القرابين.. بكر الكائنات

د.موفق محادين

كاتب أردني

 

يميِّز هذا المقال بين دلالات القربان في الدّين وفي السِّحر والأسطورة، ويتناول ‏موضوع القرابين البشريّة التي عرفتها معظم الجماعات البدائيّة، ومنها القربان البكر ‏البشري وقرابين الأطفال. كما يتطرَّق إلى مفهوم "الاستبدال الرمزي" في القرابين ‏البشرية، ويبيِّن الدلالات الرمزية المرتبطة بها. وهو يرى أنَّ القرابين الحيوانيّة لا ‏تختلف في وظيفتها عن القرابين البشريّة: التكفير والندم، الاندماج بالإله، طرد الأذى ‏وقوى الشر، الإخصاب...‏

 

ابتداءً لا بدَّ من التَّمييز بين دلالات القربان ووظيفته في الدّين وفي السِّحر والأسطورة؛ ‏فالقربان الديني، قربان استرضائي، فيما القربان البدائي، قربان استدعائي كما ‏يشتركان في وظائف أخرى مثل:‏

أوَّلًا: التوحُّد مع الإله بأكل الحيوان الذي يمثِّله والشُّرب من دمه. وليس تقطيع الخبز ‏الذي قام به يسوع في العشاء الأخير إلا رمزًا لقربانِه المباشر نفسه.‏

ومن ذلك الاحتفال بموت "ديونسيوس" عندما تصعد النساء إلى التلال ويشربن الخمر ‏مع دم ماعز أو ثور لاعتقادهنّ أنَّ الإله سيدخل إلى أجسامهن. وكذلك الوليمة المقدَّسة ‏عند الشنتو اليابانية. فهي دلالة على تناول الطعام مع "كامي" وتتم كما المسيحية ‏بتناول الأرز (يساوي الفطير) مع قطرات قليلة من الخمر(‏ ‏).‏

ثانيًا: الافتداء لمسح الخطيئة أو دفع الأذى على اعتبار أنَّ القربان يتحمَّل الخطيئة ‏والأذى عن الآخرين على نحو ذبائح الجان المعروفة لدى الجاهليّة.‏

وتعبِّر المسيحية عن هذه الفكرة بامتياز. وكذلك الطقوس الشيعيّة في كربلاء، وقبلها ‏الطقوس البابلية والطقوس المؤابية. وكانت العرب تفقأ عين الفحل من الحيوانات لطرد ‏الشيطان.‏

ثالثًا: القربان للتطويب المقدَّس، على غرار ما فعل نوح بعد أن هبط على الرّبوة أو ‏البرّ الأوّل (تكوين: ص218)، وما يفعل الناس حتى اليوم بعد الانتهاء من بناء ‏مساكنهم، وعلى غرار ما فعل الإسرائيليون القدامى بتأثيرات مصريّة.‏

بحسب (اللاويين: ص22) لمّا خرج بنو إسرائيل من أرض مصر، أمر الرب موسى ‏أن يصنع خيمة، دُعيت خيمة الاجتماع، لكي يجتمع فيها رؤساء الكهنة يناجون ربهم، ‏وأمره أيضًا أن يقيم أمامها مذبحًا من نحاس لكي تقدَّم عليه الذبائح، وذبيحة السبت ‏وذبيحة الفصح، وذبيحة الكفارة، وذبيحة عيد المظال، وغيرها من الذبائح. وكان ما ‏يُقدَّم من هذه الذبائح سنويًا يفوق الحصر والتعداد.‏

وفي اللاويين؛ فمن «أخطأ وخان خيانة بالرب وجحد صاحبه أمانة أو مسلوبًا، أو ‏اغتصب من صاحبه، أو وجد لقطة وجحدها وحلف كاذبًا... يأتي إلى الرب بذبيحة ‏لإثمه كبشًا صحيحًا من الغنم، ذبيحة إثم للكاهن، فيكفِّر عنه الكاهن أمام الرب فيصفح ‏عنها»(اللاويين 6.1:6)، وحتى ذنوب القوم يمكن غسلها جميعًا، وفق الطقس ‏المعروف بطقس تيس الخطيئة: «ويضع هرون يديه على رأس التيس الحي ويقر عليه ‏بكل ذنوب بني إسرائيل، وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس ‏ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية، ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة. ‏‏(اللاويين: 21-22).‏

