أخلاقيّات الغموض عند "سيمون دي بوفوار"‏

د. يسرى وجيه السعيد

كاتبة وأكاديمية سورية

 

يُعدُّ كتاب الفيلسوفة الفرنسية "سيمون دي بوفوار" (أخلاقيّات الغموض) ‏Ethics ‎of Ambiguity‏ الصادر عام 1947، والمترجَم للإنجليزية فقط، واحدًا من أكثر ‏أعمال "دي بوفوار" الفلسفيّة إثارةً للاهتمام. كما يُعدُّ مدخلًا من المَداخل المعرفيّة ‏الأهمّ للوجوديّة الفرنسيّة؛ حيث يتميَّز ببساطته التي جعلته قابلًا للفهم. ويهدف هذا ‏المقال إلى عرض وتحليل بعض الأفكار التي دافعت عنها الكاتبة في كتابها. ‏

في كتابِها "أخلاقيّات الغموض" واجهت "سيمون دي بوفوار"(1) المعضلة الوجوديّة ‏للحريّة المطلقة مقابل الظروف المقيِّدة. وطوَّرت نظريّة أخلاقيّة وجوديّة أدانت فيها ‏الروح الجديّة ‏the spirit of seriousness‏ التي بموجبها يتمّ تشخيص ‏الأشخاص بسهولة وفق بعض التَّجريدات، فتبدأ "سيمون دي بوفوار" كتابها بمقولة ‏MONTAIGNE‏ "مونتاين": "الحياة في حدّ ذاتها ليست خيرًا ولا شرًّا. إنَّها مكان ‏الخير والشر على حسب ما تصنعونه".‏

ويمكن قراءة "أخلاقيّات الغموض" كردّ فعل على الحرب العالمية الثانية، وهو محاولة ‏لفهم كل ما تنطوي عليه الحرب، وبالتالي؛ علَّمنا الكتاب ما يعنيه أن تكون إنسانًا في ‏مواجهة أسوأ الفظائع التي يمكن أن نتخيَّلها، كما تحاول مؤلفة الكتاب أن تستكشف ‏التوتُّر الوجودي بين حريّة الاختيار المُطلَقة وقيود مُعطيات الحياة، فالكتاب معني ‏بالحريّة؛ ماذا يعني أن تكون حرًّا؟ وأخلاقيّات تلك الحريّة. وهكذا تعمل "دي بوفوار" ‏على منحنا نظامًا أخلاقيًّا يمكننا استخدامه، وتتحقَّق الحريّة فقط –برأيها- من خلال ‏العودة إلى الإيجابي، أي من خلال إعطاء نفسها مضمونًا(2).‏

وذكرت موسوعة ستانفورد للفلسفة في مقال لها عن "سيمون دي بوفوار" نُشر لأول ‏مرَّة يوم الثلاثاء 17 آب/ أغسطس 2004؛ أنَّ "أخلاقيّات الغموض"، محاولة لنشر ‏فهم فريد للوعي كنشاط مقصود، ووصفت "بوفوار" الوعي بأنه غامض، وعرَّفت ‏غموضنا بفكرة الفشل. اذْ لا يمكننا أبدًا أن نلبّي شغفنا بالمعنى في أيٍّ من تعبيراته ‏المقصودة؛ أي أنَّنا لن ننجح أبدًا في الكشف الكامل عن معنى العالم. إنَّ "أخلاقيّات ‏الغموض" لدى "بوفوار" علمانيّة ترفض أفكارنا عن الله، وترى أنَّ أفكار المؤمنين ‏تُخفي -على اختلافاتهم الواضحة- جوهرًا مشتركًا: كلاهما يدَّعي أنه حدَّد مصدرًا ‏مطلقًا، ومبرِّرات لمعتقداتنا وأفعالنا. إنَّها تسمح لنا بالتهرُّب من المسؤولية عن خلق ‏ظروف وجودنا والهروب من مخاوف الغموض. وسواء كان يطلق عليه عصر ‏المسيح أو المجتمع غير الطبقي، فإنَّ هذه النداءات إلى مصير طوباوي تشجِّعنا على ‏التفكير من حيث الغايات التي تبرِّر الوسائل. إنهم يدعوننا للتضحية بالحاضر من أجل ‏المستقبل. إنهم مواد محاكم التفتيش والإمبريالية. إنَّ تفضيل المستقبل على الحاضر ‏يفسد علاقتنا بالوقت، ويفسد علاقتنا مع بعضنا بعضًا ومع أنفسنا.‏

