حوار مع الباحث العُماني خميس بن راشد العدوي

حاوره: جعفر العقيلي

كاتب أردني

 

 

يُفرّق الباحث العُماني خميس بن راشد العدوي بين المنظومتين الإيمانيّة والعقديّة، من حيث أنَّ ‏المنظومة الإيمانيّة تتكوَّن من عناصر ثلاثة هي النفسي والمعرفي والاجتماعي، وهي قارّة في ‏النفس والذهن الإنساني، وتتَّسم بأنَّها متحرِّكة ومتجدِّدة وديناميكيّة باستمرار. أمّا المنظومة العقديّة ‏فتتشكَّل من العنصر المعرفي فقط، وهي جامدة من حيث التَّدوين ومن حيث التَّأثير، لأنَّ ‏النصوص الدينيّة هي المكوِّن الأساس لها.‏

 

يَرى الباحث العُماني خميس العدوي أنَّ المؤمن إذا لم يستطع أن يوائم بين معتقده وإيمانه، ‏فإمّا أنه يجمد ويتحوّل إلى مؤمن سلبي، أي غير متفاعل مع إيمانه، إلّا في الحدود الدنيا من ‏التفاعل، أو أنه يتحوّل إلى معتقَد آخر، يراه أكثر انسجامًا مع منظومته الإيمانية، أو أنه ‏سيلجأ إلى تأويل معتقداته ونصوصها بحيث تنسجم مع تطور منظومته الإيمانية، والتأويل ‏هو "دم الحياة في شرايين وعروق المعتقدات والنصوص المكوِّنة لها".‏

ويشدِّد العدوي على أهمية تطوُّر أو تطوير المنظومات الإيمانية في المجتمعات، وذلك لكي ‏تعيش هذه المجتمعات مع بعضها بعضًا بسلام وتسامح وانسجام، لأنَّ التفاعل الاجتماعي ‏خصيصة بشريّة، الحاجة إليها تفوق الحاجة للتفاعل الإيماني. فإذا كان التفاعل الاجتماعي ‏حتميًّا، فإنَّ التفاعل الإيماني ضروررة لا غنى عنها.‏

ويلفت العدوي إلى أنَّ القيمة العليا للإيمان ليست الحفاظ على الهُوية، وإنَّما هي الحفاظ على ‏الأخلاق الإنسانية وتحقيقها على أرض الواقع بين البشرية، فالهُويّات متغيِّرة والإيمان ‏متطوِّر، وقد يأخذ كلٌّ منهما طريقه على حدة، فلا يصبح الإيمان بالضرورة متوافقًا مع ‏الهُوية، فعلى الإيمان أن ينتصر للأخلاق بالمقام الأوَّل.‏

ويرى العدوي أنَّ القلق في المجالَين الإيماني والمعرفي أمرٌ إيجابيّ في الغالب. فالقلق في ‏المنظومة الإيمانية يعني "الدينامو" الذي يحركها، وهو يدفع بالمؤمن لتحقيق أفضل ما يجب ‏التحلي به من الأخلاق؛ التي هي مقصد الإيمان الأول، ويدفعه إلى تطبيقها على أرض الواقع.‏

وحول الفرق بين العلم والدين، يوضِّح العدوي أنَّ العلم منظومة معرفيّة، أمّا الدين فمنظومة ‏شاملة تتكون من مجموعة من المنظومات، منها: الإيمان، والاعتقاد، والاجتماع، والدولة، ‏والتاريخ، ونحو ذلك. وهنا يكمن الفرق بينهما، فالعلم لا يتعارض مع منظومة الإيمان؛ لأنَّ ‏الإيمان منظومة قيمية أخلاقية دافعة للعمل الصالح وفعل الخير للإنسانية، لكنه قد يتعارض ‏مع الدين، لأنَّ الدين يتكوَّن من العديد من المنظومات ذات الصبغة المعرفية، فالإيمان غير ‏معنيّ بإعطاء معرفة حول كروية الأرض مثلًا، لكنه معنيّ عندما تبحث بأن تكون صادقًا ‏موضوعيًا، بينما الدين في محدّداته المعرفية قد لا يقول بكروية الأرض، وهنا يقع التعارض ‏مع العلم، من حيث المكوّن المعرفي للدين، وليس الإيماني.‏

يُذكر أنَّ العدوي درس أصول الدين، وتخرّج في جامعة السلطان قابوس، رأس الجمعية ‏العمانيّة للكتّاب والأدباء، وله مؤلفات وبحوث منشورة، منها "الإيمان بين الغيب والخرافة"، ‏‏"رواية الفرقة الناجية.. المنطق والتحليل"، "السنّة، الوحي، الحكمة"، "سنّة الله في غير ‏المسلمين" و"الوحدة الإسلامية".‏

