صراع القِيَم في "سجين الزرقة"‏

للعُمانيّة شريفة التوبي

د. باسم الزعبي

كاتب أردني

 

رواية "سجين الزرقة" ليست فقط رواية عن مجهولي النَّسب، بل وعن النساء اللواتي ‏يتعرَّضن للاغتصاب والتحرُّش الجنسي، ورواية عن معاناة المرأة بشكل عام في ‏المجتمعات المحافظة. وبحسب مسار الرواية وترسيم شخصيّاتها نجد أنَّ الدولة متقدِّمة ‏على المجتمع في محاولة إيجاد حلول لـِ"مجهولي النسب" عبر رعايتهم وتعليمهم ‏وتأهيلهم، لكنَّ هذه الرِّعاية وحدها غير كافية، إذ تبقى سلطة المجتمع؛ سلطة الأعراف ‏والعادات، هي الأقوى.‏

ربَّما كُتبت أعمال أدبيّة كثيرة عن "مجهولي النَّسب" في العالم العربي، وتحوَّل الكثير ‏منها إلى أعمال سينمائيّة منذ خمسينات القرن الماضي، لكنَّ القليل تغيَّر على واقع هذه ‏الفئة من المجتمع، فعلى الرّغم من اهتمام حكومات بعض الدول العربية برعاية هذه ‏الفئة، إلا أنَّ أبناءها ما زالوا يعانون الكثير في حياتهم، خاصة في مرحلة ما بعد ‏الخروج من بيوت الرِّعاية، إذ لا يتمكّنون من الاندماج في المجتمعات التي يعيشون ‏فيها، وربّما تتضاعف أحيانًا معانتاتهم، إذْ إنَّ المجتمعات العربية بشكل عام ما زالت ‏تنظر نظرة تمييزيّة تجاه أبناء هذه الفئة، خصوصًا في جانب تأسيس الأسرة.‏

تتعدَّد الجوانب التي تناول الكُتّاب فيها هذه القضية، وربما استطاعت الكثير من ‏الأعمال أن تجذب التعاطف مع هذه الفئة، لكنَّ أكثر الأعمال بقيت في إطار التعاطف ‏الرومانسي، والقليل منها ما قدَّم صورة دقيقة عن معاناة هذه الفئة، منتقدًا الأسس ‏الاجتماعية لهذه المشكلة ولمعاناة أصحابها.‏

رواية الكاتبة العُمانيّة شريفة التوبي "سجين الزرقة"(*) الصادرة عن دار الآن ناشرون ‏وموزعون في عمّان، ربّما تكون من الروايات القليلة المهمة التي تصدَّت لهذا ‏الموضوع في السنوات الأخيرة. فبماذا تتميَّز هذه الرِّواية؟

أوَّل ما تتميَّز به هذه الرواية أنها رواية محبوكة فنيًّا بشكل ممتاز، فهي تأسر القارئ، ‏ليتابع خيوط الحدث الذي يسير في خطين، يتوازيان أحيانًا، ويتقاطعان أحيانًا، ‏ويتضافران حينًا آخر، هما خط رواية "راشد"، ابن سِفاح الأقارب، الذي يُعدَم أبوه، ‏والذي يكون زوج أم والدته، وابن "شمسة"، الفتاة القاصر، التي يغتصبها زوج أمّها ‏تحت التهديد، ولا تسلم من الإدانة لأنها، من وجهة نظر المحكمة، لم تبلِّغ أحدًا عن ‏حالة الاغتصاب، والحمل، فتُسجن لمدة عشر سنوات. ‏