وفي المقابل، فإنَّ ابني "هارون" -وهو الكاهن الأكبر- يموتان فورًا لتعدّيهما حدًّا من ‏حدود التابو: «وأخذ ابنا هارون كل منهما مجمرته وجعلا فيهما نارًا ووضعا عليها ‏بخوراص وقربا أمام الرب نارًا غريبة لم يأمرهما بها، فخرجت نار من عند الرب ‏وأكلتهما فماتا أمام الرب» (اللاويين 2:1:10). ويعتبر يوم الغفران اليهودي صورة ‏رمزية للتكفير عن خطايا إسرائيل الدورية.‏

 

القرابين البشريّة

عرفت معظم الجماعات البدائية القربان البشري ابتداءً من الابن البكر الذي كان يمثل ‏ابن الإله أو الملك غالبًا. إنَّ أحد البواعث التي دعت إلى وجود هذه العادة الغريبة وهي ‏قتل الإله هو الاعتقاد بأنَّ الشقاء والذنوب المتراكمة على الناس بأجمعهم توضع أحيانًا ‏على الإله المقتول الذي يُفترض أن يحملها بعيدًا إلى الأبد تاركًا الناس مطهَّرين ‏وسعداء.‏

وكانت فكرة نذر المولود الأول للإله واضحة الدلالة في الديانة المصريّة، وكان ‏‏"آمون" نفسه يُعرف بخروف الله، ومن الجماعات التي كانت تقدم ابن الإله أو الملك ‏قربانًا للاسترضاء أو دفع الأذى أو حمل الخطيئة عن الجماعة "مؤاب" التي قدَّمت ‏ابن الملك "ميشع" قربانًا لردّ القبائل اليهودية (الملوك الثاني، الإصحاح الثالث)(‏ ‏). ‏وشعوب الأقيانوس(‏ ‏) وعباد أيل.‏

وواضحة جدًا حكاية الابن البكر "كينجو" الذي ضحَّت به الآلهة وصنعت الإنسان من ‏دمه. وكان من عادة الساميين -بحسب "فريزر" في دراسته عن أدونيس- أن يضحوا ‏بالابن البكر جزية منتظمة للآلهة أو تسكينًا لها (ابن ميشع، تضحية ملوك قرطاجة ‏وروما بأنفسهم هملقار، هيرقل) وموت "ديدونه" حزنًا على رحيل "إينياس"، ذبح ‏‏"تانتالوس" لابنه وتقديمه طعامًا في وليمة الهية... موت ملكة آشور (سميراميس) ‏وملك ليديا خلال حربه مع الفرس.‏

وتقدَّم القرابين البشرية في تاهيتي خوفًا من غضب إله الجفاف(‏ ‏). وكذلك عرفت ‏القبائل الأفريقية هذا النوع من القرابين وظلّت قبائل لوكبارا تمارسها حتى عام ‏‏1930(‏ ‏).‏

كما عرف الإغريق هذا القربان أو تمثّلوه (سقراط). وبالإضافة لحكاية "أغامنون" ‏ملك أرجو وقيامه بقتل ابنته "إيفغيني" في ميناء أوليس، قام "كرونوس" بقتل ابنه ‏الوحيد حرقًا وكان من عادة الإغريق، في عيد الثأر الإغريقي، "جيليا"، أن يزين ‏مواطن فقير أو أجنبي بالملابس والأغصان المقدّسة ويُلقى من على صخرة كتعويذة ‏ضدّ مرض أو قحط.‏

ولا يستجيب إله الأزتك (الشمس) إلا لدماء القلوب. ويذكر شوقي عبدالحكيم في كتابه ‏‏"مدخل لدراسة الفولكلور والأساطير العربية" كيف كان الملوك المقدسون، يقدمون ‏أنفسهم للقتل والتضحية بهم، عند قبائل "الشيومي" في الكنغو. ويعتقد أنَّ الفاكهة تنبت ‏من قدرة هؤلاء الملوك على التضحية بأنفسهم، لذا كانت توهب لهم أوَّل قطفة من ‏الفاكهة، وأوَّل حصاد، وتناول للطعام وكلّ ما يتصل بتابوات البدء، كما هو شائع في ‏ممارستنا العربيّة.‏