تاليًا حوار مع العدوي حول رؤاه في الثقافة والفكر والإيمان والدين:‏

 

 

‏* ترى أنَّ الإيمان في الأصل أمر ذهني، أي أنه لا ينحصر في الجانب المعرفي، وإنما يشمل ‏المنظومة النفس- اجتماعيّة التي يسير عليها الإنسان في الحياة، والتي تتطور وفق التطور ‏الاجتماعي والمعرفي للمجتمع الذي يحتكّ به المؤمن. هلّا أوضحتَ لنا هذا الأمر بشكل ‏مبسّط؟

‏- الإنسان ابن بيئته، ولا يتشكّل في ناحية من نواحي حياته مستقلًّا عن مجتمعه، والإيمان الذي ‏هو أحد مكونات الإنسان، لا يمكن أن يتكوّن بشكل مستقل، وإنَّما هو حصيلة اندماج ثلاثة ‏عناصر رئيسة؛ هي: العنصر النفسي، والعنصر المعرفي، والعنصر الاجتماعي.‏

أمّا العنصر النفسي فليس إلا أفكارًا ومعارف تؤثر في الجهاز العصبي للإنسان، والجهاز ‏العصبي من الناحية البيولوجية قطع فيه العلم شوطًا طويلًا للكشف عنه واكتناه آلية عمله، بينما ‏ما تزال الدراسات فيه من الناحية النفسية قليلة، نحن نعرف –مثلًا- كيف يُصاب الجهاز ‏البصري بالعطب، لكنَّنا نجهل كيف تؤثِّر صورة ما في هذا الجهاز فيشعر الإنسان بالسُّرور أو ‏الحزن أو باللا مبالاة. العنصر النفسي أساس أصيل في تكوين الإيمان، فالطقس الإيماني الذي ‏تؤدّيه برغبة وولهٍ تجاه معبودك، قد يثير سخط متعبِّد آخر واشمئزازه، وقراءة نص ديني تؤمن ‏به يدفع بكَ إلى التأثُّر العميق، بينما لا يعني لغيركَ شيئًا. من هنا أرى أنَّ العنصر النفسي تتشكل ‏به منظومة الإيمان، وهو عميق وخفي -حتى الآن- في النفس الإنسانية. لذلك ستقف عاجزًا مثلًا ‏أمام فهم عالم في الفيزياء أو الطب، بينما منظومة معتقداته تحتوي على العديد من الجوانب ‏الخرافية التي لا تستسيغها أنت بعقلك.‏

وأقصد بالعنصر المعرفي؛ تلك المعرفة التي يتحصّلها الإنسان بطرق شتّى، وفي مقدمتها ‏القراءة، فهي جزء أساس في تشكيل منظومة إيماننا، لكنّ هذا الجزء سيكون آنيًا ومتحوّلًا، فلا ‏شيء غيره يثبّت المعالم المحدّدة للإيمان، وقد أدركَتْ الأديانُ الكبرى هذه الحقيقة، فثبَّتت معرفتها ‏الدينية عبر كتبها المقدَّسة، ممّا جعل منظومة إيماننا امتدادًا طويلًا لتلك المعارف المدوَّنة.‏

وكي نعرف أهميّة العنصر الاجتماعي، علينا أن نعرف أنَّ الدين هو تفاعل اجتماعي، الدين –‏حتى- بشقِّه التَّنزيلي هو استجابة لفعل الاجتماع البشري، وأيضًا توجيه له، وإعادة بناء للمجتمع ‏بما يتوخى الدين أنه هو الأنسب لراهنه. فنحن البشر كائنات اجتماعية قبل أن نكون كائنات ‏متديِّنة، وما قام الدين إلّا على لبنات الاجتماع، وعلى ذلك فالعنصر الاجتماعي يشكّل بنية صلبة ‏في منظومة الإيمان.‏

هذه العناصر الثلاثة؛ النفس والمعرفة والاجتماع، تشكّل الذهنيّة المؤمنة، وبمقدار وقوفنا على ‏أبعاد هذه العناصر نكتشف جانبًا مهمًّا من منظومة الإيمان، وإنْ ظلَّت دوافع الإيمان -حتى الآن- ‏خفيّة، وذلك لخفاء تكوُّن المشاعر والوجدان عمومًا في النفس الإنسانية. والأديان نفسها لا تنكر ‏هذا الخفاء، بل تعترف به، وتنصّ عليه، فالشق الغيبي -مثلًا، وهو شق واسع- من الدين يتطلَّب ‏التَّسليم، ويطلب من العقل أن يكفّ عن إدراك كنهه.‏

