الأسطورة والفن

د. خالد الحمزة

أكاديمي وفنان تشكيلي أردني

 

 

تجسّدت الأساطير أو حلقات من أحداثها في العمارة والنَّحت والنَّقش والتَّصوير في كل ‏الحضارات القديمة وذلك قبل تدوينها بآلاف السنين، وتتجلّى بعض تفاصيل الأساطير في ‏العمارة، كما ظهرت بعض أحداثها محفورة وملوّنة، أو ظهر بعض أبطالها في منحوتات ‏مجسّمة في كل تلك الحضارات، وثُبِّتت بعض موضوعاتها بالرَّسم والتَّلوين على سطوح ‏الجدران والأواني والأدوات وغيرها.‏

 

وُجدت الأساطير في كل المجتمعات قديمها وحديثها، إذ ما زال الإنسان أمام التعمية الغامرة ‏بخصوص حاله كإنسان تدفعه لخلق أسطورته أو أساطيره. وتجد كذلك المجتمعات أمام ‏انشغالها بقضايا يصعب فك ألغازها تعمل على أسطرتها لترتاح من همها. ويبدو أنَّ الإنسان، ‏منذ وجوده على هذه الأرض ولمعالجة مسائله المتعلقة بالحياة والموت وبالطبيعة وبحاجاته ‏الحياتية الملحّة، قام بمحاولات لفهم العالم الذي يعيش فيه بكل ما يحويه ويؤثر على حياته، ‏وبذا وُجدت الأساطير. ولا شك بأن لكل ثقافة أساطيرها الخاصة بها على الرغم من وجود ‏تشابهات في تفاصيل بعض الأحداث أو صفات بعض الأبطال فيما بينها. وتمَّ نقل تلك ‏الأساطير شفاهة بين الأجيال في الثقافة الواحدة، وأخذت في التغير وفقًا لتغيُّر الأحوال ‏وتأثُّرها بأساطير الثقافات الأخرى عبر التواصل بينها. ولم تدوَّن الأساطير إلا عند الإغريق ‏وذلك كما في "الإلياذة" و"الأوديسا" للمؤلف أو الجامع لها هوميروس. ‏

لقد تجسّدت الأساطير أو حلقات من أحداثها في العمارة والنحت والنقش والتصوير في كل ‏الحضارات القديمة وذلك قبل تدوينها بآلاف السنين. وتتجلى على سبيل المثال بعض تفاصيل ‏الأساطير في عمارة معابد الفراعنة وزقورات الرافديين القدامى والمباني المقدسة في ‏حضارات الصين والهند القديمة ومعابد الإغريق والرومان وغيرها من الحضارات. كما ‏ظهرت بعض أحداث تلك الأساطير محفورة وملونة، أو بعض أبطالها منحوتة بالتجسيم في ‏كل تلك الحضارات. ولقد ثبتت بعض موضوعاتها بالرسم والتلوين على سطوح الجدران ‏والأواني والأدوات وغيرها. وتزخر المراجع المتخصصة بتاريخ العمارة والفن بالآلاف من ‏الأمثلة التي وصلت إلينا من تلك الحضارات.‏

تقف أهرامات الجيزة المصرية القديمة وزقورة أورنامو في العراق وستونج هنج في جنوب ‏إنكلترا -إذا أردنا ذكر بعضها- كصروح بارزة استنفدت الكثير من الجهد والوقت والمواد ‏لتشفّ عن بعض الأساطير خلف إنشائها. ‏

أمّا في مجال النحت فأحداث وأبطال كثر وجدناهم وقد وُضعوا في المعابد وساحات المدن. ‏ويمكن أن نذكر تماثيل الثقافات البدائية التي تعود لعشرة آلاف عام تقريبًا كتمثال فينوس ‏ولندروف، وهي السيدة التي سميت باسم الموقع الذي عثر عليها فيه. ونذكر تماثيل الآلهة ‏الفرعونية رع وآمون وإيزيس وآنون، والرافدية آنو وأنليل وشمش، والإغريقية أبولو وأثينا ‏وزيوس ونبتون، والهندية شيفا وفيشنو وبراهما، وهناك غيرها الكثير.‏

