ياسين النصير يقارب الحكاية الشعبيّة

هشام بنشاوي

كاتب مغربي

 

 

يشير ياسين النصير في كتابه "المساحة المختفية‏‎..‎‏ قراءات في الحكاية الشعبيّة" إلى أنَّ حكايتنا ‏الشعبيّة، القديمة منها والحديثة، جزءٌ من حكايات العالم، وهي بالضَّرورة أصبحت حاجة ‏فكريّة وثقافيّة استوعبها العقل الإنساني عبر التاريخ وصيَّرها إلى أداة لفهم العالم‎.‎‏ وسرّ بقائها ‏وديمومتها ليس إلا جانبًا من حاجتنا المستمرَّة لها، ولذلك فهي كغيرها تخضع لتفسيرات ‏عديدة، وتصلح لها معظم المناهج النقديّة، ويستطيع الدّارس أن يطبِّق أيّ من المناهج شريطة ‏أن لا ينسى نوعيّة الحاجات الإنسانيّة التي وظَّفت الحكاية الشعبيّة عندنا لها‎.‎

في الثقافة العربيّة النقدية عمومًا يوجد العديد من المدارس والمناهج التي درست الحكاية، لعلَّ ‏منهج "فلاديمير بروب"، ووظائفه الإحدى والثلاثين التي أحصاها في الحكاية الشعبيّة الروسيّة ‏واحد من أكثر المناهج تأثيرًا في الدِّراسات العربيّة الحديثة‎.‎

إلا أنَّ ما يُؤخذ على منهجيّة "فلاديمير بروب" أنَّها تنتمى إلى الشكل، فهو أحد مؤسسي ‏الشكلانية الروسية التي انتشرت في أوائل القرن العشرين في الاتحاد السوفياتي وامتدَّ تأثيرها ‏إلى أوروبا عن طريق حلقة براغ، وباتِّساع هذا النَّمط من المنهجيّة، اختفى المضمون تحت ‏العناصر الأكثر بروزًا على سطح الحكاية، وأعني بها الوظائف التي حدَّدها "بروب" وما ‏توصَّل إليه دارسون لاحقون من أنَّ تلك الوظائف تنطبق بدرجة أو بأخرى على العديد من ‏حكايات العالم‎.‎‏ وعندنا في الثقافة العربيّة تُعدُّ الدكتورة نبيلة إبراهيم رائدة في هذا المجال، فقد ‏طبَّقت -بحذر شديد- منهجيّة "بروب" على عدد من الحكايات الشعبيّة العربيّة فوُفِّقت إلى حدٍّ ‏كبير‎.‎

لكنَّ الجانب الآخر من منهجيّة "بروب"، وأعني به المضمون، لم يُترجم كليًّا عندنا‎.‎‏ وفي ‏إشارات مقتضبة لبعض الدارسين العرب يَرِدُ فيها أنَّ "فلاديمير بروب" قد درس سايكولوجية ‏الراوي والخلق، وما إذا كانت هناك عقبات تقف حائلًا لإطلاق الخلق الحرّ أو المقيَّد‎.‎

كما ناقش "بروب" العديد من الأفكار الاجتماعية الخاصة ببنية الحكاية، خاصة عامل البيئة ‏التي تؤثر سلبًا أو إيجابًا في نقل الحكايات وتطوُّرها‎.‎‏ إضافة لإشاراته إلى التمثُّل أو الاستيعاب ‏بين الشعوب، وإلى تنوُّع الأحداث وتفسير مهمّة الرّاوي من حكاية إلى أخرى‎.‎

وفي محاولته لاستخلاص السمات الاجتماعية التي تجعل من الحكاية عاكسة وحاملة لمراحل ‏تطوُّر المجتمعات، يرى ياسين النصير أنَّ الحكاية مهما كان نوعها تصوِّر المصير الجماعي ‏للناس، حتى ولو كان بطلها مفردًا ولغتها محليّة ضيّقة، وأهدافها فرديّة‎.‎‏ إنَّ الأدب القصصي ‏الميثولوجي منه وغير الميثولوجي، هو ثمرة المخيّلة الجماعيّة الشعبيّة، فهي ليست ابنة الدين ‏أو الطقوس التي يمارسها السحرة أو الكهّان والعرّافون، بل هي ثمرة من ثمرات العقل ‏الإنساني العامل، فكانت حاملة للخبرة الإنسانيّة عبر التاريخ، كما يشير إلى ذلك معظم ‏الدارسين‎.‎

ومجتمعنا، كأيّ مجتمع إنساني آخر، عرف الزراعة والصيد والتجارة وبناء القرى والمدن، ‏وعرف المشاعيّة وسيطرة القبيلة والأسرة، وعرف الإنتاج القبلي المشاعي، والإنتاج القائم ‏على مبدأ توزُّع الأفراد، وعرف صراع الأبناء والآباء، الكبار والصّغار، كما عرف الزواج ‏الأحادي والزواج المتعدِّد، والمصاهرة بين الأسر والقبائل‎…‎إلخ‎.‎‏ وعمومًا فهو شعب حيّ ‏ومتطوِّر، وما حكاياته إلا إحدى الممارسات الثقافيّة لنقل خبرة الأجيال العاملة‎.‎