 

‏* أنتَ تفصِل بين المنظومة العقديّة والمنظومة الإيمانيّة. ما الفرق بين المنظومتين؟ وما ‏العلاقة أو أوجه التداخل بينهما؟

‏- إذا كانت منظومة الإيمان تتكوّن من عناصر ثلاثة؛ النفسي والمعرفي والاجتماعي، فالمنظومة ‏العقديّة تتشكَّل من العنصر المعرفي فقط، وهي تتمثل في تدوين مقرَّرات الاعتقاد، فالنصوص ‏الدينيّة هي المكوّن الأساس للمنظومة العقديّة، أمّا المنظومة الإيمانيّة فهي قارّة في النفس والذهن ‏الإنساني، فهي متحركة وديناميكية باستمرار، بينما المنظومة العقديّة جامدة من حيث التَّدوين، ‏ومن حيث التأثير.‏

وأوجُه التداخل بين المنظومتين؛ أنَّ المنظومة العقدية هي العنصر المعرفي من عناصر الإيمان، ‏وبه أيضًا تتحدد الهُوية الجمعية للمؤمنين، فللمعتقدين بالنصوص الإسلامية مثلًا نقول: هؤلاء ‏مؤمنون بالإسلام. وللمعتقدين بالنصوص المسيحية نقول: هؤلاء نصارى. وهكذا. وهي أيضًا ‏تشكّل العقل الطولي للمؤمنين، حيث يظل المؤمن مأسورًا بمعتقده؛ ذلك المعتقد الذي نشأ وتشكّل ‏في الزمن الغبار.‏

 

‏* أيّ أهميةٍ ينطوي عليها التدوين للمعتقدات ومصطلحاتها؟

‏- التدوين يحفظ الهُوية الجمعية لمعتقد المؤمنين، ويشكل العقل الطولي للمؤمنين، أي أنَّ المؤمن ‏في أي وقت يعدّ معتقده امتدادًا لاعتقاد أسلافه. وبالإضافة إلى ذلك؛ تكمن أهمية تدوين المعتقدات ‏في البحث التأريخي للأديان، حيث يتمكّن الباحث من تتبُّع تطوُّر المعتقد، سواء تطوره في الدين ‏الواحد، أو من خلال تطوره في الأديان عمومًا، لأنَّ الباحث لا يمكن أن يتعرف على إيمان ‏الشعوب إلا من خلال ما يصله من تدوين لمعتقداتها.‏

 

‏* هناك مَن يرى أنَّ مفهوم الإيمان ثابت، بينما ترى أنتَ أنه متجدِّد. كيف يتجدَّد الإيمان، ‏وأيّ عوامل تؤثِّر في مفهومه؟

‏- المعتقد جمعيّ، أمّا الإيمان فشخصي؛ وإن كان للجماعة تأثير عليه. والمعتقد ثابت من خلال ‏التدوين المعرفي له، بينما الإيمان يتكون بالإضافة إلى العنصر المعرفي؛ الذي هو تثبيت للمعتقد، ‏من عنصرين متحركين بديناميكية فاعلة: العنصر النفسي الذي يتطور من خلال المراحل العمرية ‏للإنسان، وما يكتسبه من معارف وخبرات وتجارب ومن خلال سياقه الاجتماعي، الذي هو ‏عبارة عن علاقات متشابكة ومتفاعلة باستمرار، فلكلّ هذا أرى أنَّ الإيمان متجدِّد باستمرار.‏

 

‏* ترى أنَّ قضية الإيمان فردية وجماعية في الوقت نفسه، وأنَّ المنظومة الإيمانية للفرد ‏ونظيرتها الجمعية تشتغلان معًا باتجاهين متعاكسين. ما الذي يحدث عندما تتجاوز المنظومة ‏الفردية المنظومة الجمعية. ألا يحدث تصادمٌ؛ له ما له من آثارٍ سلبية؟

‏- قضيّة الإيمان هي فرديّة وشخصيّة فعلًا، حيث إنّها تتحدّد وتتفاعل داخل ذهن الفرد، وبمقدار ‏هذا التفاعل يتحرك الإنسان بإيمانه في الاجتماع البشري، لكن الإيمان شأنٌ جمعيّ أيضًا، وذلك ‏لكون العنصر المعرفي واحدًا من مكوّناته، وهو عنصر ثابت يتلقاه مجموع المؤمنين، فعناصره ‏العامة تجدها متوزّعة لدى إيمان هذا المجموع، كما أنَّ التفاعل مع الإيمان يُذكى وتشتد حماسته ‏عندما يُمارَس في إطار الجماعة.‏

