التراث الثقافي

د. عمر الغول

أستاذ الكتابات السامية بقسم النقوش في كلية الآثار والأنثروبولوجيا

‏ مدير مكتبة الحسين بن طلال في جامعة اليرموك- الأردن

 

عاش الإنسان في بلادنا منذ مئات الألوف من السنوات، محاورًا البيئة المحيطة به، ساعيًا ‏إلى تطويعها، طلبًا للطعام، والمأوى، والأمان. وقبل حوالي عشرة آلاف سنة، خاض ‏الإنسان تجربة فارقة، حين بدأ بزراعة الأرض، فاستقرَّ في مكان واحد، وراح يطوِّر ما ‏يلزمه من أدوات للزراعة، ولتخزين الطعام، واستهلاكه، ونقله، فتوسَّعت تجاربه ‏الإنسانية؛ إذ أفضت الزراعة إلى تطوُّر الحياتَين الاقتصادية والدينية تطوُّرًا كبيرًا. وما ‏انفكَّ الإنسان مذذاك يراكم تجاربه المعيشية وينقلها من جيل إلى جيل، حتى اجتمع له ‏تراكم خبراتي كفل له عبر العصور التعامل مع محيطه على أفضل وجه، وضمِنَ ‏استمراره الحضاري عبر الأجيال. بل وكان لهذه الخبرة المتراكمة أثر أبعد من ذلك، فقد ‏جمعت كل جماعة إنسانية خبرتها الخاصَّة بها، فصار لها تراثُها الخاصُّ المميِّز لها، ‏وأصبح علامة من علامات هويتها، تفرقها عن الجماعات الأخرى. ‏

غير أنَّ معطيات الحياة في بلادنا، وفي العالم، تغيَّرت تغيُّرًا عميقًا في القرن الماضي؛ إذ ‏اختلفت أنماط الإنتاج، وتلتها أنماط الاستهلاك، بعد تحوُّل كثير من الاقتصادات إلى ‏الاقتصاد الصناعي أو الخدماتي، فما عاد الإنسان يأكل ممَّا يزرع، أو يسكن بيوتًا بناها ‏بنفسه، أو يلبس ممَّا ينتج، فاستغنى عن كثير من خبراته السابقة؛ بعد أنْ أصبحت متصلة ‏بحياة الماضي أكثر من اتصالها بحياته الحاضرة، وباتت نافلة، مهدَّدة بالاندثار والنسيان.‏

من هنا، يتداعى المهتمُّون بالموروث الإنساني اليوم إلى توثيقه، حفظًا لهذا التراكم ‏الحضاري الذي امتدَّ عشرات الألوف من السنوات من الضياع؛ فهو الذي أكسب الإنسان ‏قدرًا غير يسير من هويته، ويُخشى أنْ يفضي اندثار التراث إلى غياب ملامح هذه الهوية، ‏أو ضياعها تمامًا. ثمَّ إنَّ المشتغلين بالتراث يسعون إلى إخضاعه للدراسة والفهم، كي ‏نبقى قادرين على استحضار تجربة الإنسان في التعامل مع البيئة عبر العصور، ولنضمن ‏استمرارية تلك العناصر التراثية التي ما تزال نافعة اليوم. فلا بدَّ من التحذير من التعجُّل ‏في إلحاق أساليب الحياة التقليدية بالماضي والتخلي عنها، فكثير منها يمكن أنْ يبقى ‏مصدرًا نستعين به على فهم الواقع والتعامل معه، بل والتسلُّح به لمجابهة المستقبل أيضًا. ‏

ومن خير الأمثلة على ذلك الموروث الإنساني في مجال الزراعة؛ فتحوُّل كثير من ‏الشعوب اليوم إلى استيراد الطعام بدلًا من إنتاجه تحوُّلٌ غير محمود، لأسباب عديدة لا ‏مجال لسوقها كلها هنا، وأكتفي بذكر الأمن الغذائي الوطني منها؛ فالأردنُّ، مثلًا، أنتج عام ‏‏2016 ثلاثة في المئة من حاجته إلى القمح وحسب، بعد أنْ كان إنتاجه من هذه المادَّة ‏الغذائية الأساسية يفي بحاجته كلها منها في خمسينات القرن الماضي. فلعلَّ دراسة طرق ‏الزراعة التقليدية تعين في رفد الإنتاج الزراعي المعاصر من خلال إنشاء مؤسَّسات ‏صغيرة، تمارس الزراعة بطريقة تقليدية، وتسدُّ بعض الحاجات المنزلية.‏

ويجري المثال نفسه، تقريبًا، على التراث الإنساني المتعلق ببناء البيوت، فالإنسان بنى ‏بيوته في هذه البلاد عبر العصور من موادَّ محلية، وبتصاميم تلائم المناخ والعادات ‏الاجتماعية، فربَّما كان بعضها أولى بالاستخدام من الموادّ والتصاميم الحديثة في البناء. ‏ومثال آخر يتمثَّل بالطبِّ الشعبي الذي اكتشف عبر آلاف السنوات منافع نباتات محلية ‏معيَّنة في تخفيف الألم أو تحسين الصحَّة، فيمكن الإبقاء على هذه الخبرات القيِّمة، ‏واستخدامها إلى جانب الطبِّ الحديث، كما هو معمول به في بعض المجتمعات المتقدِّمة.‏

ولتحقيق هذه الغاية، لا بدَّ أنْ يأتي توثيق التراث دقيقًا، جراحيًا، أي أنْ يرصد تفاصيل ‏التفاصيل، فعند الحديث على النباتات الطبية، مثلًا، لا بدَّ من ذكر اسم النبتة أو أسمائها ‏المحلية، واسمها العلمي، وإثبات صورتها، وبيان مواضع نموها، ومواسمها، وطرق ‏جمعها وحفظها، ثمَّ بيان طرق إعدادها للاستخدام، ووجوه استخدامها، وجرعاتها، ‏ومواقيتها، والأعراض الدالة على نجاعتها. ولا بأس في أنْ يجمع الباحث التراث الشفهي ‏المتعلق بالنبتة، كذكرها في الأمثال، والقصص، والأغاني، بحيث يستجمع الوصف ‏المخزون التراثي للنبتة كاملًا. وبغير ذلك، يصعب توظيف التراث في الاستخدام اليومي ‏المعاصر.‏

أمَّا الاشتغال بالتراث الشعبي في الأردنِّ فيبعث على الرضا والاطمئنان، تشهد على ذلك ‏شهادة طيِّبة جهود وزارة الثقافة في مجالَي التراث المادِّي وغير المادِّي، ويشهد عليه ‏أيضًا هذا العدد من "أفكار"؛ فتجد فيه دراسات تراثية تتعلق بالزراعة، والأزياء، ‏والأفراح، واللغة، والطعام، والوسوم، بل وتجد فيه حديثًا مفيدًا عن منهج البحث في ‏التراث، وقد تصدَّى لكتابة هذه المقالات باحثات وباحثون أصحاب خبرة ودراية في هذا ‏المجال. وهذه التفاتة من "أفكار" تستحقُّ الثناء، فهي تنبِّه قرَّاءها إلى أهمِّية التراث وأوجه ‏الاشتغال به، فيزيدهم ذلك معرفةً به وحرصًا على توثيقه. ‏