ترفض "بوفوار" الاتِّهام المألوف ضدّ العلمانية الذي اشتهر به محقق "دوستويفسكي" ‏الكبير(3): "إذا كان الله ميتًا فكل شيء جائز". كما ترى أنه دون أن يغفر الله لنا عن ‏‏"خطايانا" فإنَّنا نتحمَّل المسؤولية الكاملة وغير المبرَّرة عن أفعالنا. لقد كان ‏‏"دوستويفسكي" مخطئًا باعتقادها، وترى أنَّ مشكلة العلمانيّة هي مشكلة الـ"نحن". هل ‏يمكن للأفراد الحاليين أن يكونوا ملزمين ببعضهم بعضًا؟ هل يمكنهم صياغة قوانين ‏مُلزمة للجميع؟ "أخلاقيّات الغموض" تُصرُّ على أنهم يستطيعون. يكون ذلك من خلال ‏القول إنَّ الشر يكمن في إنكار الحريّة (حريتي وحريّة الآخرين)، وإنَّنا مسؤولون عن ‏ضمان وجود شروط الحريّة (الظروف الماديّة للحد الأدنى من مستوى المعيشة ‏والظروف السياسيّة للخطاب غير الخاضع للرقابة)، وأنَّ الفرد لا يستطيع أن يؤكد ‏حريَّته ولا أن يعيشها دون التأكيد أيضًا على حريّة الآخرين. ‏

وفي هذا السياق، ومن أجل استكشاف ما يمكن القول إنَّه مقاربات غير أخلاقية للحياة، ‏تُبرز "بوفوار" خمسة أنواع مختلفة من الأشخاص:‏

‏1. "الرجل الفرعي": الرجل الفرعي هو شخص لديه خوف من الوجود، وبالتالي؛ ‏يرفضه بفعل سوء النيّة. والأشخاص الذين يعيشون مع هذا الخوف هم عُرضة ‏للخطاب والأيديولوجيّة. الرجل الفرعي "رجل بعيد عن الحريّة من خلال الرفض ‏المستمر لامتلاك وجوده في العالم، الرجل الفرعي ليس واضحًا جدًا بشأن ما يجب أن ‏يخسره، نظرًا لأنه لا يملك شيئًا، لكن هذا الغموض الشديد يُعيد فرض رُعبه. في ‏الواقع، ما يخشاه هو أنَّ صدمة غير متوقَّعة قد تذكِّره بوعي نفسه المؤلم"(4).‏

‏2. "الرجل الجاد": يعطي الرجل الجاد الأولوية لمجموعة أو أيديولوجيا معيَّنة على ‏الفرد. الاسم مشتق من مناصب مثل القادة العسكريين أو البيروقراطيين الوطنيين، ‏الذين باسم المثال الأعلى، يكونون على استعداد للتضحية بالآخرين لتحقيق هذا الهدف، ‏هذا الرجل هو الذي يلف قيمة وجوده في هدف خارجيّ (المال، والسلطة، والموقع، ‏والغزو)، وهو فقط من خلال تحقيق هذه الأشياء الخارجية، يشعر أنه سيتمّ التحقُّق من ‏صحة وجوده. والنتيجة أنه لم يحصل على هذه المصادقة أبدًا لأنه يوجد دائمًا شخص ‏لديه المزيد. إنَّ السعي وراء الحياة بهذه الطريقة هو أن تُلعن بإحدى حلقات الجحيم ‏لـ"دانتي"؛ وَصْفة لضمان التعاسة الدائمة.‏

لا يمكن للرجل الجاد أن يعترف أبدًا بذاتيّة أهدافه، وأنه هو نفسه قد حدَّدها على هذا ‏النَّحو، لأنَّ القيام بذلك يعني الاعتراف بذاتيّة وجوده(5)، ينزلق "الرجل الجاد" إلى ‏موقف "الرجل الفرعي". ويحفظ نفسه من الوجود لأنه غير قادر على الوجود دون ‏ضمان(6).‏