ولأنَّ المُعتَقَد ثابت وجامد، وهو مكوّن من مكوّنات منظومة الإيمان، التي هي بطبيعتها متحركة ‏بفعل العنصرين الآخرين؛ النفسي والاجتماعي، سيجد المؤمن نفسه يصطدم مع بعض مكوّنات ‏هذا الاعتقاد، وربّما مع أغلبه أو كله، ولذلك إذا لم يستطع المؤمن أن يوائم بين معتقده وإيمانه، ‏فإمّا أنه يجمد ويتحوَّل إلى مؤمن سلبي، أي غير متفاعل مع إيمانه، إلّا في الحدود الدنيا من ‏التفاعل، أو أنه يتحوَّل إلى معتقَد آخر، يراه أكثر انسجامًا مع منظومته الإيمانية، أو أنه سيلجأ إلى ‏تأويل معتقداته ونصوصها بحيث تنسجم مع تطوُّر منظومته الإيمانية، والتأويل هو دم الحياة في ‏شرايين وعروق المعتقدات والنصوص المكوّنة لها.‏

 

‏* تقترح في أطروحاتك أنْ تطوِّر المجتمعات المؤمنة من آليّات تعاملها مع المؤمنين ‏المختلفين مع منظومتها الإيمانية بما يستوعب المنظومات الفردية. هل هذا ممكن الحدوث ‏واقعيًّا في منطقتنا؟ هل هناك نماذج مُشرقة في هذا المجال يمكن الاقتداء بها في الإطار ‏الإنساني؟

‏- تطوُّر أو تطوير المنظومات الإيمانية في المجتمعات مهم جدًا، وذلك لكي تعيش مع بعضها ‏بعضًا بسلام وتسامح وانسجام، لأنَّ التفاعل الاجتماعي خصيصة بشريّة، ضرورتها تفوق ‏الحاجة إلى التفاعل الإيماني، وأستطيع القول إنَّ التفاعل الاجتماعي حتمي، بينما التفاعل الإيماني ‏ضروري. وكثير ممّا نراه من انسجام داخل المجتمع المؤمن بمنظومة واحدة، ليس راجعًا إلى ‏الإيمان نفسه بالمقام الأوّل، وإنَّما إلى التفاعل الاجتماعي.‏

هذا التطوير لمنظومات الإيمان هو عمل طبيعي، بل قُل: هو تطوُّر، تقوم به المجتمعات بصورة ‏آلية يوميّة، ولا يحصل النشاز والصراع الذي نراه في المجتمعات بسبب المنظومات الإيمانية، إلّا ‏بفعل السياسة، والسياسة تفعل ذلك بإثارة الصراع المذهبي، بحيث إنَّ كل مذهب يأزر إلى ‏ماضيه، مستدعيًا التدوين المعرفي للمعتقدات، وذلك بغرض الموازنات الاجتماعية التي تتلاعب ‏بها السياسة، أو للحشد لمواجهة ظروف خارجية. وكذلك بإحياء المنظومات التراثية للمعتقدات، ‏حتى تحصِّنها من التأثُّر بالمجتمعات الأخرى المتمتِّعة بالحرية والديمقراطية، فليس شيء يخيف ‏المجتمعات المؤمنة أكثر من تأثرها بالكيانات البشرية الأخرى التي تراها ضالّة وكافرة، ‏فالسياسي يلجأ إلى التخويف من الحرية باستدعاء مفاهيم الماضي الديني، التي هي -على كل ‏حال- قد نشأت في ظل الاستبداد، وإن اصطبغت بالدين ولبست لبوسه.‏

على أنَّ منظومة الإيمان الفردية قد تتطور بصورة أسرع أو مغايرة لمنظومة الإيمان الجمعية، ‏وهذا حادث ضرورةً، بسبب أنَّ كل فرد له محدِّداته المعرفية وطريقة تعامله الاجتماعي الخاصة ‏به، وأيضًا بسبب التثاقف بين المجتمعات، لذلك على منظومة الإيمان الجمعية أن تستوعب ‏بالتسامح كل منظومات الإيمان الفردية، وألّا تصادر حقها في الوجود بالتعبير عن نفسها، لأنَّ ‏هذا حق إنساني أصيل، مكفول بطبيعة الوجود، وأيضًا لأنَّ الإقصاء وعدم الاستيعاب قد يؤدّي ‏إلى قلق اجتماعي، وربّما تحوّل مع تكاثر النماذج وصلابتها إلى اضطراب في المجتمع.‏