يلاحظ ياسين النصير أنَّ معظم الحكايات الشعبيّة العراقيّة "حملت روح المبالغة، والمبالغة ‏سمة شعبيّة تفرضها طبيعة القاص نفسه، فالمخيّلة الشعبيّة بما تمتلكه من تراث ملموس في ‏البطولة والمغامرة والشجاعة والإيثار أسبغت على الصفات البشريّة سمات الخرافة والسحر، ‏فدفعت البطل لأن يحقِّق في مغامراته المثل الأعلى لعامة الناس، وهكذا نجد السحر والخرافة ‏وكل الموروث الميثولوجي، بما فيه الملاحم والبطولات، تلعب دورًا فعالًا في رسم ملامح ‏المبالغة، وصيغها الشعبيّة، ومفرداتها الحياتيّة التي هي وحدها ما يمكننا التدليل عليه ‏بالموتيفات المُتعارف عليها الآن‎.‎

فالشكل الفني للحكاية احتوى كل هذه العناصر؛ ممّا جعل القاص يلغي الفواصل بين قوى ‏الإنسان الذاتيّة وقوى الطبيعة، فوظّف الواحدة للأخرى، وسخَّر الصعاب منها لتلبية قصة حُبّ ‏أو طلب غريب‎.‎‏ ‏

وعمومًا، كما يُقال: "الموضوع هو طريقة السرد"، أي أنَّ مضمون الحكاية في مثل هذا النوع ‏هو بناؤها الفني، هو الطريقة التي تُسرد أمامنا بتفاصيل أحداثها‎.‎‏ هو ذلك الشدّ المتوتر بين ‏فعل الحاكي والسامع‎.‎‏ فالصيغة الجماليّة لهذا اللون من السرد تكمن في درجة تقبُّلنا نحن ‏لمجريات وحركة الموضوع، وبمعنى أهمّ فالمبالغة جزء من الموضوع، بل المحرِّك الأساس ‏لتفاصيل طريقة السَّرد‎.‎

وقد تكون المبالغة محفِّزة لاستنهاض بطل مظلوم، أو عادي وقد امتلك خصائص بطوليّة، ‏كالكرم والشجاعة والنبل والذكاء‎.‎‏ فهو بطل شعبي من العامّة يمثِّل بيت الحكاية كما لو كان لا ‏بديل له‎…‎

ومن خصائص الحكاية الشعبيّة أنها وقعت تحت تأثير "ألف ليلة وليلة"، حتى إنَّ بعضها نصَّ ‏على أنَّها كُتبت على طريقة "ألف ليلة وليلة". فالليالي من القوة الأسلوبية ما جعلت الحكاية ‏اللاحقة لها تحمل طريقتها دون أن تعتمد التركيبة الشاملة لها‎.‎‏ وهي فنّ متّصل الحلقات، ‏متصاعد البناء‎…‎

من وجهة نظر النصير، الحكاية الشعبيّة جملة واحدة، وهذه الجملة كما يقول "تشوفسكي" لها ‏بنيتان: بنية سطحيّة وبنية عميقة، فالحكاية كذلك لها بنيتان، هما: سطح الحكاية، وعمق ‏الحكاية‎.‎‏ ‏

وما نعنيه بالسَّطح هو شكلها، وما نعنيه بالعمق هو محتواها، فالحكاية وحدة بنائيّة واحدة، ‏للشَّكل فيها مضمون خاص به، وهو ترتيب أجزائه وفق سياق زمني داخلي‎.‎‏ وللمضمون فيها ‏شكل خاص به، هو ترتيب أحداثه وتفاعلها اجتماعيًّا وفكريًّا بعضها مع بعضها الآخر. وفي ‏ضوء المداخلة المنهجيّة بين مستويات الشكل الفرعيّة ومستويات المحتوى الفرعيّة تنمحي ‏العديد من الفوارق بين سطح الحكاية ومحتواها لدى سماعها أو قراءتها، لكنَّها في حقيقة الأمر ‏تملك مستويين للقصّ: مستوى السطح؛ أي الكلام والوقائع وتتابُع السرد، ومستوى العمق؛ أي ‏الحياة الاجتماعية لمجتمع الحكاية وتنوُّع شخوصها والأفكار التي تحرِّك كيانها، ثم الهدف ‏الفكري لها‎.‎

ولن يتَّضح سطح الحكاية وعمقها إلا من خلال التحليل، فنحن نجزم أنَّ أية حكاية هي خلاصة ‏فكرية لمرحلة آلت إلى الانهيار أو في طريقها إلى الانهيار، ممّا يصبح معه فعل الحكي عنها ‏مكتملًا، وواضحًا‎.‎‏ ولذلك نجد كل حكاية تتحرَّك بين قطبين اجتماعيين ومرحلتين زمنيّتين: ‏تبدأ في المرحلة التي يكون فيها مجتمع الحكاية في لحظة انهياره أو تدميره بفعل قوى كائنة ‏فيه، وتنتهي في مرحلة العودة بالمجتمع المنهار إلى النهوض به من جديد مع تدمير القوى التي ‏أدَّت إلى انهياره، فيصبح مجتمعًا جديدًا وقد رُمِّم، فأُعيد إلى وضع جديد‎.‎