‏3. "الرجل السريالي": هو الشخص الذي يخطو خطوة أبعد من "الرجل الفرعي". في ‏مواجهة وجود لا معنى له، فإنَّ هؤلاء يتخلّون عن أيّ قيم ويعلنون أنَّ لا شيء مهمّ.‏

‏4. "الرجل المغامر": المغامر يخدم الذات ويهدف إلى اللذّة والمجد. وقد يسعى شخص ‏من هذا النوع إلى الثروة الماديّة والترويج الذاتي دون الكثير من التفكير في كيفيّة ‏تأثيره على الآخرين. المغامر رجل يُلقي بنفسه في مهامِه بحماسة، في الاستكشاف، ‏والغزو، والحرب، والمضاربة، والحب، والسياسة، لكنه لا يربط نفسه بالغاية التي ‏يهدف إليها؛ فقط "الفتح". يؤكد حريَّته بقوَّة تامّة. المشكلة هي أنه غالبًا ما يقوِّض ‏حريّة الآخرين في هذه العملية. وأن تكون لك حريتك على حساب الآخرين يعني أنْ ‏تشارك في الظلم.‏

‏5. "الرجل العاطفي": يحاول الرجل العاطفي أن يكون كاملًا من خلال السعي وراء ‏‏"المشاريع". وقد يكرِّس هؤلاء أنفسهم بالكامل لوظائفهم أو لهواية أو علاقة. ‏

كل أساليب الحياة غير الأخلاقية -كما ترى "بوفوار"- هي محاولات للهروب من ‏الحريّة. وفي ارتداد جبان، فإنَّ الشخص المفتقر للحريّة يريد الآخرين أيضًا أن يفتقروا ‏إليها.‏

إذا أردنا تجنُّب أساليب الحياة هذه، فعلينا (كما ذكرنا سابقًا) أن نتحمَّل المسؤولية ‏الكاملة، ونحاول التصرُّف بطريقة تسمح بحريّة الآخرين. ويجب أن نحاول تجنُّب ‏فرض قيود من شأنها أن تؤثر على الخيارات المستقبليّة للآخرين، ويجب علينا القيام ‏بذلك مع العلم أنَّنا لن نحقِّق الكمال أبدًا؛ هذا هو غموض حالتنا.‏

الاعتراض الواضح على الأخلاق الوجوديّة هو إثارة مشكلة "طاغية" لا يهتمّ بأي حال ‏بحريّة الأفراد الآخرين. وبالتأكيد، لا يُتوقع منّا أنْ نسمح لشخص ما باتخاذ خيار حُرّ ‏وصادق لإساءة معاملة الآخرين أو قتلهم أو استعبادهم.‏

في وقتها، كان مفهوم "الطاغية" حقيقيًّا للغاية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ‏ومحاولة "هتلر" القضاء على اليهود وقهر أوروبا.‏

وقد يبدو، لمتفائل ساذج، أنه يمكنكَ التحدُّث بعقلانية مع الفاشيّين وتغيير رأيهم. ‏والمشكلة التي تواجه المتفائل هي الوقت، حيث تتطلّب المناقشة قدرًا هائلًا من الجهد ‏والوقت، وقد تعالج بعض العقبات فقط ولا توقف المصدر. لذلك، حتى لو لم يفهم ‏النازي الشاب تمامًا كراهيّته للآخر، يجب إيقافه.‏

وباتباع منطق المبادئ الوجوديّة الأولى، يمكنك مسامحة "السريالية" على الاعتقاد بأنَّ ‏لا شيء مهمّ وأنَّ جميع القيم ذاتيّة بالكامل. إذا كان هذا صحيحًا، فيمكن تبنّي العدميّة ‏وأيّ شيء تفعله لن يكون جيدًا ولا سيئًا.‏

ولكن، كما ناقشنا سابقًا، تقول "سيمون دي بوفوار" إنَّ الأمر ببساطة لا يمكن أن ‏يكون كذلك. حتى العدميّ على ما يبدو يريد أن يكون حرًّا!‏

