرتان من مدراس هذا العلم، هما "مدرسة القانون ‏المقارن" و"المدرسة التطورية". فأفاد رجال المدرسة الأولى في الأنثروبولوجيا كثيرًا حين ‏انصرفوا إلى دراسة القانون المقارن، حيث اهتموا بصورة خاصة بالقانون القديم وقوانين ‏الشعوب البسيطة. كما تأثرَ رجال المدرسة الثانية "التطورية" بنظريات "لامارك" و"دارون" في ‏التطور البيولوجي، فأقاموا نظرياتهم في التطور الثقافي والاجتماعي على النحو نفسه.‏

وفي مطلع القرن العشرين برزت في الأنثروبولوجيا أسماء ضخمة مثل "السير جيمس فريزر"، ‏و"إميل دوركهايم"، و"راد كليف براون"، و"مالينوفسكي"، و"إليوت سميث"، و"رفرز". كما ‏ظهرت مدارس أنثروبولوجيّة مهمّة مثل: (المدرسة الانتشارية للحضارات الإنسانية) و(المدرسة ‏الوظيفية) و(الوظيفة البنيوية)، وجميعها هاجمت ودحضت "المدرسة التطورية"، هذا إلى جانب ‏‏(المدرسة البيئية)، وهي مدرسة قديمة مستمرّة الوجود.‏

إننا نستطيع أن نعتبرَ نقطة البدء الحقيقية للأنثروبولوجيا هي القرن العشرين، التي تمثلت بظهور ‏أسماء ضخمة من عباقرة الأنثروبولوجيا، إضافة إلى مؤلفاتهم في هذا الشأن. ناهيكَ عن بروز ‏المدارس الأنثربولوجية المهمّة التي ساعدت في نموّ وتطوير هذا العلم الخصب.‏

ثمة قضية معيّنة هنا، وهي أنَّ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا علمان متقاربان متشابهان، بحيث ‏‏"لا يمكن للباحث الفصل أو التمييز بينهما لشدّة تقاربهما، لذلكَ فإنه من الأنسب تعيين نقاط ‏الاختلاف بين هذين العلمين لمعرفة اتِّجاه كل منهما في الدراسات الاجتماعية"(ويكيبيديا ‏الموسوعة الحرة).‏

ويذكر أحد المفكرين الفرنسيين‎ ‎أنَّ كلمة أنثروبولوجيا ظهرت في كتابات علماء الطبيعة في القرن ‏الثامن عشر لتعني دراسة التاريخ الطبيعي العينيّة للإنسان المبني على التجريب،‎ ‎وأنَّ عالم ‏الطبيعة الألماني "بلومنباخ" كان أول مَن أدخل هذا المفهوم في مناهج التدريس‎ ‎الجامعي كما ‏استعملها في كتابه (التنوعات الطبيعية بين البشر) الذي نشر في عام 1795(الحداد والنجار، ‏‏1990).‏

ويذكر "بواتييه" أيضًا أنَّ الفيلسوف الألماني "كانط" هو الذي أشاع استعمال هذه الكلمة بعد أن ‏وظَّفها في كتابه المعروف "الأنثروبولوجيا من منظور عملي"(فهيم 15:1986). وعليه تُعرف ‏الأنثروبولوجيا من حيث الأصل والجوهر بأنها علم الإنسان أو علم الأُناسة، وهو علم يقوم على ‏دراسة الكائنات الإنسانية في سياق النظم الثقافية التي تحيط بهم على نحو كلي في المجتمع.‏

وتنطلق هذه التسمية من دلالة الأصل اللغوي لمفهوم الأنثروبولوجيا في اللغة اليونانية الذي يتكوّن ‏من دمج كلمتين يونانيّتين هما ‏‎ "Anthropos"‎‏ وتعني ‏‎"‎الإنسان" و‎"Logos"‎‏ وتعني "علم"، ‏وتأسيسًا على هذا المصدر الاشتقاقي تعرف وتترجم الأنثروبولوجيا بأنها علم الإنسان أو علم ‏الأُناسة. وهذه الدلالة لا تقف عند حدود الاشتقاق اللغوي فقط، بل تنطلق أيضًا من الدلالة ‏الموضوعية لهذا العلم الذي يجعل من الإنسان في مختلف صوره وتمثُّلاته وتجلّياته الإنسانية ‏موضوعًا لدراسته وتتبُّع التحولات والتقصي المستمر في ثقافته ‏‎(Crawitz, 1983: 18)‎‏. ‏وهي وفقًا لهذا التصوير تركِّز بالضرورة على الظروف الاجتماعية التي تحيط بالبشر وعلى ‏طبيعة العلاقة التي تربط بين الناس والوسط الذي يعيشون فيه على نحو شمولي.‏‎ ‎