والخط الآخر هو رواية الأم، الذي يكون على شكل رسائل طويلة تكتبها لابنها الذي ‏حُرمت منه طيلة خمس وعشرين سنة، ولا يستلمها إلّا دفعة واحدة في نهاية الرواية، ‏التي تكون هي بدايتها في الوقت نفسه، إذْ إنَّ زمن الرواية هو ساعات محدودة يقضيها ‏راشد في الطائرة التي تقلّه من مسقط إلى أميركا، فيقضي الساعات في قراءة ‏الرسائل، وفي الوقت نفسه تتداعى الذاكرة في سرد حكايته الخاصة من وجهة نظره، ‏فهو الذي أمضى السنوات الخمس والعشرين في انتظار والدته، التي وعدته أن تأتي ‏لتأخذه بمجرَّد أن تخرج من السجن، عندما اضطرَّت إدارة السجن إلى سحب الطفل ‏من أمه السجينة بعد مرور خمس سنوات من حبسها، وإلزامها بتوقيع وثيقة تخلّي عن ‏الطفل ليوضع في بيت الأيتام.‏

فالرواية من هذه الناحية هي ليست فقط رواية عن مجهولي النَّسب، بل وعن النساء ‏اللواتي يتعرَّضن للاغتصاب والتحرُّش الجنسي، ورواية عن معاناة المرأة بشكل عام ‏في المجتمعات المحافظة.‏

استطاعت الكاتبة التنقل في فصول الكتاب دون الإخلال بتسلسل الأحداث، بل ‏ووظفت هذا التنقل بأسلوب ذكي يجعل القارئ يتابع تطور الأحداث، ويتفاجأ كل مرة ‏بتطور جديد. فعلى الرغم من أنَّ "راشد" الذي ظلَّ ينتظر والدته خمسًا وعشرين سنة، ‏ولم تأتِ، يصل حافة اليأس، بل ويفقد الأمل تمامًا، ويستجيب لنداء صديقه سالم في ‏أميركا، ليترك بلده ويذهب هناك، تظهر له والدته في السماء بعد أن تطير به الطائرة، ‏وقبل الهبوط في أميركا، عندما يُكمل الرسائل التي بعثتها له أمه وفيها حقيقة ابتعادها ‏عنه.‏

هذه اللحظة حاسمة في الرواية، إذْ كانت اللحظة الفارقة بين اليأس والأمل، بين هزيمة ‏مبدأ الأمومة وانتصاره، بين الوطن والغربة، بين الخير والشر... ليس بالضرورة أن ‏نعرف ما هو خيار "راشد" الأخير، أهو العودة إلى وطنه، وأمه، ليبني حياة جديدة، ‏مع بارقة الأمل الجديدة التي تكشَّفت من خلال الرسائل، وبالتالي يؤكد انتصار قيم ‏الأمل والأمومة والوطن والخير، أو البقاء في أميركا، لتأكيد انتصار القيم المضادة.‏