 

‏* في كتابك "رواية الفرقة الناجية.. المنطق والتحليل"، تَرى أنّ الفِرَق الكلاميّة تنظِّر للعقائد ‏وليس للإيمان، انطلاقًا من أنَّ عملها معرفي ولا يراعي الجانب النفسي لإيمان الفرد ‏والجماعة في الغالب الأعمّ. وتَرى أيضًا أنَّ العمل الكلامي يساهم بطريقة أو بأخرى في تعديل ‏المنظومة الإيمانية للفرد والجماعة‎.‎‏ في ضوء هذا، هل يمكن للتَّنظير والجدل الكلامي أن ‏يحافظا على الهُويّة الكليّة لمعتقدات الجماعة؟

‏- أوَّلًا علينا أن نعترف بأنَّ القيمة العليا للإيمان ليست الحفاظ على الهُوية، وإنَّما هي الحفاظ على ‏الأخلاق الإنسانية وتحقيقها على أرض الواقع بين البشرية، فالهُويات متغيِّرة والإيمان متطوِّر، ‏وقد يأخذ كلٌّ منهما طريقه على حدة، فلا يصبح الإيمان بالضرورة متوافقًا مع الهُوية، فعلى ‏الإيمان أن ينتصر للأخلاق بالمقام الأوَّل.‏

وبالنسبة للمعتقدات؛ فنعم.. الجدل الكلامي من مهامه الأساسية الحفاظ على الهُوية الكليّة لها، ‏ولكن الإيمان ليس هو المعتقد، بل يلتقي معه في جانب ويختلف معه في جوانب أخرى، وعلى ‏ذلك فعلم الكلام لا ينظّر للإيمان إلّا بمقدار الجانب المعرفي الثابت من المعتقد الذي هو أحد ‏مكوِّنات الإيمان.‏

فعلى الجدل الكلامي هو الآخر أن يطوّر من طرائقه، بحيث يجعل من المعتقد متواكبًا مع الإيمان ‏في تطوره، وهذا يتأتّى عن طريق آلة التأويل، التي استخدمها المتكلمون كثيرًا، بيْد أنهم ‏استخدموها في سبيل الانتصار للعقائد، ولم يُستخدَم التأويل في المواءمة بين المعتقد والإيمان إلّا ‏لصالح المعتقد، وليس لصالح الإيمان، إلّا أنَّ المعتقد لا يمكن أن يصمد أمام الواقع إن لم يتجدَّد، ‏وتجدُّده لا يحصل إلّا بآلة التأويل، بعكس الإيمان الذي يكون تجدُّده ذاتيًّا داخل النفس الإنسانية، ‏وتلقائيًّا، ولا ينتظر التأويل أو غيره.‏

 

‏* هل نستطيع عزل التجربة الإيمانية عن المعرفة التي يكتسبها الإنسان في الحياة. هل هذا ‏ممكن واقعيًّا؟

‏- لا يمكن فصل الإيمان عن المعرفة، فهي مكوِّن أساس له، والفصل بينهما غير واقعي تمامًا. ‏الإنسان لديه القدرة على الاختيار، ولذلك ليس كل المعرفة التي يكتسبها الإنسان في حياته تصبح ‏مكوِّنة لإيمانه، وليس لكل مفاهيم وعناصر المعرفة التأثير نفسه -لا كمًّا ولا نوعًا- على الإيمان، ‏فذهن الإنسان انتقائي، وأيضًا تراكمي ومتسلسل في الاختيار، وفي حالة موجيّة ومتداخلة، فهو ‏كل مرَّة يسمح بولوج مفردة أو حزمة معرفيّة إلى إيمانه، وقد يقبل اليوم ما رفضه أمس، أو ‏يرفض ما قبله منذ مدة، وهكذا، كل ذلك بحسب الوضع الإيماني الذي يعيشه.‏

 

‏* تقول إنَّ القلق هو أحد عناصر المنظومة الإيمانية، وإنَّه محرّك لها ويعمل على بنائها. هل ‏يمكنك توضيح هذا؟