وكان من المعتقد أنَّ الجدود من الملوك المقدَّسين في أثيوبيا يرسلون رسلهم المتوالية ‏لسلفهم أو جدّهم الملك الحالي، بأن يقدِم على التضحية بنفسه ليلحق بأسلافه. وينسب ‏للملك "أون" ملك السويد أنه ضحى بأولاده التسعة على التوالي.‏

وممّا قاله "بلوتارخ"، إنَّ القرطاجيين، كانوا يشترون أطفالًا أبكارًا، ويضحّون بهم، ‏أما إذا حدث وبكت أم الطفل المضحّى به، فإنَّ الشعيرة تفقد معناها وتبطل على الفور، ‏وعلى الرجل المضحى شراء طفل آخر. وهكذا.‏

وكانت الأساطير الهلينية، تسمح للملك الأب باستبدال التضحية به، بابنه الحبيب، كما ‏حدث في حالة "ديونسيوس"، ابن "زيوس" و"هيرا"، الذي صوّرته الحفريات وقد أخذ ‏مكان أبيه، بعد أن ارتدى زيّه الملكيّ، آخذًا مكان أبيه "زيوس" ليضحي بنفسه بدلًا ‏عنه.‏

وفي حديثه حول الآزتك، يذكر (كورتل)(‏ ‏) أنَّ تقديم الضحايا كان جزءًا من طقوسهم ‏اليوميّة، وكانت الحروب التي يقومون بها ضدّ المدن المنافسة هي للقبض على ‏الأسرى والتضحية بهم، وسمِّيت تلك الحروب "حروب الزهرة" أو "القلب المتفتِّح" ‏حيث كانوا يقدِّمون دماء ضحاياهم إلى الآلهة، خاصة إله الشمس الذي يحتاج إلى كل ‏القوّة التي يمنحها له أتباعه لإدامة الكون- وبإطعام الآلهة بالدّم واتِّباعهم نظامًا جنونيًّا ‏صارمًا في التصرُّف الاجتماعي كانوا يديمون الآلهة. وكانوا شعبًا بدائيًا عندما وصلوا ‏إلى هضبة المكسيك وقد ضخموا قوة المعتقد المحلي الذي ورثوه ومزجوه بصراع ‏روحي.‏

وغير القربان البكر البشري، عرفت جماعات بدائية كثيرة قرابين الأطفال ووأدهم ‏الذي يرجح أن يكون نوعًا من القرابين. وقد عرفه الفينيقيون والقبائل في تاهيتي ‏والمابايا في البرازيل.‏

وفي بعض القبائل، يحتم قتل أحد التوأمين، ويفضَّل وأد التوأم الأنثى والنساء عند ‏قبائل "الشاكو"، رغم تحريم القرآن لوأد البنات، وهي قبائل ظلّت محتفظة بأصلها ‏العربي حتى القرن السادس عشر الميلادي.‏

وفي بعض القبائل الأفريقية يؤكل ثاني طفل قبل فطام الأول، وعند الصينيين الذين ‏كانوا يؤمنون بتناسخ الأرواح، كان يجري قتل البنات بالدفن داخل المقابر أحياء ‏لفترات محددة، بما يحقق لهن فرص معاودة الولادة كذكور.‏

وعند قبائل "كانار" في الإكوادور، عادة التضحية السنوية بمائة طفل، وهي عادة ‏مرتبطة بما يسمى عندهم "عيد الحصاد". وعند بعض القبائل المكسيكية، كانت تختار ‏التضحيات البشرية، بحيث تتساوى مع عمر المحصول، فيضحّى بالأطفال حديثي ‏الولادة في فترات استنبات المحصول، وبالأولاد الكبار قبل موعد الحصاد، ثم العجائز ‏في أعياد الحصاد(‏ ‏).‏

ووأد البنات أو ذبح العاشر من الأولاد عادة كانت معروفة عند العرب أيضًا، وقد ‏وُجدت هذه الشعائر عند الكنعانيين- الفلسطينيين والفينيقيين والمؤابيين، والإسرائيليين. ‏واكتشف الأركيولجيون خنق الكنعانيين للأطفال حديثي الولادة بكثرة شديدة داخل ‏الكهوف وإلى جوارهم أواني الطعام والشراب، وذلك ترضية للآلهة والآلهات التي ‏تهب الطعام والأطفال، مثل "مولش" و"ميلكوم" و"ميلكارث" و"ميليش" و"يهوه" عند ‏الإسرائيليين الأوائل، عندما كان "يهوه" أو رب الجنود إلهًا فينيقيًا. وكذلك لـِ"بعل" ‏و"كرونس" عند الكنعانيين الفلسطينيين والسوريين(‏ ‏).‏