تبدأ حجة "بوفوار" حول الحريّة الأخلاقية بالإشارة إلى حقيقة أساسية عن الحالة ‏الإنسانية. نبدأ حياتنا كأطفال نعتمد على الآخرين، ومنغمسين في عالم يتمتَّع بالفعل ‏بالمعنى. فقد وُلدنا في الحالة التي تسمّيها بوفوار "العالم الجاد". هذا عالم من القيم ‏الجاهزة والسلطات الراسخة. هذا عالم حيث الطاعة مطلوبة بالنسبة للأطفال، هذا ‏العالم ليس مُستبعِدًا ولا خانقًا لأنهم أصغر من أن يتحمّلوا مسؤوليات الحريّة. بصفتنا ‏أطفال يصنعون عوالم خياليّة، فإنَّنا في الواقع نتعلم دروس الحريّة؛ أنَّنا صانعو معنى ‏وقيمة العالم. يتمتَّع الأطفال بحريّة اللعب، ويطوِّرون قدراتهم الإبداعية وقدراتهم على ‏صنع المعنى دون أن يكونوا، مع ذلك، مسؤولين عن العوالم التي يخلقونها. وبالنَّظر ‏إلى هذين البعدين لحياة الأطفال، وحريتهم الخيالية وتحررهم من المسؤولية، تحدِّد ‏‏"بوفوار" أنَّ الطفل يعيش حياة متميزة ميتافيزيقية. الأطفال، كما تقول، يختبرون ‏أفراحًا، ولكن ليس هموم الحريّة. ومع ذلك، تصف "بوفوار" الأطفال أيضًا بأنهم ‏محيّرون. تعني بهذا أنهم يؤمنون بأنّ أسس العالم آمنة، وأنّ مكانهم في العالم يتم ‏إعطاؤه بشكل طبيعي، وغير قابل للتغيير. وتشير "بوفوار" إلى المراهَقَة باعتبارها ‏نهاية هذا العصر الشاعري. إنه وقت القرار الأخلاقي. بدخول عالم الكبار، نحن ‏مدعوّون الآن إلى نبذ العالم الجاد، ورفض غموض الطفولة وتحمُّل المسؤوليّة عن ‏خياراتنا، "يقول ديكارت إنَّ تعاسة الرجل ناتجة عن كونه طفلًا في البداية. وبالفعل لا ‏يمكن تفسير الخيارات المؤسفة التي يتَّخذها معظم الرجال إلا من خلال حقيقة أنَّها ‏حدثت على أساس الطفولة"(7). ‏

ترى "بوفوار" أنَّنا جميعًا نمرُّ في سن المراهقة، ولا نتبنى جميعًا مطالبها الأخلاقية. ‏وهي استراتيجيات واهنة ننكر بها حريّتنا الوجوديّة ومسؤوليّتنا الأخلاقية. ويتهرَّب ‏بعض منّا من مسؤوليّات الحريّة باختيارِهم البقاء أطفالًا، أي الخضوع لسلطة ‏الآخرين.‏

لا تعترض "بوفوار" على غموض الطفولة. وهي تُقرُّ بأنَّ السلطة الأبوية ضرورية ‏لبقاء الطفل على قيد الحياة. ومع ذلك، فإنَّ معاملة البالغين كأطفال هو أمر غير ‏أخلاقي وشرير، تحمِّلنا "بوفوار" المسؤولية عن استجابتنا لتجربة الحريّة. إذ لا يمكننا ‏استخدام مخاوف الحريّة كذريعة لمشاركتنا الفعالة في مسألة ما، أو قبولنا السلبي ‏لاستغلال الآخرين. الاختباء وراء سلطة الآخرين أو ترسيخ أنفسنا كسلطات على ‏الآخرين هي جرائم على حدِّ تعبيرها.‏

نحن نعلم أنه يجب علينا التصرُّف بحريّة، ولكن ما هي الغاية؟ مرَّة أخرى، إنَّها ‏الحريّة، والرغبة في حريّة الآخرين. والسبب في ذلك هو أنَّ "حريّة الآخرين فقط ‏تمنع كل واحد منّا من التصلُّب في عبثيّة الواقعيّة"، وباختصار تقول "بوفوار": "أنْ ‏يكون المرء حرًّا هو أيضًا أنْ يحرِّر الآخرين"(8).‏