وقد انطلقت الأنثروبولوجيا من دراسة المجتمعات البسيطة في بداية الأمر، وعُرِّفت بأنها علم ‏المجتمعات "البدائية" بامتياز، حيث شكّلت هذه المجتمعات الموضوع المركزي لمختلف الأبحاث ‏والدراسات الأنثربولوجية، خصوصًا في مرحلة النهوض والانطلاقة؛ وهذا ما يؤكده بعض ‏الأنثروبولوجيين بقولهم إنَّ ما يميِّز هذا العلم عن العلوم الأخرى هو تركيزه على المجتمعات ‏البشرية البسيطة "البدائيّة".‏

ونظرًا لعمليّة التمدين وانحسار المجتمعات البسيطة والتقليدية الهائل والتي شملت مختلف ‏الجماعات والثقافات والشعوب على الأرض، اضمحلَّت الجماعات البسيطة "البدائية"، وهي في ‏طريقها إلى الاختفاء والتلاشي ثقافيًّا، فتحوَّلت الأنثروبولوجيا إلى دراسة الجماعات والثقافات ‏التقليدية غير البسيطة، كالريف والقرية والبدو الرحّل والفئات الاجتماعية والأقليات الدينية ‏والعرقية، واتَّسع مجالها ليشمل مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية؛ السياسية والاقتصادية ‏والمعرفية والقيم والهويات وعمليات التنمية والتحضُّر وعمليات التنشئة والقضايا التربوية‎.‎

ويندر اليوم أن نجد قطاعًا اجتماعيًّا ينفلت من دائرة الرصد والبحث الأنثربولوجي. وفي دائرة ‏هذا الاتساع ظهرت فروع أنثروبولوجيا متعددة يصعب حصرها مثل: الأنثروبولوجيا الثقافية، ‏والأنثروبولوجيا الريفية، والأنثروبولوجيا الحضرية، والأنثروبولوجيا التربوية، والأنثروبولوجيا ‏النفسية، والأنثروبولوجيا الطبيعية أو الفيزيقية، والأنثروبولوجيا الاجتماعية، ودراسة العائلة ‏والقرابة، والأنثروبولوجيا البيولوجية، والأنثروبولوجيا السياسية، والأنثروبولوجيا التنموية، ‏والأنثروبولوجيا البدوية، وأنثروبولوجيا المدينة، والأنثروبولوجيا المعرفية، والأنثروبولوجيا ‏الطبية، والأنثروبولوجيا التطبيقية، إذْ ظهرت في عقد الثمانينات من القرن العشرين. ومع نهاية ‏القرن العشرين ومطلع القرن الحالي أي الحادي والعشرين، ظهرت الأنثروبولوجيا الرقميّة، وهي ‏في تنامي سريع ومستمرّ بحيث يصعب السيطرة على هذا المجال وعلى تشعُّباته وأدواته.‏

وبدأ كل فرع من هذه الفروع يشكّل علمًا مستقلًا بذاته، له خصائصه ومناهجه وحقله الخاص ‏ومؤسساته ودوريّاته ونشاطاته الميدانيّة‎.‎

 

وتختصّ الأنثروبولوجيا بوجه عام بعدد من السّمات الأساسيّة التي تميِّزها عن العلوم ‏الأخرى، وأهمّها‎:‎

 

تركز الأنثروبولوجيا على دراسة جماعات خاصة من حيث التكوين والوظيفة، مثل: ‏الجماعات البسيطة، الجماعات الريفية، العرقيات الإثنية، والأقليات، وتتميَّز هذه ‏الجماعات بأنها بسيطة وشفافة وصغيرة وقليلة الكثافة، ويبدو أنَّ هذا التركيز كان ‏واضحًا جدًا في مرحلة التأسيس والنهوض‎.‎