ومن العرب من كان ينذر إذا بلغ بنوه العشرة، نحر واحد منهم وقصة عبدالمطلب ‏مشهورة في ذلك، وإليها أشار النبي محمد عليه السلام: "أنا ابن الذبيحين"؛ يعني أباه ‏عبدالله، وجدّه إسماعيل.‏

يُروى عن عبدالمطلب، أنه نذر متى رزق عشرة أولاد ذكورًا، ورآهم بين يديه رجالًا ‏ينحر أحدهم شكرًا لربه، وذلك على باب الكعبة. فلما استكمل ولده العدد، وصاروا ‏رجالًا قال لهم: يا بني كنتُ نذرت نذرًا علمتموه قبل اليوم، فما تقولون؟ قالوا: الأمر ‏لك وإليك يا أبي ونحن بين يديك(‏ ‏).‏

ومثل ذلك ما يُنسب إلى كهنة حران، وقصة إبراهيم وإسماعيل (إسحق بحسب ‏التوراة): "رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ(100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ‏السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا ‏تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ(102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103) ‏وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105) إِنَّ ‏هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ(106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ"(قرآن كريم: سورة الصافات)‏

 

القربان البكر البشري في اليهودية والمسيحية

في العهد القديم اعتبر اليهود انتقام يهوه من الابن الأكبر لفرعون ردًا على انتقام ‏فرعون من الابن الأكبر يهوه(بنو إسرائيل).‏

وظلت هذه الفكرة مسيطرة على القبائل اليهودية في صراعاتهم الخارجية والداخلية.‏

فعندما حلَّ القحط بإسرائيل حمل "داود" ذلك لـِ"شاؤول" الميت وأولاده الأحياء وقام ‏بشنق هؤلاء كرقية للمطر.‏

وبعد أن حاصر العمونيّون "يفتاح" نذر "يفتاح" نذرًا للرب قائلًا: إن دفعت بنى عمون ‏ليديّ فالخارج الذي يخرج للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون، يكون ‏للرب وأصعده محرقة. ثم أتى "يفتاح" إلى المصفاة إلى بيته، وإذا بابنته خارجه للقائه، ‏وهي وحيدته، ولم يكن له ابن ولا ابنة غيرها، ففعل بها نذره الذي نذر". كذلك نجد ‏النبي (أرميا) يؤكد في سفره أنَّ بني إسرائيل كانوا يقدِّمون أطفالهم قرابين، تذبح ‏وتحرق على مذبح الإله (بعل مولك) أي السيد الملك(القضاة ص124).‏

أمّا في المسيحية، فالفكرة الأساسية أنَّ الله افتدى شعبه بابنه المسيح: خروف الله، ‏وكذلك بولس في رسالة إلى رومية (مات المسيح لأجلنا).‏

وفي إنجيل يوحنا (الإصحاح 6) يقول المسيح: "من يأكل جسدي ويشرب دمي فله ‏حياة أبدية".‏

 

الاستبدال الرمزي ـ البشري

يتَّخذ الاستبدال الرمزي للقربان البشري أحد الأشكال التالية:‏

‏1.‏ الإخصاء.‏

‏2.‏ العمى.‏

‏3.‏ الختان ـ ذكور ـ إناث.‏

‏4.‏ العرج

‏5.‏ البغاء المقدس + اللواط المقدس.‏

‏6.‏ قص الشعر.‏

 

‏-‏ الإخصاء

الإخصاء إمّا ظاهرة ندم وتكفير ذاتي وإحساس بالدنس والخطيئة تستدعي التضحية، ‏ابتداءً، التضحية بالذكورة والكبت الجنسي، وإخضاع الجسد للروح الطاهرة ‏‏(الصوفيّة) وتصعيد الإيروس (الحب) إلى مستوى روحاني (أفلاطون) أو إلغاء ‏الإيروس تمامًا(المسيحية)(‏ ‏).‏

وإمّا ظاهرة عدوانيّة دفاعيّة كما يفعل الأسد مع صغاره حفاظًا على زوجته، وقد ‏عرف عرب الجاهلية إلهًا خصيًّا هو هبل(‏ ‏).‏