وفي وصفها للطُّرُق المختلفة التي يتمّ بها التهرُّب من الحريّة أو إساءة استخدامها، ‏تميّز "بوفوار" الأنطولوجيا عن الحريّة الأخلاقية. وتوضِّح لنا أنَّ الاعتراف بحريتنا ‏هو شرط ضروري، ولكنه ليس شرطًا كافيًا للفعل الأخلاقي. ولتحقيق الشروط ‏الأخلاقية، يجب استخدام الحريّة بشكل صحيح. ويجب، وفقًا لـ"بوفوار"، أن تتبنّى ‏الحريّة الروابط التي تربطني بالآخرين. وبرأيها يجسِّد الفنانون والكُتاب المثال ‏الأخلاقي في عدة جوانب؛ إذ يعبِّر عملهم عن الشغف الذاتي الذي يؤسس للحياة ‏الأخلاقية. يصفون الطُّرُق التي يمكن أن تؤدّي بها التعقيدات المادية والسياسية لمواقفنا ‏إلى إبعادنا عن حريتنا أو الانفتاح عليها، من خلال تصوُّر المستقبل على أنه مفتوح، ‏كما يتحدّى الفنانون والكتاب الغموض الذي يبرِّر التضحية بالحاضر من أجل ‏المستقبل. إنهم يؤسِّسون العلاقة الأساسيّة بين حريَّتي وحريّة الآخرين.‏

وفي كتابها، فإنَّ أخلاقيّات الغموض لا تتجنَّب مسألة العنف. إنَّ العنف ضروري في ‏بعض الأحيان، وتستخدم "بوفوار" مثال الجندي النازي الشاب الذي يقول إنه لتحرير ‏المظلومين قد نضطرّ إلى تدمير مضطهِديهم. وهي تُعرِّف الآن العنف على أنه اعتداء ‏على حريّة الآخر، وعلى هذا النحو يشير هذا العنف إلى فشلنا في احترام الـ"نحن" ‏المتعلقة بإنسانيّتنا. وهكذا، يقدِّم كتاب "أخلاقيّات الغموض" تحليلًا لوضعنا الوجودي ‏والأخلاقي الذي ينضمّ إلى الواقعيّة المتشدِّدة (العنف حقيقة لا مفرّ منها لحالتنا) ‏بمتطلبات ملحّة. ومع ذلك، فهي فريدة من نوعها في التوفيق بين هذه الواقعيّة وتلك ‏المتطلبات:‏

‏-‏ نحن أحرار، على عكس الأشياء.‏

‏-‏ نحن نخلق القيم والمعنى.‏

‏-‏ يجب أن نتحمّل المسؤولية عن حريتنا.‏

‏-‏ هناك تضارب مع الوعي الآخر قد يؤدي إلى التشيُّؤ.‏

تؤكد "سيمون" أنه يجب عدم الخلط بين مفهوم الغموض والعبثيّة. إنَّ إعلان أنَّ ‏الوجود عبثيّ يعني إنكار إمكانيّة إعطائه معنى(9).‏

وبالانتقال إلى مفهوم المستقبل، ترى بأنه منقسم: يتخيَّل الناس المستقبل على أنه ‏استمرار الأمل، حيث ينزل "المجد، السعادة، أو العدالة" بطريقة سحريّة على الأرض. ‏هذا المفهوم الأخير للمستقبل هو تمامًا ما يمكن أن يُقنِع الناس بالتضحية بالحاضر، ‏لكنه يقوم على أمل زائف في الكمال، في حين أنَّ كل جهد بشري في الواقع محدود، ‏والغموض سمة ثابتة للوجود. يستفيد السياسيون من أمنيات الناس وضعفهم في ‏الحصول على المثل، ويعدونهم بمستقبل مثالي لتحويلهم إلى أدوات؛ هذه هي الطريقة ‏التي برَّرت بها أوروبا الاستعمار، على سبيل المثال. بدلًا من ذلك، تصرّ "دي ‏بوفوار" على أنه يجب على الناس الاحتفال بوجودهم، ومشاريعهم المحدودة وإراداتهم ‏المحدودة، بدلًا من ترك أنفسهم عُرضةً لإغراء الوعد اللانهائي.‏