اعتماد الأنثروبولوجيا على طرق وأدوات خاصة؛ الإقامة في الميدان، الملاحظة ‏بالمشاركة والمقارنة، والوصف الحيّ للظواهر المدروسة، والدراسات المكثفة ‏لمجموعة محدّدة. وتركز على نحو خاص على البحث بالمُعايشة الذي يتطلّب اندماج ‏الباحث الأنثربولوجي في الوسط الثقافي والاجتماعي للجماعات التي تُدرس من قِبَلِه.‏

تعتمد الأنثروبولوجيا الطابع الشمولي والكلي في دراستها للمجموعات البشرية ‏الخاصة. ويركز هذا المنهج على دراسة المجتمع دراسة كلية تشمل عقائده، وشعائره، ‏واقتصاده، وسياسته وتكويناته الفيزيائية والطبيعية والتاريخية بالإضافة إلى كل ‏الأنشطة التي تنمّ عن سلوك الفرد كونه عضوًا في مجتمع.‏

 

وتعدُّ الأنثروبولوجيا بصورتها الأكاديمية أحدث العلوم الاجتماعية على الإطلاق، وقد ولدت في ‏نهاية القرن الثامن عشر في نسق من الدراسات التي خصصت لدراسة المجتمعات البسيطة ‏المنعزلة أو التقليدية القديمة، كما ذكرنا سابقًا، وقد تطورت بصورة متوازنة مع علم الاجتماع، ‏حيث تمحورت حول المجتمعات البسيطة بما عُرف عن هذه المجتمعات من تجانس وتناغم ‏وشمول، في الوقت الذي اهتمَّ فيه علم الاجتماع بدراسة الظواهر الاجتماعية المعقَّدة والمتناقضة ‏والتي أصبحت ظواهر مرضيّة تعاني منها المجتمعات المعقدة (مجتمع المدينة) مثل الإدمان، ‏والانتحار، والعنوسة، والبطالة التي تشكل مظاهر مرضيّة مبنيّة على تصوُّر وتحليل كمّي. ‏

وعلى الرّغم من الاختلاف في المنهجية وعمليات التحليل والاعتماد على التحليل الكمي في علم ‏الاجتماع، تعتبر موضوعات البحث متقاربة، فالتطور البحثي لكلا العلمين ينمّ عن تقارب كبير ‏في القضايا والموضوعات التي يجترحها كل من متخصِّصيهما، ويشمل هذا التقارب دراسة البنى ‏الاجتماعية والعمليات الاجتماعية، مثل دراسة الطقوس والظواهر الرمزية والعلاقات الاجتماعية ‏والتمثلات الاجتماعية والتصورات الذهنية والتنمية والبيئة.‏

في الماضي كانت المجتمعات البسيطة تشكِّل الموضوع الحيوي للأنثروبولوجيا، ومع غياب هذه ‏المجتمعات اليوم –كما أسلفنا- ترتَّب على الأنثروبولوجيا ومختصّيها، أن يطوروا من أدواتها ‏والبحث عن موضوعات أخرى ولكنها تحمل بعض السمات العامة لموضوعها الأساسي في ‏دراسة المجتمعات البسيطة والأوليّة والتقليديّة. وتأسيسًا على هذا الواقع فإنَّ الأنثروبولوجيا تجد ‏وحدتها في التركيز على دراسة الظواهر التي تستجمع في ذاتها خاصتي التفرُّد والشموليّة، ‏والبساطة، وهي تختلف فيما يتعلق بالكيفيات المنهجية‎ ‎التي توظفها في عملية البحث ‏الأنثروبولوجي‎(Martinez-Verdier, 2004)‎‏.‏