‏-‏ العمى

العمى في أكثر من أسطورة ظاهرة رمزية من ظواهر الندم القرباني كما يمثلها الإله ‏صموئيل(سامائيل)(‏ ‏).‏

وهي واضحة جدًا في العمل الشهير (أوديب) الذي يقوم بفقأ عينيه والتجوال في البرية ‏عقابًا على خطيئته (الخطيئة الأصلية عند الجمع بحسب فرويد) بقتل والده والزواج ‏من والدته.‏

‏-‏ الختان

الختان: قطع الغفلة أو القلفة ودفنها حتى لا تدنَّس. وكما يقول البكر، فقد تطوَّر الختان ‏من القربان البشري عن طريق بتر هذا الجزء الحسّاس بما يرمز له جنسيًّا وكانت ‏فكرة نذر المولود للإله واضحة في الديانة المصرية خصوصًا(‏ ‏).‏

وليس مصادفة أن يُعرف الختان بالطهور وما يرمز له من طهارة جنسيّة، وكان ‏الاحتفال به صورة من الاحتفال ببعث "تموز" و"أدونيس".‏

ولم تعره المسيحية أي اهتمام بسبب رفضها لفكرة خطيئة "أدونيس" الجسد، بل الروح ‏والفداء المسيحي للمؤمنين. وبالإضافة للمصريين فقد عرفت شعوب عديدة هذه العادة ‏وبالدلالة نفسها، مثل الهنود الحمر(‏ ‏). وقبائل أستراليا القديمة(‏ ‏). والعرب قبل ‏الإسلام واليهود الذين أخذوها عن المصريين وحوّلوها إلى علاقة مع الرب(موسى ‏والتوحيد)(‏ ‏).‏

وحول ختان النساء، وفي رواية عن أم عطية، أنَّ امرأة كانت تختن النساء في ‏المدينة، فقال لها الرسول: "أشمي ولا تنهكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى ‏البعل"(‏ ‏). والإشمام هو قطع جزء بسيط من لحمية البظر، النهك هو المبالغة في ‏القطع(‏ ‏).‏

‏-‏ العرج

من القرابين الرمزية الأخرى العرج بدل قتل الملك، ومن ذلك أنَّ الإله "هيفستوس" ‏كان إلهًا أعرجًا بعد أن رماه والده "زيوس" بسهم من السماء لدفاعه عن "هيرا"(‏ ‏).‏

وكذلك "دايونيسوس" إله الضوء الأعرج، وتتحدث الأسطورية اليونانية عن ‏‏"دايونيسوس" -ابن زيفس- وكأنه جدي طبخ بلبن أمه. فبعد أن جاءت به أمه "سيميله" ‏إلى الدنيا تملكت الغيرة ضرّتها "هيرا" فأنفذت هذه الأخيرة أمرها إلى الجبابرة ‏Titans‏ بالقضاء على "دايونيسوس" الذي وُلد وله قرنان (وهو دليل على اقترانه ‏بالجدي، أو الخروف، أو الثور، في بعض الروايات)، فتمكنوا منه برغم استحالاته ‏المتعددة، ومزّقوه أشلاء، ثم سلقوه في قدر، لكنه انتُشل وتمّ إنقاذه(‏ ‏).‏

ومن المعروف أيضًا قصة "يعقوب" بعد صراعه مع الرب في مخاضة الأردن، كما ‏كان "ماني".‏

ويولي "فريزر" أهمية ملحوظة لنماذج من شرق الأردن أبرزها حكاية يعقوب مع ‏روح النهر التي ردَّتها التوراة إلى "يهوه"، وملخَّصها عند "فريزر" أنَّ "يعقوب" عندما ‏وجد نفسه في صراع داخل نهر برما (برما الحالية قرب جرش). مع قوة غريبة ‏متجسدة في شخص غامض ولم يطلقه هذا الرجل الغريب حتى باركه ومسّ قدمه ‏فصار أعرجًا. فإنه أيْ يعقوب الذي حوَّلته التوراة إلى (مُصارع الرب- إسرائيل) كان ‏في صراع مع روح النهر التي قد تكون مقدَّسة أو شيطانيّة.‏