لم يترك لنا الإغريق تصويرًا جداريًّا، ولذا يتم الاعتماد في تاريخ الفن على الرسوم والصور ‏التي طبقت على الأواني الخزفية لمعرفة جانب من فنِّهم في هذا المجال. هناك الآلاف من ‏الأواني الإغريقية المعروفة بمسمياتها كالأمفورا والكيلاكس والهيدريا والبيلاك، وهي متعددة ‏الأغراض والأحجام، وحوت رسومات على سطوحها بها الكثير من المقتطفات من الأساطير ‏بأحداثها وأبطالها. ولقد قسمت هذه الرسومات في تاريخ الفن إلى أساليب وفترات تاريخية ‏عدة كالرسوم الظلية والخطية والملونة. وتم التعرف على بعض مصوّريها من تكرار أسلوب ‏الرسام في أكثر من عمل. وهناك مواقع على شبكة الإنترنت مخصّصة لهذه الأواني وما ‏عليها من رسومات مع شروح لموضوعاتها الأسطورية. ‏

أعجب الرومان بكل ما هو إغريقي في الثقافة والفن، وعملوا الكثير من النسخ عن التماثيل ‏الإغريقية وحتى أنهم استعملوا، على الأقل في بداية حكمهم، فنانين يونانيين لتنفيذها. وتغيرت ‏أسماء بعض الآلهة في عهدهم، ولكن بقي لها الكثير من سماتها وقدراتها.‏

انحدرت مكانة الآلهة الوثنية بعد انتشار المسيحية، ولكن استمر بعضها في الظهور في النقش ‏على التوابيت الحجرية أو الرخامية التي أوصى بعملها القادرون المسيحيون منذ عام 140م. ‏والأمثلة على ذلك كثيرة، منها استعمال رمزية انتصار الخير على الشر مقتطفة من حروب ‏هيردوس مع الأمازون، واستعمال رمزية الخلود بوضع صورة ديونوسس والكرمة. ثم استمر ‏الاعتماد عليها كمصدر للفن في مجالات فنية عديدة حتى بعد توسع انتشار المسيحية ‏وتوطدها. ‏

وهناك لوحة فسيفسائية في الفاتيكان في روما تمثل السيد المسيح صاعدًا السماء في عربة ‏الشمس متقلدًا متعلقات أبولو كإله الشمس والصليب، ويوجد في خلفية المنظر كرمة ‏ديونوسس. أما في كاتاكومبس، وهي المقابر المحفورة في سراديب تحت أرض روما من ‏القرن الرابع الميلادي، نجد هرقل يقتل هيدرا. وظهرت استحضارات هرقل والأسد، ‏وديونوسس وغريمه، على أواني الفضة، ومحفورة على صناديق العاج، ومطبقة على الأواني ‏الخزفية، ومنسوجة في قطع الأقمشة وغيرها من الأدوات التي استخدمت لأغراض يومية ‏وطقسية. وقد كان ظهورها بأشكالها القديمة محورًا، ولكن ظهورها في فنون بيزنطة كان ‏أكثر قربًا من الأصل من مثيلاتها في الغرب المسيحي.‏

عندما ترجم العرب المجسطي، وهو كتاب فلكي بمواقع النجوم، نقلوا صور الأشخاص ‏الأسطورية، ولكنهم عرّبوها وذلك بهيئة الشخص وملامحه وملابسه كالسروال والعباءة ‏والعمامة، وذلك كما في صورة هرقل. وظهر التعديل على صورة بيرسوس حيث جعلوه ‏ممسكًا في يده رأسًا كثيف الشعر ومخيف الطلعة يطلق عليه الغول بدلًا من رأس جورقن. ‏ورسموا الكواكب مثل عطارد ككاتب، والمشترى كقاض، وذلك باستعمال رموز من أساطير ‏بابلية قديمة حيث كان نيبو كاتبًا ومردوك قاضيًا. أمّا في أوروبا فقد شاعت الكتب المساعدة ‏في التعريف بالأساطير الإغريقية، ترجم بعضها عن العربية ووضعت الأخرى، وحاولت ‏الدقة في شرحها لضمان فائدتها في التنجيم والسحر.‏

عاد تمثيل الأساطير الإغريقية مع جهود الإنسانيين في إيطاليا وبعض البلاد الأوروبية في ‏عصر النهضة. لقد عملت العودة إلى التراث الإغريقي الروماني في الفلسفة والآداب والعلوم ‏على ظهور شخصيات الأساطير الإغريقية كما في الأصل. وقام فنانو النهضة العظام ‏بوتشيللي وجيورجوني وتشان ومايكلأنجلو وكوروجيو وفيرونيزه بتصوير العديد من ‏الأساطير. واستمر اعتبار الأساطير الإغريقية كمصدر ثري للتصوير في عصر الباروك، ‏ويظهر ذلك جليًّا في أغلب أعمال الفنان المصور "روبنز" الذي ترك لنا عددًا ضخمًا من ‏اللوحات والرسوم التحضيرية في موضوعات الأساطير، ولقد ساعدته في ذلك معرفته ‏الواسعة بالأدب اللاتيني وصلته الوثيقة بالإنسانيين. ‏

