التاريخ الشفويّ قيمته وأهميّته

د. عبدالله مطلق العساف

باحث وأكاديمي أردني

 

يُعدُّ التاريخ الشفويّ وسيلة لإعادة رسم حياة حافلة بأحداثها وتفاصيلها، لأنَّ ما يقدِّمه التاريخ ‏الشفويّ، هو بمثابة إعطاء الدّم واللّحم لهذه الأحداث الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الاقتصاديّة؛ كونه ‏يعكس المزاج العام للناس العاديّين، ويسجِّل بعض تفاصيل المعيش اليومي لهم في الفترة المُراد ‏دراستها اعتمادًا على الرِّواية الشفويّة (الشهادات) للأحداث التي شهدها شخص أو جماعة ما، ‏وانطبعت في ذاكرتهم. وهنا يُعدُّ الرّاوي الشخصيّة المحوريّة، مثلما أنه يُعدُّ خزّانًا غنيًّا ‏بالمعلومات التاريخيّة، بأشكالها المختلفة.‏

 

 

قد لا يخفى على الكثيرين اليوم أنَّ فكرة التاريخ الشفويّ قد حظيت في العقود الأخيرة من القرن ‏العشرين باهتمام لافت من قبل المؤرخين والباحثين في العديد من حقول العلوم الاجتماعية ‏والإنسانية. وقد خلصت دراسات هؤلاء إلى آراء أبرزت أهمية هذا النوع من التاريخ وقيمته ‏التاريخية، وكذلك أهمية الدور الذي يمكن أَن يلعبه في توسيع دائرة فهمنا ومعارفنا الاجتماعية ‏على صعيد الأفراد والجماعات على حد سواء.‏

ولا عجب القول إنَّ دراسة التاريخ الشفويّ المعتمد على الرِّواية الشفويّة والذاكرة الفرديّة تثير ‏مشكلات عويصة، منها المعرفيّة ومنها المنهجيّة، علمًا بأنَّ التاريخ الشفويّ قديم في ظهوره، فقد ‏ظهر لدى المؤرخين المسلمين والأوروبيين في القرون الوسطى. وما الظهور المجدَّد للاهتمام به ‏إلّا دلالة على أهميته الراهنة بالنسبة للمجتمعات البشرية.‏

فالتاريخ الشفويّ كان ولا يزال أحد الروافد المهمة في التاريخ الإنساني؛ كونه يرتبط بالبحث ‏المروي، جمعًا وحفظًا ودراسة، بكيفية منظَّمة، فهو تاريخ مكتوب بشكل رئيس اعتمادًا على ‏تحقيقات ومرويّات غير مكتوبة (شفويّة)، وهكذا فإنَّ العملية التي يتشكل خلالها هذا التاريخ تقوم ‏على تسجيل وحفظ وتحليل المعلومات التاريخية التي تنطوي على أحداث وأخبار. وبهذا يكون ‏التاريخ الشفويّ، هو كل التاريخ المروي عن الآخرين.‏

ويُعدّ التاريخ الشفويّ من هذا الجانب، وسيلة لإعادة رسم حياة حافلة بأحداثها وتفاصيلها، وربما ‏كان الأجدر أن نسمّي هذا "منهج يُعنى بالذاكرة الحيّة"، لأنَّ ما يقدمه التاريخ الشفويّ، هو بمثابة ‏إعطاء الدم واللحم لهذه الأحداث الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية؛ كونه يعكس المزاج العام ‏للناس العاديين، ويسجِّل بعض تفاصيل المعيش اليومي لهم، في الفترة المُراد دراستها اعتمادًا ‏على الرِّواية الشفويّة (الشهادات) للأحداث التي شهدها شخص أو جماعة ما، وانطبعت في ‏ذاكرتهم، وهنا يُعدُّ الرّاوي الشخصيّة المحوريّة، مثلما يُعدُّ خزّانًا غنيًّا بالمعلومات التاريخية، ‏بأشكالها المختلفة.‏

وممّا يجدر ذكره أنَّ كثيرًا من الناس يخلطون بين التاريخ الشفويّ والرِّواية الشفويّة، والواقع ‏أنهما ليسا شيئًا واحدًا، على الرّغم من قوّة الروابط المفهومية والدلالية، من ناحية المعرفة ‏التاريخية الوثيقة بينهما. فالرِّواية الشفويّة التاريخية هي مادّة التاريخ الشفويّ التي تمدّه ‏بالمعلومات الضرورية للباحث، وهي تتعلق بذكريات الماضي لدى شهودٍ أو رواة، بوصفها ‏روايةً شفويّةً متواترة، وقد تستمرّ لأجيال عديدة. وهكذا فإنَّ قيمة الرِّواية الشفويّة تكمن في ما ‏تحمله من تصوُّرات وتمثلات جمعيّة قد تستمر شغّالة في المتخيَّل الجمعيّ لحقبات طويلة.‏

أمّا التاريخ الشفويّ، فيُعدّ شكلًا من أَشكال النشاط الإنساني، ويشكل تقنيًّا ومنهجيًّا مرحلة لاحقة ‏على الرِّواية الشفويّة، ولكنهما بسبب علاقتهما الوثيقة ببعضهما بعضًا، فإنَّ كلًا منهما يُستعملان ‏بشكل منتظم ومُتبادل أحيانًا، ليدلّا على بعضهما، أو ليتبادلا المعنى نفسه. إلّا أنَّ ما ينطبق على ‏التاريخ الشفويّ في الوقت الحاضر، هو معنى دراسة الماضي وذلك عن طريق استعمال التواريخ ‏المدوَّنة والمذكّرات الشخصيّة، إذ يتكلم الرُّواة عن تجاربهم الشخصيّة، ومعايناتهم الحيّة للأحداث.‏