ومن المفارقات الأخرى ارتباط العرج بشخصيّات اعتُبرت من أقران الشيطان سواءً ‏في الأدب أو التاريخ، مثل "تيمور لنك" و"بايرون" (شاعر الشيطان) والربان الأعرج ‏‏"أخاب" في عمل "ملفيل" الشهير "موبي ديك"، وكان قد فقد إحدى قدميه في الصراع ‏مع الحوت الأبيض.‏

 

‏-‏ البغاء المقدَّس واللّواط المقدَّس

يُنسب البغاء المقدس إلى "عشتار" وهو غير العلاقات في المشاعات البدائيّة، وكان ‏يُمارَس في المعابد مع الغرباء لخدمة هذه المعابد التي لم تكتفِ بالمنذورات لهذه ‏الخدمة، بل غالبًا ما كانت تشتري إماء لممارسة البغاء(‏ ‏).‏

ويعتقد "كامبي" أنَّ مقابض الأبواب في المعابد والبيوت المقدَّسة المصمّمة على شكل ‏قضيب كانت دلالة رمزية على هذه الوظيفة.‏

وقد شاع البغاء المقدَّس، بحسب فريزر (‏ ‏)، في جميع أنحاء آسيا الغربية واقترن ‏بعباءة آلهة الخصب وخاصة "أدونيس"، وكانت المنذورات في الهند يمارسن الرقص ‏والغناء أيضًا، كما كان القانون الآموري ينص على أنَّ المرأة التي تنوي الزواج عليها ‏أن تقضي في الزنا أسبوعًا عند بوابة الهيكل. ومن الجماعات والمناطق الأخرى التي ‏عرفت البغاء المقدس المعابد السومرية(‏ ‏)، ومعابد البغاء الأفروديتية في قبرص ‏وكورنثا. وقد قُدِّرت إيرادات الكنيسة من بيوت البغاء العائدة لها في ألمانيا أكثر بأربع ‏مرّات من عائدات بيع صكوك الغفران كما يقول (كامبي)(‏ ‏). ‏

كما ينقل "سيد القمني" عن "ول ديورانت" أنَّ العهد المقدَّس والمنذورات له كانت ‏طقوسًا تُمارَس في الهيكل(‏ ‏).‏

بالمقابل شاعت نماذج أخرى من اللّواط المقدس لخدمة يهوه(‏ ‏).‏

كما عرف الكريتيون هذه العادة، فكان الشاب لا يدخل مجتمع البالغين إلا بعد أن يجد ‏عاشقًا. كما عرفه المصريون في طيبة، ولم يمانع الصابئة في أن يهوى رجل رجلًا ‏أو امرأة امرأة(‏ ‏).‏

ومن التعبيرات الرمزية الجنسية الأخرى، حق التفخذ والافتراع المقدس.‏

 

القرابين الطوطميّة: (قرابين الاستدعاء)‏

القربان الحيواني

يميِّز "فريزر" بين نمطين من القرابين الحيوانية: قرابين تُقتل وتُؤكل وقرابين لا تُمَسّ، ‏وهي النذر السائبة المنذورة للآلهة مثل ناقة صالح وناقة البسوس الشهيرة، أمّا القرابين ‏التي تؤكل فمردّها الاعتقاد بحلول روح الميت في الذين يأكلون من ذبيحته.‏

ولا تختلف القرابين الحيوانية البديلة، في وظيفتها عن القرابين البشرية: التكفير والندم، ‏الاندماج بالإله، طرد الأذى وقوى الشر، الإخصاب... الخ.‏

وبحسب "الحوت"، فإنَّ أقدم المذابح عند الساميين في الشمال، وعند العرب أنفسهم في ‏بلاد العرب كان -كما يرى "سمث"- حجرًا ضخمًا من الحجارة أو ركامًا تسفك عليه ‏دماء العتيرة، وهذا السّفك البسيط على هذا الركام، أو ذاك الحجر، يقدِّس الذَّبح ويجعل ‏العتيرة قربانًا شرعيًّا. ‏

ولقد امتدَّت عادة الذبح في منى أيام الحج إلى ما بعد الإسلام، حيث يقول تعالى: "لن ‏ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم"(سورة الحج، آية37).‏