اعتمد "روبنز" كثيرًا على كتاب أوفيد "التحولات"، أو "مسخ الكائنات" إذا أخذنا عنونة هذا ‏الكتاب كما وضعه ثروت عكاشة في ترجمته له. وكان المصور الفرنسي "بوسان" كذلك من ‏أهم الذين صوروا اعتمادًا على الموضوعات الأسطورية بفهم عميق؛ مما جعله حجة للفنانين ‏اللاحقين في هذا المجال.‏

استمرّ الاستلهام من الأساطير في الفن الغربي الحديث في القرن العشرين وحتى اليوم. ونجد ‏الفنانين "براك" و"بيكاسو" على سبيل المثال من أكثر المهتمين بالأساطير الكلاسيكية، فقد ‏ظهرت في الكثير من أعمالهما عامة، وفي الفترة المبكرة والوسطى من إنتاجهما خاصة. ‏وتشتهر في هذا المجال أعمال "بيكاسو" عن الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينات من القرن ‏العشرين. لقد استخدم في هذه الصور الميناتور للتعليق على الوحشية والرعب والدمار الذي ‏تلحقه الحروب بالإنسان والمكان. ‏

لم يحفل الفن التشكيلي في مجالي التصوير والنحت في البلاد العربية بالأسطورة، في حدود ‏علمنا، إلا ما ندر. نقول ذلك عند النظر في حضورها الكبير في المسرح وفي الشعر. وظهر ‏هذا القليل من الاحتفاء بالأسطورة في التصوير وندر في النحت. ونجد من هذا التصوير ‏اهتمامًا كبيرًا بالأساطير التي تسرّبت وتشبّعت بها الذاكرة الشعبية مثل أعمال عبدالهادي ‏الجزار في مصر منذ أربعينات وحتى ستينات القرن المنقضي، الذي انغمس في الحياة الشعبية ‏عميقًا وتفاعل معها في أعماله. ونجد مثل ذلك الاحتفاء بالأسطورة الشعبية أيضًا، ولكن ‏يمزجها بسريالية خاصة به، كما في أعمال المصور حامد ندا منذ خمسينات القرن المنصرم ‏وحتى الثمانينات منه. وتميّز كل من هذين الفنانين بأسلوب فريد استفاد منه فنانون مصريون ‏وعرب. أمّا في العراق فقد اهتمّ المصورون والنحاتون بالنهل من أساطير الرافدين القديمة ‏وتضمينها في أعمالهم بلبوس القضايا المعاصرة، وظهر ذلك في أعمال جواد سليم وفي ‏أعمال الكثير من الفنانين اللاحقين. ‏

ويمكن القول إنّه مع ابتعاد النحت والتصوير في السنوات الأخيرة عن التشخيص، بالإضافة ‏إلى عوامل أخرى كالافتتان بالشكلانية البحتة التي تركز على التكوين المرئي كما قدمها أغلب ‏فناني الحداثة الأوروبية، قد خفت حضور الأسطورة، أيَّا كان مصدرها، في الفن المعاصر ‏في البلاد العربية. ‏

كنتُ قد نقلت ممّا قلته في مجلة "دبي الثقافية" إلى كتلوج معرض لأعمالي الفنية بعنوان ‏‏"أساطير معاصرة"، قبل عقد من الزمان تقريبًا، التالي: "يحاول الإنسان دومًا وعلى مر ‏العصور أن يجد تفسيرًا للظواهر التي يلاحظها حوله سواء أكانت اجتماعية أو طبيعية أو ‏غيرها. وهو بذا يعمل خياله وعقله في سبيل تحقيق علاقات بين الأشياء محاولًا أن تكون ‏مقنعة بحسب حالة العصر الثقافية وحاجات الإنسان للفهم وكذلك المعطيات المتوفرة لديه. ‏ونحن نتكلم هنا عن رؤية أو رؤيا أو تشكيل لفكرة ما أو أسطورة إذا أردنا تسميتها بذلك. ‏ومسألة الأسطورة ليست نقيض العلم، ولكن يرى بعضهم أنها مقدمة لما قد يأتي به العلم لاحقًا ‏أو على الأقل لم يتعامل العلم بعد مع فرضيات تفسيره على النحو الذي يقنعه.... الأسطورة ‏اقتناع لحظي، بالمعنى التاريخي للحظة، ريثما تخلق أسطورة أكثر عصريّة". ‏