ولقد أوجد العصر الحديث نقلة مهمة في موضوع المواد التاريخية غير الوثائقية، كان من شأنها ‏أن غيّرت نظرة كثير من الباحثين في التاريخ، وأصبح التاريخ الشفويّ لدى هؤلاء مصدرًا ‏مكملًا، يمكنه أن يصحِّح أو يحدِّد الوقائع التي وثَّقتها المصادر التقليدية (المكتوبة)، ففي حال عدم ‏توفر الوثائق لأسباب مختلفة، فإنَّ الحال يستوجب أحيانًا الاعتماد على الشهادات والروايات ‏الشفويّة، لاعتبارات عدّة، منها أنها تشكل المصدر الأساسي للتوثيق التاريخي.‏

لقد كان من شأن التقدُّم الذي يحدث في مجال التقنية الحديثة، أنْ جعَلَ هذا النوع من البحث ‏التاريخي ممكنًا ومُتاحًا، غير أنَّ ثمّة دافعًا آخر أهمّ من ذلك ويكمن في التوسُّع الحاصل في ‏مفهوم البحث التاريخي أو تعريفه، الذي لم يعُد يقتصر على التاريخ الكتابي المعروف بتقاليده ‏العلميّة. ومن المفارقات اليوم أنَّ حقل التاريخ الشفويّ يُعتبر -من حيث الاهتمام والتركيز البحثي ‏المتعدِّد- في مقدّمة دراسة التاريخ، لا سيما مع تزايد أعداد الباحثين والمؤرخين المختصين بهذا ‏النوع من التاريخ، كما في حقول العلوم المختلفة.‏

وفي الآونة الأخيرة أخذ الاهتمام بجمع الرِّواية الشفويّة واستعمالها وتوظيفها كمنهج مُعتبر للبحث ‏التاريخي يزداد ويطّرد بزيادة الأبحاث والدراسات التي تعتمد هذا المنهج بشكل كبير. ومع ذلك ‏فإنَّ سِمَة التردُّد والشكّ وعدم الثقة بكل من الرِّواية الشفويّة والتاريخ الشفويّ، ما تزال تشوب ‏مواقف المؤرخين التقليديين الذين يشككون بمصداقية هذا المنهج، ومدى نجاعته في تقديم الحقائق ‏بصورة موضوعية موثوقة. وينطلق هؤلاء من أساس أنَّ ذاكرة الإنسان ليست دقيقة. مثلما أَنَّ ‏الرُّواة قد ينحرفون وراء عواطفهم ورغباتهم وتمنّياتهم في وصفهم للأحداث وحديثهم عنها.‏

بيد أنَّ التاريخ الشفويّ يُعدُّ لدى المدافعين عنه وعن قيمته، مصدرًا لا يقل أهميّة ولا دقة عن ‏المصادر المكتوبة، إذا أُحسن استغلاله، فعلى الرغم من أنَّ الرّوايات الشفويّة أقل استمراريّة أو ‏ديمومة، وأكثر عُرضة للتحريف من المصادر الماديّة والمكتوبة، إلّا أنَّ بعض الوثائق الشفويّة ‏يُحفظ في الذاكرة، وتنتقل من جيل إلى جيل دون تغيير تقريبًا. وعند هؤلاء أنَّ رفض اعتبار ‏التاريخ الشفويّ مصدرًا تاريخيًّا يُعتبر موقفًا رجعيًّا من التاريخ، الذي يقصر دور المؤرِّخ على ‏دراسة التاريخ الرَّسمي (تاريخ النُّخبة)، ودراسة القضايا التي تهمّ تلك النُّخبة، ومن شأنه أن ‏يختزل دور الشعب أو العامة من الناس.‏

لا يمكن إنكار أنَّ التاريخ الشفويّ قد أَعطى ويُعطي أبعادًا إنسانيّة طالما كانت منسيّة أو مهمّشة ‏عن ميدان التاريخ الكتابي، فضلًا عن أنه يصحِّح أو يستدرك مسار عمليّة كتابة التاريخ التي ‏ظلّت حكرًا على سِيَر القادة والأبطال والزعماء التاريخيّين والفئات المؤثِّرة في الأحداث، ويُعيد ‏التوازن إلى عملية كتابة التاريخ، ولفْت الاهتمام بالفئات والطبقات الدُّنيا، وتجارب الناس ‏العاديّين، كما المهمّشين.‏

وهكذا، فإنه يُنظر اليوم إلى التاريخ الشفويّ باعتباره حقلًا سخيًّا واعدًا ورافدًا معرفيًّا مهمًّا، يجب ‏أن يُوضع في الخطوط الأماميّة لديمقراطية التمكين للجميع، في معرفة التاريخ وتفاصيل أحداثه، ‏بما في ذلك حق الأجيال المُقبلة في الاطِّلاع على الأرشيف الوطني أو القومي. ولذا لا بُدّ من ‏الوعي بالقيمة المعرفية والتاريخية لمثل هذا النوع من الوثائق، وتاليًا حتميّة الوعي بقيمة جمعها ‏ورصدها وإنتاجها وحفظها للأجيال، وإتاحتها للجميع. وتلك مهمّة لا تكفيها حماسة العدد المتزايد ‏من الباحثين في هذا النوع من التاريخ، وإنَّما يلزمها قيام مؤسسات وهيئات بحثيّة تتبنى مشاريع ‏كبيرة في هذا الخصوص. ‏