وكان الأقدمون يعتقدون أنَّ القربان الحيواني أقرب للرِّضا الإلهي من القربان النباتي ‏كما تدلل على ذلك قصة هابيل وقابيل وجذورها السومريّة، حين اختارت السماء ‏قربان الرّاعي وفضّلته على القربان النباتي للمزارع. ومثل ذلك الرِّضا السماوي ‏الكامل عن نوح بعد أن أحرق الأضاحي على الجودي وتنسّم الرب رائحتها. وتشدِّد ‏الطقوس والجماعات المختلفة على استيفاء القرابين الحيوانية لكل شروط البكر الذكر ‏التي تتماهى مع اكتمال الخلق في الابن السماوي الأول.. في كتاب إحياء علوم الدين ‏للإمام الغزالي «وقال أبو هريرة لا يضحين بالعرجاء والعضباء والجرباء والشرقاء ‏والخرقاء، والمقابلة، والمدابرة، والعجفاء، الجدع في الأنف، والقطع فيهما والعضب ‏القرن، وفي نقصان القوائم والشرقاء المشقوقة الأذن من فوق والخرقاء من أسفل». ‏وجاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة ج1 «ويجب أن يكون الصنف الذي ‏يضحّى به جيدًا، من أغلى النعم، وأكمله، وأن يكون من مال طيب ويكره جزّ صوفها ‏وشرب لبنها قبل الذبح»(‏ ‏)، وهذه الشروط تشبه الشروط الواردة عند اللاويين.‏

ويعود بكر القرابين الحيوانية على الاعتقاد بأنَّ روح القطيع تتركّز في أوّل حيوان ‏يولد في الموسم.‏

وكانت قواعد وطقوس تقديم الضحايا تُتَّبع بصرامة. فقبل ذبح الأضحية كان ينثر ‏خليط خاص من الحبوب المقلية والملح على رأس الحيوان، ثم يزيّن بإكليل من الورد، ‏بينما تُطلى قرون الثيران والخراف وذكور الماعز بالألوان. كما يرتدي الشخص الذي ‏يقدِّم القربان إكليلًا من الورد أيضًا. وإذا كانت الأضحية مقدمة للآلهة التي تسكن ‏السماوات، فإنّ رأسها كان يرفع للأعلى قبل ذبحها، أمّا إذا كانت مقدمة للآلهة التي ‏تسكن العالم السفلي (الأرض) فإن رأسها كان ينكّس إلى الأسفل قبل الذبح.‏

بالتدريج تطوَّرت التفاصيل الإجرائية لتقديم القربان للآلهة. وفق كل ذلك، كان هناك ‏عدد كبير من الكهنة الذين كانوا يقومون باتخاذ الإجراءات اللازمة لتقديم القربان. فإذا ‏ما جرت طقوس الأضحية بواسطة أحد الكهنة بشكل أولي، فتتقدم فيما بعد مجموعة ‏من هؤلاء الكهنة بشكل أولي، فستتقدم فيما بعد مجموعة من هؤلاء الكهنة لإتمام جميع ‏الإجراءات اللازمة، أحدهم يحمل الأمر الإلهي بهذه المناسبة، والثاني يضرب الحيوان ‏القربان بالهراوة القاتلة، بينما يقوم الآخرون بقطع حنجرة الحيوان، وإشعال النار، ‏ومن ثم سلخ جلد الحيوان، وهكذا(‏ ‏).‏

 

‏1. القربان الأكبر‏

وكانت حيوانات القربان تُحرق على منصّات خاصة ليصعد دخان المحرقة إلى ‏مساكن الآلهة ويزوِّدهم بالغذاء اللازم لهم. ولدينا في ملحمة "جلجامش" وصف حيوي ‏لكيفية صنع مثل هذه المحارق، فبعد أن حطَّت السفينة ببطل الطوفان البابلي ‏‏"أوتنابشتم" على قمة جبل نصير بعد أن تراجع الطوفان، نقرأ ما يلي:‏

فأطلقت الجميع إلى الجهات الأربعة وقدَّمت أضحية

سكبت خمر القربان على قمة الجبل...‏

وضعت سبعة قدور وسبعًا أخر...‏

جمعت تحتها القصب الحلو وخشب الأرز والآس...‏

كي تشمّ الآلهة الرائحة...‏

شمّت الآلهة الرائحة الزكيّة...‏

فتجمّعت على الأضحية كالذباب...‏

ولدى الفينيقيين وسكان الغرب السوري عمومًا، كانت أمثال هذه الطقوس تجري على ‏قمة المرتفعات وعند مقامات مقدسة مفتوحة على الهواء الطلق قرب مصادر الماء ‏والأشجار العملاقة والصخور. واعتبرت الأشجار الضخمة المعمّرة، بشكل خاص، ‏رمزًا للآلهة(‏ ‏).‏