‏- كثير من الناس يفهمون القلق في المجال الإيماني، وكذلك في المجال المعرفي، بأنه أمر سلبي، ‏بينما هو في الغالب أمرٌ إيجابيّ. القلق في المنظومة الإيمانية يعني الدينامو الذي يحرّكها، فإذا ‏عرفنا أنَّ العنصر النفسي هو أحد مكونات منظومة الإيمان، والقلق جزء من النفس الإنسانية، ‏فهذا يعني أنَّ القلق حاضر دائمًا في حقل الإيمان، لكنه في الأساس إيجابي؛ لأنه يدفع بالمؤمن ‏لتحقيق أفضل ما يجب التحلي به من الأخلاق؛ التي هي مقصد الإيمان الأول، ويدفعه إلى ‏تطبيقها على أرض الواقع، كما يجعل النفس حسّاسة تجاه الجمود في ظل متغيرات الحياة، فيدفع ‏بالإيمان نحو التطور والانسجام مع متطلبات هذه الحياة.‏

هناك بالطبع قلق سيئ للإيمان، وسْواسيّ قاهر وقاتل؛ وذلك عندما يدفع المعتقَدُ صاحبَهُ إلى ‏الإضرار بالآخرين، أو إقصائهم، أو تصفيتهم، أو إرغامهم على تطبيق معتقده. ‏

نحن الآن بسبب الأوضاع السياسية التي تمرُّ بها المنطقة وإدخال الدين والمذاهب في لعبتها ‏ومعاركها، نلمس الجانب السيئ من القلق في الإيمان، وكذلك نلمسه من قلق المتديِّن بسبب الحملة ‏الكبيرة ضدّ التديُّن، التديُّن غير البريء من إثارة الاضطرابات في المنطقة وبين شعوبها، بيد أنَّ ‏علينا ألّا نكون حبيسي هذا الواقع، وأنْ نمدَّ بصرنا بصورة أعمق إلى مفهوم الإيمان وحقيقته ‏ومقاصده الأخلاقية العليا.‏

 

‏* تنظر إلى شيوع الخلافات الكلامية على أنه مفيد ويفتح لآفاق أرحب، لكن ما يحدث في ‏راهننا العربي يكشف عن حجم العنف اللغوي والبدني المصاحب لهذه الخلافات. ألا تتفق ‏معي أنَّ النظريةَ في مكان بينما التطبيق في مكان آخر. ثم ما العمل لحلّ هذه الإشكاليّة؟

‏- إذا كنتَ تقصد النظرية الكلامية التقليدية؛ فالتطبيق يعمل وفق النظرية، ولا تناقض بينهما، لأنَّ ‏الخلافات الكلامية ناشئة عن العنف اللغوي والبدني أصلًا، أي الصراع السياسي المصحوب ‏بالاقتتال.‏

أمّا إذا كنتَ تقصد التنظير الذي أطرحه وهو أنَّ الخلافات الكلاميّة تفتح آفاقًا أرحب للمنظومة ‏الإيمانيّة، بل وحتى للمنظومة العقديّة، وللاجتماع البشري، فنعم؛ تنظيري في جانب، والواقع في ‏جانب آخر، لأنَّ الواقع قائم على التنظير التقليدي لعلم الكلام "العنيف"، لكن المفترَض من المنظِّر ‏ألّا ينظّر تبريرًا للحاصل، وإنَّما ينظّر لما ينبغي أن يحصل. فالخلافات الكلامية بين المذاهب -‏بعيدًا عن العنف والمصادرة- تكشف عن تفاعل الأفكار في ظلِّ تداول الاجتماع البشري لها، ممّا ‏يثري المعرفة، ويطوِّر مناهج التعامل النفسي والاجتماعي والسياسي لظاهرة الدين بأسره، وكذلك ‏يرصد ظاهرة التفاعل بين الدين والدولة، وبين المؤمن والمؤمن الآخر، وبين المؤمن والجماعة ‏المؤمنة، وهكذا.. تتحوَّل الخلافات الكلاميّة إلى ثراء معرفي يفتح آفاقًا رحبة، قد تكون غير ‏مكشوف عنها من قبل.‏

 

‏* ما ردود الفعل التي أثارها كتابك "الإيمان بين الغيب والخرافة"؟

‏- كتاب "الإيمان بين الغيب والخرافة" هو عمل مشترك بيني وبين الباحث خالد الوهيبي، ‏وأطروحته الرئيسة هي الفصل ما بين دائرة الغيب ودائرة الخرافة، إذ إنَّ دائرة الغيب الإيمانية ‏هي دائرة خفيّة على الحس، وتُجاورها دائرة أخرى متوهمة هي الخرافة، وهما دائرتان متداخلتان ‏في المنظومة الإيمانية، فجاء الكتاب ليفصل بين هاتين الدائرتين؛ عبر قسمين: الأوَّل خصصناه ‏للقواعد النظرية التي يفصل بها بين الدائرتين، والقسم الثاني خصصناه للمعالجة التطبيقية ‏وضرب الأمثلة.‏