في القسم الأخير من الكتاب، تعود "دي بوفوار" إلى مسألة الغموض وتحقِّق بعمق ‏أكبر في ما يتطلّبه اتخاذ القرار الأخلاقي. وهي ترى أنَّ مثل هذه القرارات يجب أن ‏تهدف إلى حريّة "الفرد على هذا النحو"، وقبول العنف فقط عندما "يفتح إمكانيات ‏ملموسة للحريّة التي أحاول إنقاذها". تقدِّم السياسة الفرنسية كمثال: الأشخاص الذين ‏يعتبرون أنفسهم "نُخبًا مُستنيرة" يتظاهرون بالحكم نيابة عن رعايا فرنسا ‏الاستعمارية، لكنهم في الواقع يستخدمون إيماءاتهم تجاه رفاهية الشعب المستعمَر ‏كواجهة لمواصلة قمعهم واستغلالهم. ثم نظرَت إلى الاتحاد السوفييتي، الذي استخدم ‏بسهولة أهداف ثورته كذريعة لقمع الناس، على الرغم من أنه من الممكن نظريًّا أن ‏يكون الاضطهاد أحيانًا أخلاقيًّا من أجل المساعدة في دفع تحرير الناس إلى الأمام. إنَّ ‏اتِّباع هذا القرار الصَّعب -استخدام العنف والقمع لمحاربة العنف والقمع- يعني تحمُّل ‏مسؤولية جسيمة واليقظة الشديدة والتفصيل والتفكير. وغنيّ عن القول إنَّ معظم ‏السياسيين والثوريين لا يتقيَّدون بهذا المعيار، ولهذا السبب هم أيضًا بحاجة إلى النقد ‏والنقاد: بقدر ما يحترمون الحريّة، يجب عليهم تبنّي المقاومة الحرة لأساليبهم الخاصة. ‏

وفي ختام موجز، تقدِّم "دي بوفوار" بعض الملاحظات ذات الصورة الكبيرة حول ‏علاقة الأخلاق الوجوديّة بمنتقديها والأنظمة الأخلاقية الأخرى. بينما تركز الوجوديّة ‏على الفرد، نظرًا لأنَّ الفرد هو الذي يتَّخذ القرارات الحرّة، ويسعى إلى تنفيذ مشاريعه ‏الخاصة، فإنها تُصرّ على أنَّ الوجوديّة ليست أنانيّة لأنَّها ترى أنَّ حريّة الآخرين ‏ضرورية لأيّ فرد. تتساءل عمّا إذا كان المفهوم الوجودي للقيمة الأخلاقية الذاتية ذا ‏مغزى حقًا، لكنّها تذكِّر القارئ بأنه لا يوجد شيء ذو مغزى خارج المنظورات ‏البشرية الذاتية، وأنه ببساطة لا معنى لإبقاء الأخلاق البشرية وفقًا لمعيار الحقيقة ‏الموضوعيّة، ومن خلال تركيز الأخلاق على العمل الملموس والمشاريع المحدودة ‏للناس، تستنتج "دي بوفوار"، تأكيد الوجوديين على قدرة الأفراد على تقديم مساهمات ‏ملموسة للعالم واحتضان حريّتهم؛ إذا فعل الجميع هذا، يمكن للناس أن يتوقَّفوا أخيرًا ‏عن الحلم بمدينة فاضلة مجانيّة تمامًا، لأنهم سيحصلون عليها.‏

ويبدو أنَّ حجة "سيمون" في كتابها "أخلاقيّات الغموض" توفِّر موردًا قيّمًا للنسويّات ‏اللواتي يتناولنَ حاليًّا مسألة شرعيّة العنف السياسي، سواء من الدولة أو غير ذلك. ‏السبب ليس أنَّ "بوفوار" تقدِّم إجابة نهائيّة عن هذا السؤال، ولكن بسبب الطُّرُق التي ‏تفكِّكه بها. في تمكين قارئها من تقدير ما تفترضه سياسة مقاوِمَة تتبنّى العنف كأداة ‏لها، وتسلط "بوفوار" الضوء على المشاكل التي تواجهها أنواع الحجج "الواقعية ‏والإيجابية" و"المثالية والأخلاقية" التي يتم من خلالها استخدام العنف في السياسة. كما ‏توضِّح "بوفوار" أنَّ تفكيك مسألة شرعيّة العنف لا يعني إبعادها أو حلّها. وهي لا تقدِّم ‏وصفة لتحديد شرعية أو عدم شرعية استخدام العنف في السياسة بشكل عام. وبدلًا من ‏ذلك، تُبرز الصعوبة التي لا يمكن علاجها وحتميّة مثل هذه الأحكام في عالم عنيف ‏ومتصلِّب.‏