وكان العرب -بحسب الحوت- يرون في التضحية عاملين رئيسين: الأول انتقال دم ‏الضحية الحار إلى المعبود الذي يكتفي به، ولهذا نراهم يصبّون الدماء على رؤوس ‏الأنصاب والأصنام تسكينًا لغضب الإله وطلبًا لرضاه. والثاني انحلال لحمها ودمها ‏في لحوم العباد ودمائها.‏

أما الحيوانات الطوطمية المنذورة أو التي كانت تُقتل وتُؤكل كقرابين للتوحد مع الآلهة ‏أو لمسح الخطايا أو الإخصاب... فكانت محددة غالبًا بالأكباش والخراف والثيران ‏والغزلان والإبل؛ ومن ذلك كبش نوح وإبراهيم وخروف الله في آمون والمسيح وجدي ‏الضارعات التموزيات والثور الذي ظل يُذبح لافتداء الإمبراطور حتى القرن الثالث ‏والماعز والخراف التي تذبح حتى الآن عن العين أو لاسترضاء الآلهة أو لاستدرار ‏المطر(‏ ‏).‏

 

‏2. القربان النباتي

يعود القربان النباتي إلى فترة السيادة الأمومية الزراعية، ولا يزال قائمًا عند جماعات ‏عديدة (أوّل الثمار بتطوِّل الأعمار).‏

وهو نوعان: العُشر، وبكر الثمار. ويعود العُشر الذي يساوي الزكاة إلى الحصص ‏العينيّة من الأرض التي كانت تُدفع للمعابد بواقع العًشر عند العرب الجنوبيين، أما بكر ‏الثمار، فكان يقدَّم إلى الكهنة في مصر(‏ ‏).‏

وذلك شيء كان يعرفه موسى جيدًا من أيام كان كاهنًا من كهنة أتون (أخناتون في ‏هليوبوليس...) ولذا نجد أنّ من أوائل تعليمات يهوه إلى موسى "على رأس الجبل" ‏على بني إسرائيل إحضار أبكار غلّاتهم إلى بيت الرب(سفر الخروج، ص23)(‏ ‏).‏

وفي المسيحية، فإنَّ المسيح هو الثمرة الأولى للشجرة الأبدية، ويرى "كامبل" أن قصة ‏المسيح تعد تصعيدًا لما كان في الأصل صورة نباتية صلبة، المسيح على الصليب ‏المقدّس، الشجرة، وهو ذاته ثمرة الشجرة، يسوع هو ثمرة الحياة الأبدية التي كانت ‏الثمرة الثانية المحرّمة في جنة عدن. عندما أكل الإنسان من ثمرة الشجرة الأولى، أي ‏شجرة معرفة الخير والشر، طُرد من الجنة. الجنة مكان وحدة الكائنات، لا توجد فيها ‏ثنائية الذكر والأنثى، أو الخير والشر، الإله والموجودات الإنسانية، أنت تأكل الثنائية ‏وتُطرد خارجًا ويُلقى بك على الطريق، أمّا شجرة العودة إلى الجنة فهي شجرة الحياة ‏الأبدية، حيث تعرف أنّ الأنا والأب واحد.‏

كما يُرمز للمسيح بشجرة اللوز التي تُعدُّ بكر الأشجار البرية، ويجري الاحتفاء به عند ‏جماعات وشعوب ومؤمنين من مختلف الديانات من خلال ما يُعرف بالمصنع أو ‏المزين، وهي سفيفة من الصوف المصبوغ بالأحمر والمزيَّن بالودع الأزرق ‏والشراشب الحمراء... وكان يجري وضع المصنع على غصن شجرة لوز وأحيانًا ‏بطم...‏

ومن مراسيم الاحتفاء به محاولة عدد من الفرسان رميه على الأرض، فيما تقوم نسوة ‏بالدفاع عنه.‏

وقد يرافق هذا الاحتفال الختان عند المسلمين أو عيد الشعانين الذي يمثِّل بعث المسيح ‏و"أودونيس".‏