ومن الطبيعي لأيّ دراسة تلمس منطقة الغيب في الدين والمنطقة الوهمية في التديُّن أن تثير ردود ‏فعل، بل من الواجب أن تثير ذلك، وعدم إثارتها ردودَ الفعل يعني أنَّ الدراسة لم تلمس المنطقة ‏المقصودة، وبالتالي لم تحقق الغاية التي تسعى إليها.‏

ردود فعل كانت متوقَّعة وفي حدود طبيعة الوضع الاجتماعي، ممّا أعطى الكتاب دعمًا معنويًّا، ‏فانتشر بين الناس، وحقق الكثير من أهدافه، حيث أصبح لدى القارئ المسلم تمييزٌ بين دائرة ‏الغيب التي هي من صميم الإيمان، وبين دائرة الخرافة الوهمية، المجاورة لدائرة الغيب في العقل ‏البشري، وضرّتها المضادة لها، والمشوّشة عليها، فأصبح لدى قارئ الكتاب حسّ التمييز بين ‏الغيب والخرافة، وهو مكسب -فيما أرى- لصالح قضية الإيمان بإطارها الإسلامي.‏

 

‏* من كتبك المهمّة إلى جانب "الفرقة الناجية"، واحدٌ بعنوان "سنّة الله في غير المسلمين‎"‎‏. ‏حدّثنا عن فكرته الرئيسة وإلى ماذا خلصت فيه؟

‏- هو رسالة مختصرة في سبيل الإخاء الإنساني ونبذ التعصُّب الديني بين الناس، حاولتُ فيها أن ‏أعيد قراءة العلاقة بين المسلم وغيره، وفق رؤية تسامحيّة، أراها هي رسالة الدين الأساسية، ‏متجاوزًا الطرح التقليدي القائل إنَّ الإسلام يوجب على غيره الدخول فيه، وخلصت إلى أنَّ ‏الإسلام يعدّ غير المسلم إنسانًا كاملًا حرًا في اختيار دائرة الإيمان التي يلتزم بها.‏

والكتاب صدر في عام 2007، وهو يعدّ رؤية مبكرة بالنسبة لي في قراءة العلاقة بين المسلم ‏وغيره، ورؤيتي الآن ربّما تكون أفضل لصالح الإخاء الإنساني الذي هو من صميم قيم الإيمان، ‏متجاوزًا المشكل العقدي، الذي لا يعني بالضرورة تمثيل مقتضيات الإيمان.‏

 

‏* أصدرت كتابًا بعنوان "الوحدة الإسلامية‎"‎‏. هل ثمة أفق لهذه الوحدة، ومتى، في ظلّ ‏التشرذم الذي يسيطر على المشهد؟

‏- هذا كتاب أصدرته عام 2000، ضمن إطار المراجعات الفكرية للدين، وكذلك نُشر من قِبَل ‏‏"مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية" بإيران. وقد حاولت فيه أن أقرأ الوحدة الإسلامية ‏بواقعية، باحثًا من خلال المعرفة الدينية في المذاهب الإسلامية عمّا يمكن أن يقرِّب ويؤلِّف بينها، ‏ودعوت من خلال ذلك إلى الوحدة الإسلامية، وإلى ترك الألقاب المذهبية والتسمّي بالإسلام ‏فحسب.‏

أمّا بما أنكَ سألتني: هل ثمّة أفق للوحدة الإسلامية؟ فلا أظن ذلك، خاصة بحسب الوضع الذي ‏تركّبت عليه المذاهب، وما وصلت إليه من تناحر واقتتال. وحتى لو افترضنا أنَّ مناهج تفكير ‏المسلمين اختلفت، وزال ما بينهم من شقاق وشحناء، وحل محلّ ذلك التسامح والتراضي، ‏فالإسلام جاء دينًا إنسانيًا، لا يتطلب أن يكون البشر كتلة واحدة، وإنَّما يطلب منهم تطبيق ‏الأخلاق الإنسانية، فلا يعتدي أحد على أحد، وأن يتعاونوا على البر والتقوى، فلا بأس أن تعيش ‏كل مجموعة بشرية بحسب رؤيتها ومصالحها وقدراتها، فالتعدُّد أصل في الإنسانية، وإنَّما ‏المطلوب المودَّة والتَّعاون والتَّسامح.‏

 