ويمكن في هذا السياق التمييز بين الأنثروبولوجيا الفلسفية وبين الأنثروبولوجيا التي ترتكز على ‏المبادئ والأسس العلمية؛ فالأنثروبولوجيا الفلسفية تركز على دراسة الأصول النظرية والفكرية، ‏كما توظف طاقتها النقدية والمفاهيم في تناول مختلف القضايا والمسائل الأنثروبولوجية؛ وعلى ‏خلاف ذلك فإنَّ الأنثروبولوجيا التي تقوم على الأسس العلمية تأخذ طابعًا تطبيقيًّا ‏‏"أمبيرقيًا"(تجريبيًّا)، وميدانيًّا، إذْ تعمل على تحليل الظواهر الاجتماعية بصورة ميدانية ومنهجية، ‏متمحورة على التحليل النوعي للبيانات. واستطاعت الأنثروبولوجيا العلمية أن ترتقي إلى مستوى ‏العالمية بفضل الأبحاث والدراسات المكثفة وبفضل المنهجيات المتقدمة والمتجددة التي توظفها ‏في تناول قضاياها ومسائلها الحيوية‎.‎

ومن الواضح تمامًا، أنَّ الأنثروبولوجيا تستجيب لتحديات علمية كبيرة ومعاصرة في المستوى ‏الاجتماعي والمعرفي (الأبستيمولوجي) والنظري. وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الأنثروبولوجيا قد استفادت ‏من معطيات العلوم الاجتماعية التي ترتبط معها بأواصر القرابة والتداخلية بين التخصصات مثل؛ ‏‏(علم الاقتصاد، وفلسفة التربية، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم ‏التاريخ)، ولكنها في المقابل تقدّم لهذه العلوم تصوّرات مهمة وحيوية لتطور هذه العلوم في ‏مجملها، وهي تسعى إلى تحقيق التقارب العلمي بين هذه العلوم المختلفة، للوصول إلى مقاربة ‏معرفيّة لعالم الإنسان‎.‎

 

لمحة تاريخيّة إلى نشأة الأنثروبولوجيا

يصنِّف بنيامين‎ (Penniman, T, K 1965) ‎في كتابه "تاريخ الأنثروبولوجيا في مئة عام" ‏الأنثروبولوجيا إلى خمسة أقسام: ‏

المرحلة الأولى وهي المرحلة التمهيدية التاريخية لهذا الفرع العلمي وتبدأ منذ العصور التاريخية ‏الإغريقية وتنتهي في عام 1838، وتتمثَّل هذه المرحلة بالأوصاف الأدبية للحضارات القديمة ‏والتأمُّلات الفكرية الخالصة في طبيعة الإنسان وحقيقته.‏

‏ وتأتي المرحلة الثانية في الفترة بين (1835- 1859) حيث بدأت الأنثروبولوجيا تأخذ ‏صورة معرفة علمية بطابع تأمُّلي فلسفي.‏

وفي المرحلة الثالثة أصبحت الأنثروبولوجيا على هيئتها علمًا أكاديميًّا في الفترة ما بين ‏‏(1859- 1900).‏

وتعتبر المرحلة الرابعة مرحلة التأصيل العلمي الأكاديمي والتي تقوم على الأسس العلمية، ‏وامتدَّت بين عامي (1900- 1935)‏‎.‎

أمّا المرحلة الخامسة التي بدأت عام 1935 وحتى نهاية الخمسينات من القرن الماضي، ‏فتوصف بأنها مرحلة التأصيل والتثبيت ومرحلة ظهور الفروع العلمية الجديدة لهذا العلم(فهيم، ‏‏1986).‏

ويتضمَّن تاريخ الأنثروبولوجيا نخبة من الروّاد والمفكرين الذي رسّخوا دعائم هذا العلم وأصّلوا ‏حضوره الكبير بين العلوم الإنسانية. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى "فرانس بواس" (1858- ‏‏1942)‏‎ ‎بوصفه مؤسسًا للأنثروبولوجيا الثقافية في الولايات المتحدة الأميركية، وفيها تألق نجم ‏الأنثروبولوجي المشهور"‏‎ ‎لويس هنري مورجان" (1818- 1881)، الذي يُعدُّ أول الباحثين ‏الذين نزلوا إلى الميدان الأنثروبولوجي لدراسة الظواهر الأنثروبولوجية ليقدم بحثه المشهور ‏‏"المجتمع القديم"، وبحثه المعروف "جماعات الإيركواز" (1851) و"المجتمعات القديمة" ‏‏(1866).‏‎ ‎