وعلى اعتبار الحكاية جُملة واحدة، تحتوي على بنية مسطّحة نسمّيها سطح الحكاية، وبنية ‏عميقة نسمّيها محتوى الحكاية؛ فإنَّ البنية المسطّحة تشمل الإطار الأفقي للعلاقات بين ‏العناصر والوظائف، ومن مميّزات هذه البنية، الأسلوب الحكائي، وطرائق السّرد، وعدد ‏الشخوص، ونوعيّة الأفعال‎.‎‏ أما البنية العميقة فتشمل الإطار اللغوي للعلاقات بين العناصر ‏والوظائف، ومن مميّزات هذه البنية، إيجاد الترابطات العامة بين محتوى وأفكار وفلسفة وبنية ‏الحكاية وبين المجتمع الذي أنتجها‎.‎

وفي ضوء هذه البنية يمكن اعتبار هذا التقسيم قراءتين للحكاية، قراءة أفقيّة نحدِّد بها ‏الارتباطات العامة بينها وبين الأنواع الأخرى من الحكايات، وبالتالي تحديد هويّتها والمجتمع ‏الذي أنتجها والتاريخ الذي ظهرت فيه، ثم قراءة عموديّة توضِّح الأساس المشترك بينها وبين ‏الحكايات الأخرى لدى هذا الشَّعب أو ذاك‎.‎

يُعتبر منهج "فلاديمير بروب"، بحسب وجهة نظر النصير، أكثر المناهج ملاءمة لدراسة ‏الحكايات الشعبيّة، شريطة أنْ يُحدِثَ الدّارس فيه بعض التحويرات في الوظائف وفي ‏العناصر؛ فالمنهج من السّعة ما يمكنه أن يشمل حكايات عربيّة مختلفة الأنواع، إلا أنَّ ذلك لا ‏يمنع من أن يسعى الناقد الأدبي إلى اعتماد اجتهادات خاصة به لدراسة هذه الحكاية أو تلك، ‏وفق هذه الطريقة أو تلك، واعتبار ما قام به يقع في باب الاجتهادات، وعدم السَّعي لتكوين ‏منهج كبير بين المناهج المعروفة‎.‎

والدّافع الأساس إلى خطوته هاته أنَّ هذه المناهج تعتمد على اتجاهات متباينة، فهي كلها تقريبًا ‏تنتمي إلى دراسة الشكل الفني، باستثناء منهج "بروب"، الذي يصل بين الوظائف والعناصر، ‏ومنها أنَّ الحكايات لا تدرس العصر الذي انتمت إليه الحكاية دراسة مقارنة بما يرافقها من ‏نشاط فكري واقتصادي واجتماعي، ومنها أنَّ المناهج المذكورة لا تحاول توظيف الحكايات ‏لاحقًا، لأنَّها لم تعالجها وفق نظرة تربط ما بين المُنتِج لها والمُستهلِك‎.‎

وفي ضوء ذلك، بدأ محاولاته متقصِّيًا لجانبين مهمَّين:‏

‏-‏ الحكايات الشعبيّة في العراق وفي البلاد العربيّة لا بدَّ لها أن تحمل الخصائص الفلسفية ‏للمجتمع الذي أنتجها، فالفلسفة العربيّة القائمة على علوم الكلام والأدب والاقتصاد ‏والسياسة لا بدَّ لها أن تبني بعض أجزاء بيت الحكاية الشعبيّة‎.‎

‏-‏ الحكايات الشعبيّة في العراق وفي البلاد العربيّة، جزء من التاريخ الاجتماعي العام، ‏فهي أساس ثقافي مهم في ترسيخ قيم المجتمع وعاداته وتقاليده وانتشار ذلك كله في ‏أمصار وبلدان أخرى‎.‎

إنَّ أدب أيّة أمّة حيّة ينعكس بتطوُّر داخل نتاج هذه الأمّة‎.‎‏ ولمّا كانت الحكاية من الأساليب ‏الأدبيّة والثقافيّة القديمة، فقد حملت خصائص وسمات هذه الأمّة، ولمّا تطوَّرت الحياة وتعدَّدت ‏سُبُل الثقافة والكتابة، بقيت تلك الخصائص موظَّفة في هذا التنوُّع الجديد‎.‎‏ لذلك فالبحث النقدي ‏في الشعر أو القصة أو المسرحية سيجد نفسه غنيًّا باكتشاف تلك الخصائص فيما لو تتبَّع ‏تطوُّرها في الحكاية‎.‎‏ لذلك نجد أنَّ أيّ نتاج إبداعي لا بدَّ وأن يحمل ما حملته الحكاية من ‏وظائف وعناصر بنائيّة، وإنْ أحدَثَ التطوُّر عليها تغييرات جوهريّة‎.‎