‏* العلم والدين.. كيف ترى علاقة كلّ منهما بالآخر، وما مكمن التعارض بينهما؟

‏- العلم هو منظومة معرفية، أما الدين فهو منظومة شاملة، متكونة من مجموعة من المنظومات، ‏منها: الإيمان، والاعتقاد، والاجتماع، والدولة، والتاريخ، ونحو ذلك. فمن هنا تعرف الفرق ‏بينهما، فالعلم لا يتعارض مع منظومة الإيمان؛ لأن الإيمان منظومة قيمية أخلاقية، دافعة للعمل ‏الصالح وفعل الخير للإنسانية، لكنه قد يتعارض مع الدين، لأن الدين يتكون من العديد من ‏المنظومات ذات الصبغة المعرفية، فمثلًا الإيمان غير معنيّ بإعطاء معرفة حول كروية الأرض، ‏لكنه معنيّ عندما تبحث بأن تكون صادقًا موضوعيًا، بينما الدين في محدداته المعرفية قد لا يقول ‏بكروية الأرض، وهنا يقع التعارض مع العلم، من حيث المكون المعرفي للدين، وليس الإيماني.‏

وقد تسألني: هل يتناقض الدين مع العلم، فأجيبك: لا. ثم تسأل مؤمنًا آخر فيجيبك أيضًا: لا ‏يتناقض. بيد أنَّ عليك أنْ تنتبه، ماذا أقصد أنا بالدين، وماذا يقصد هو به. وعليك أن تفحص ‏محددات كلٍّ منا للدين، وألّا تحمل رؤيته للدين على رؤيتي له، لأنك عندما تفحص رؤيته قد تجد ‏تناقضًا، بينما عندما تفحص رؤيتي قد لا تجد هذا التناقض. هذا يبين لك عمق الآية: "لكم دينكم ‏ولي دين".‏

 

‏* تتمسَّك بالعقلانيّة نهجًا في تعاملك مع النص الديني وتأويلاته. ألا يثير هذا زوبعةً في ‏محيطك؟ ثم هل يمكن عدّ العقلانية مدرسة "فلسفية" أكثر من كونها مدرسة دينية؟

‏- كثيرًا ما أسمع عن تمسُّكي بالعقلانية، والعقلانية ليست تهمة، وإنَّما هي منهج تفكير، له نطاقه ‏الذي يعمل فيه، فالفلسفة العقلانية ليست نطاقها منظومة الإيمان، ولذلك لم أستخدمها في التأصيل ‏لقضايا الإيمان، وأنا لا أعنى كثيرًا بما يقوله الآخرون، فكثير ممّن سمعتهم يتحدثون عن ‏العقلانية لا يعرفون ما هي، وهم يردِّدون كلامًا استعاروه من منظومات كلامية سلَفية، شُغْلها ‏الصراع أكثر من محاولة الفهم، وأنا غير داخل في حقول الصراع المذهبي؛ بأيّ شكل من ‏أشكاله، وإنّما أهتمّ بما أشتغل به من معرفة.‏

 

‏* يُعدُّ توقُّف الاجتهاد من أسباب الفوضى التي تمرّ بها الأمّة. كيف السبيل إلى إعادة الاجتهاد ‏للواجهة لنستطيع فهم الدين بشكل صحيح، وتطبيقه في حياتنا اليومية بالصورة المثلى؟

‏- لقد مرّ الاجتهاد بحالة طويلة من الضعف والركود، يحتاج ليجتازها إلى تفكيك منظومته ‏المعرفية، وإعادة بنائها وفق مناهج جديدة، مختلفة عن تلك القديمة، والاجتهاد بالأساس هو لأجل ‏المنظومة التشريعية القانونية، وليس لأجل فهم الدين، فالدين واضح وفهمه ميسَّر.‏

 

‏* في المجتمعات العربية نلاحظ انتشارًا متزايدًا لتيار الملحدين أو اللّا دينيين. ما سبب هذا ‏الانتشار، وكيف نواجه هؤلاء في ظل افتقار كثرة كثيرة من المؤمنين للحجّة والردّ المُقنِع؟

‏- الإلحاد واللّادينية ليسا حكرًا على المجتمعات العربيّة، بل هما تياران وجوديان منذ القدم، وهما ‏في المجتمعات العربية -حتى الآن- هامشيّان، إلّا أنَّ هذا لا يعني الإغفال عن نقاش حججهما، ‏والحجج هنا ليست معرفيّة فحسب، فهُما "الإيمان" النقيض لإيمان الدين، ولذلك فمنظومة الإلحاد ‏والمنظومة اللّادينية هما أيضًا تتكوّنان من عناصر ثلاثة: نفسية واجتماعية ومعرفية، ولذلك ‏تحتاج هاتان المنظومتان إلى تفكيك عناصرهما، وليس إلى حجج وبراهين.‏