يُعاني البشر أيضًا من الغموض فيما يتعلق بطبيعتنا المزدوجة، والتي تعتبرها "دي ‏بوفوار" مؤلَّفة من كلٍّ من المادة والفكر (أو الجسد والوعي). بالنِّسبة إلى "دي ‏بوفوار"، فإنَّ الوعي البشري يعتمد على الجوانب الجسدية أو المادية لكياننا، ولكنه ‏غير متطابق معه. الجسد هو جانب آخر لا مفرّ منه للواقعية البشرية. أو كما يُقال، ‏‏"يمكن للبشر أن يتجاوزوا أصلهم المادي في الفكر، كما هم في الأرض، لكن لا يمكنهم ‏الهروب منه أبدًا". إنَّ قدرتنا على تجاوز حدودنا الجسدية من خلال التفكير هي ما ‏يولِّد الحريّة والالتزام الأخلاقي. ومع ذلك، مثل العديد من المفكرين النسويين الآخرين، ‏ترى "دي بوفوار" أنَّ الميْل المتأصِّل في التقليد الفلسفي الغربي إلى إعطاء الأولوية ‏لجانب واحد من ثنائيّة ظاهرة، مثل الروح على المادة، أو الذات على الآخر، أو الفرد ‏على الجماعة. تقول "دي بوفوار" إنَّ الميل لإدراك الازدواجيّة هو "بدائي مثل الوعي ‏نفسه". ومع ذلك، فإنَّ جزءًا من غموض الوجود البشري هو أنَّنا نمتلك مزيجًا من هذه ‏الأقطاب، بما في ذلك المعاملة بالمثل بين الذات والآخر. وعندما يتمّ فحص غموضنا، ‏يتَّضح أنه على الرغم من أنَّ الإدراك البشري يسعى إلى الثنائيّات، فلا داعي لإعطاء ‏الأولوية لأي واحد على الآخر. يشكل هذا النقد جزءًا من أساس نظرية "دي بوفوار" ‏النسويّة، وكذلك أساس أخلاقيّاتها.‏

أخلاقيّات الغموض لدى "بوفوار" لا تلبي معايير الذاتية الأخلاقية. لتذكيركَ، هذه ‏المعايير ليست "معايير أخلاقية نهائية"، و"الأحكام الأخلاقية مبنيّة فقط على رأي ‏فردي". بادئ ذي بدء، تقترح "سيمون" معايير عالمية نهائية لتحديد ما إذا كان ‏الاختيار أو الفعل أخلاقيًّا أم لا. المعايير هي، ما إذا كانت تقدِّم الحريّة الأخلاقية ‏للآخرين أم لا، وما إذا كانت تتعامل مع الآخر على أنه "لذاته" أم لا. وثانيًا؛ لا تستند ‏أخلاقيّات "دي بوفوار" إلى الرأي الفردي حسب. بدلًا من ذلك، فإنَّ مفهومها للذات ‏هو مفهوم علائقي ومتبادل، وهذا هو أحد جوانب غموض الحالة الإنسانية. لا يوجد ‏شيء اسمه رأي فرد منعزل، لأنه لا يوجد شيء اسمه فرد منعزل. ‏

بالنسبة إلى "دو بوفوار"، تأتي الحريّة في محاولة أن تكون حرًا وقبول أنَّ هذه الرّحلة ‏هي الحريّة. إنَّها العملية وليست النتيجة. يؤدي هذا بطبيعة الحال إلى أسئلة الأخلاق ‏لأنَّني إذا كنتُ أريد حريّة الآخرين في السَّعي وراء حريّتي، يجب أن يكون لديّ نظام ‏لتقييم النزاعات. "أن تكون حرًا لا يعني أن تكون لديكَ القدرة على فعل أيّ شيء ‏تريده؛ أن تكون قادرًا على تجاوز المُعطى نحو مستقبل مفتوح؛ إنَّ وجود الآخرين ‏كحريّة يحدِّد وضعي وهو حتى شرط حريّتي. أنا مضطهَد إذا ألقيتُ في السجن، ولكن ‏ليس إذا مُنعت من إلقاء جاري في السجن"(10).‏