ومن أجل إجراء دراساته الأنثربولوجية أقام في الميدان، وكان عليه أن يعيش مع الهنود ‏‏"الإيركواز"‏‎ ‎ليصف حياتهم ويدرس ثقافتهم وعلاقاتهم وكل ما يتصل بوجودهم الإنساني ‏والثقافي، واعتمد في دراساته هذه على المناهج والأدوات الأنثروبولوجية التي رسخها "فرانس ‏بواس" (1877) و"وليام هانس ريفارز" (1864- 1922)‏‎ ‎التي اتَّصفت بدقتها وفعاليتها. وقد ‏أسهم عدد آخر من العلماء في تطوير هذا العلم فيما يتعلق بمنهجيته وأبحاثه وتطلعاته ونتائجه، ‏ويشار في هذا الخصوص إلى أعمال "مالينوفسكي" (1884– 1942) في كتابه المشهور ‏‏"الأسس الأنثربولوجية للثقافة"، الذي نشر في عام 1950، وفي بريطانيا ظهرت أسماء كبيرة ‏مثل: "إدوارد تيلور" (1832- 1917) و"رادكليف براون" (1881– 1955)، و"إيفانس ‏ريتشارد" (1873– 1817)، و"ماير فورتيس" (1906– 1983)، أمّا في فرنسا فقد كان ‏من أبرزهم "مارسيل موس" (1872– 1950) وكذلك "ليفي ستراوس" (1908– 2009)، ‏وأخيرًا "بيير بيرديو" (1934– 1977). ‏

إنَّ الأنثروبولوجيا لديها إمكانيات لسبر عمق الواقع، ودراسته دراسة عميقة جادة تمكِّن صانع ‏القرار من اتخاذ القرارات المناسبة، وتساهم بشكل فعال في تشخيص المشاكل والقضايا ‏الاجتماعية التي تواجه مجتمعنا، من قضايا متعلقة بالتغيُّر السريع الذي يطرأ عليه بفعل الأزمات ‏المختلفة والتي تحتاج إلى دراسات فاحصة ملامسة إلى الواقع الذي نعيش فيه دون الاعتماد على ‏حلول مستوردة من مجتمعات تختلف عنّا في الثقافة والعادات والتقاليد وطرق المعالجه. وهنا أودُّ ‏الإشارة إلى أنَّ دور الأنثروبولوجيا أساسي ومفصلي في التصدّي إلى جائحة "كورونا" (كوفيد-‏‏19) التي ألمَّت بمجتمعنا، ونحتاج إلى أفعال وجهود متكاملة لتحصين أنفسنا من هذا الوباء وما ‏يمكن أن يتبعه من تداعيات كارثيّة‎ ‎‏(لا سمح الله)، يجب الاستشعار بها قبل فوات الأوان. ‏

 

المراجع:‏

‏-‏ الحداد، محمد سليمان ومحمود يوسف النجار (1990)، مدخل إلى الانثروبولوجيا، جامعة ‏الكويت، الكويت. ‏

‏-‏ فهيم، حسين (1986)، قصة الأنثروبولوجيا: فصول في تاريخ علم الإنسان، عالم المعرفة، ‏العدد 98، فبراير شباط.‏

Atkinson Macmillan P., & Delamont S. & Hammersley M. (1988) ‎Qualitative Research Traditions: A British Response to Jacob”, ‎Review of Educational Research-58-2, 231-250 ‎

Crawitz Madeleine(1983)‎

‎ Lexique des sciences socials , Doloz, Paris

Herskovits Melville J. (1950)‎

‎ Les bases de Panthropologic culturelle, Paris: Francis Maspero ‎Editeur, 1967, 331 pages. Collection: Petite collection Maspero, no ‎‎106.‎

Mead M (1928)‎

‎ Coming of age in Samoa, New York, William Morrow & Co OKANO ‎K. 1997‎

Martinez-Verdier Marie-Louise.(2004).‎

‎ Approches(s) anthropologique(s) en education et en formation, ‎enjeux et defis », Trema [En ligne], 23 | 2004, mis en ligne le 04 mars ‎‎2010.‎

Penniman, T.K. (1965).‎

‎ A Hundred Years of Anthropology London: Gerald Duckworth and Co. ‎Ltd

Spindler, G.D. (1955)‎

Education and Anthropology, Stanford University Press ‎

https://ar.wikipedia.org/wiki/‎