أخلاقها ليست مُطلقة، إنَّها تسعى جاهدة لتزويدنا بشيء يمكننا استخدامه بالفعل. تقول: ‏‏"الأخلاق لا تقدِّم وصفات أكثر من العلم والفنّ. يمكن للمرء أنْ يقترحَ فقط أساليب".‏

الهوامش والمصادر

‏(1)‏ سيمون- إرنستين، لوسي ماري برتراند دي بوفوار، تدعى سيمون دي بوفوار (1908- 1986)، كاتبة ‏ومفكرة فرنسية، وفيلسوفة وجوديّة، وناشطة سياسية، ونسوية، إضافة إلى أنها منظرة اجتماعية. ‏ورغم أنها لا تعتبر نفسها فيلسوفة إلا أنَّ لها تأثيرًا ملحوظًا في النسوية والوجوديّة النسوية.‏

‏(2)‏ THE ETHICS OF AMBIGUITY, Simone de Beauvoir, translated from ‎the French by BERNARD FRECHTMANPublished by Citadel Press, ‎A division of Lyle Stuart Inc. 120 Enterprise Ave. Secaucus, N.J. ‎‎07094 Copyright 1948 by Philosophical Library,page12.‎

‏(3)‏ ‏"في أواخر حياته، وضع الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي (1821-1881) رائعته العالمية ‏‏"الإخوة كارامازوف"، فجاءت هذه الرواية لتتوج أعماله السردية وتكون خاتمة مسيرة طويلة أمضاها ‏في الكتابة ومعالجة الدواخل الإنسانية من روابط عائلية وعواطف جارفة مرورًا بشؤون السياسة ‏والفلسفة والروحانيات. وأنجز دوستويفسكي روايته الطويلة هذه قبل أربعة أشهر فقط من وفاته، وراح ‏ينشرها في فصول ظهرت بالتتالي على صفحات مجلة "الرسول الروسي" أواخر عام 1880 (ابتداءً ‏من نوفمبر- تشرين الثاني). ولا يمكن الحديث عن هذه الرواية دون التوقف عند قصة قصيرة وردت ‏داخلها على لسان "إيفان" أحد الإخوة كارامازوف، كفصل داخل الرواية بعنوان "المحقق الأكبر". ‏المحقق الأكبر "عمل مسرحي، يضارع بقيمته الفنية النص الأصلي الوارد في رواية دوستويفسكي، ‏عمل يطرح أسئلة جوهرية على الإنسان لا بد أن نستعيدها في زمننا هذا: هل يمكن للإنسان أن يكون ‏حرًا وسعيدًا في الوقت نفسه؟ هل تمنح ديكتاتوريات العالم الإنسان ما عجز عن منحه إياه الدين؟ هل ‏الخبز السماوي كافٍ؟ هل يحل الخبز محل الحريّة؟"، اقتباس من مقال: قصة "المحقق الأكبر" ‏لدوستويفسكي تحمل أسئلتها الشائكة إلى المسرح، كاتيا الطويل، الاثنين 19 أكتوبر 2020 21:37، ‏independent‏ عربية.‏

‏(4)‏ https://fs.blog/2017/05/simone-de-beauvoir-ethics-freedom‏/‏

‏(5)‏ المصدر السابق.‏

‏(6)‏ THE ETHICS OF AMBIGUITY,p22‎

‏(7)‏ THE ETHICS OF AMBIGUITY, p 14‎

‏(8)‏ https://plato.stanford.edu/entries/beauvoir

‏(9)‏ https://medium.com/@andrewhorton_85407/lessons-from-simone-de-‎beauvoir-part-1-b817a36265ab

‏(10)‏ ‏ 69 و ‏THE ETHICS OF AMBIGUITY, Simone de Beauvoir