إنَّ ظاهرة الأطفال مجهولي النَّسب ظاهرة اجتماعية معقدة، من حيث جذورها، ‏والتشريعات المتعلقة بها، وآثارها الاجتماعية والنفسية، والحلول المقترحة لها، ولم ‏تكن الكاتبة معنيّة فقط بفضح الممارسات (وهي بالمناسبة ممارسات في كل ‏المجتمعات) التي تولِّد هذه الظاهرة في القصة الرئيسة وحسب (قصة "شموس" ‏و"راشد")، بل وفي كل القصص الثانوية للسجينات الأخريات اللواتي يكون الرجال هم ‏السبب الرئيس في مآسيهن، والمجتمع الرجولي المحافظ بشكل عام، إلّا أنَّ الكاتبة، ‏حاولت على الأقل من خلال قصة "راشد" أن تبقي بصيصًا من الأمل في أن يحدث ‏تغيير في موقف المجتمع إزاء هذه القضايا. فإذا كانت المجتمعات المحافظة شديدة ‏التعصُّب والتشدُّد إزاء مجهولي النَّسب، ويتساوى هنا المتديِّنون وغير المتديِّنين، ‏المسلمون وغير المسلمين، العرب وغير العرب، وذلك لأنَّ هذه المجتمعات ما زالت ‏تسود فيها قيم أخلاقية متزمِّتة، منحازة للرجل، وتمييزية تجاه المرأة، إلا أنَّ ‏المجتمعات المدينيّة، المتشكلة في البلدان العربية بدأت تنتشر فيها قيم إنسانية جديدة، ‏مثل قيم العدالة والمساواة والحرية، فالإنسان يُنظر إليه بوصفه إنسانًا، لا بوصفه ‏عضوًا في قبيلة، والرجل والمرأة يتساويان في قيمة كل منهما، ولا فضل لأحد على ‏الآخر إلا بأخلاقه، والقوانين أصبح فيها إنصاف أكثر للمرأة، وتكون السلطة، غالبًا ‏للقانون، وليس للأعراف والتقاليد الاجتماعية، لذك نجد في الرواية أنَّ "أم شموس" ‏تنتقل للعيش في مسقط، لأنَّ لا أحد هناك -كما تقول- يهتمّ بالبحث عن جذورك، ‏وقصتك، فهم يتعاملون مع الشخص كما هو، وفيها تتمكَّن "شموس" من أن تتعلم ‏وتعمل وتجد شريك حياة، هذا الشريك يتفهّم قصتها عندما يعرفها. في حين نجد ‏‏"راشد"، الذي يستطيع أن ينسج علاقة حب مع إحدى الفتيات، إلا أنه يتلقى صدمة ‏عندما يخبرها بحقيقته، فعلى الرغم من حبها له، إلا أنها تطلب منه أن يفترقا، ويتلقى ‏صدمة أقسى عندما يقرر أن يخطبها من أبيها، فيرفضه بأسلوبٍ قاسٍ: نحن لا نزوِّج ‏‏"غبون"، أي مجهولي النَّسب. كما نجد صديقه "سالم" الذي كان معه في الميتم، يقرِّر ‏هجرة البلد بالكامل ويذهب إلى حيث "لا أحد يهتمّ بقصّتك"، لأنه كان مرفوضًا، ليس ‏فقط لأنه مجهول النَّسب، بل ولأنه أسود البشرة.‏

الكاتبة شريفة التوبي لا تعرض هذه المصائر وحسب، بل وتفضح مواقف المجتمع ‏المنافق، المتماسك في الظاهر، المنخور بالفساد الأخلاقي تحت السطح، فـ"شموس" ‏يغتصبها سِفاحا زوج أمّها المتديِّن في الظاهر، الملتزم بالمسجد والعبادة، الذي يُفترض ‏به أن يكون حاميها، وفي مقام أبيها، وفي القصص الثانوية نجد الفتاة القاصر التي ‏يتحرَّش بها والدها الأرمل، الملتزم بالعبادة وبالمسجد، أيضًا، و"حليمة" التي تعرف ‏عن خيانات زوجها، الذي هو ابن عمّها، في حين رفض والدها تزويجها من الشخص ‏الذي أحبّته، فقط لأنه ليس من طبقتهم وليس ابن قبيلة، ومجموعة الشباب، الذين ‏ينتمون إلى قبائل أصيلة، ويتحرّشون بـ"راشد" جنسيًّا، لمجرَّد أنه مجهول النَّسب، ‏والرجل الذي يتحرَّش بخادمته الهنديّة...إلخ من القصص والحكايات، غير نظرة ‏الاحتقار والتمييز التي تعاني منها "أم شموس" في الحيّ الذي كانت تسكنه، لمجرَّد ‏معرفتهم بقصة زوجها وابنتها. صعوبة حالة النساء اللواتي يتعرَّضن للتحرُّش أو ‏الاغتصاب، هو الرعب الذي تعيشه الفتاة القاصر التي تتعرض للتحرش من والدها ‏الأرمل، "التقي"، الذي يلتزم عباداته، ويلتزم المسجد، لكنَّ القاضي لا يصدِّق ادِّعاءها ‏ويدينها بالسجن لمدة ستة شهور، وعندما تنتهي الشهور الستة ترتعب من فكرة ‏خروجها، إذ ستجد نفسها وحيدة، منبوذة.‏

الشخصيّات

‏"شموس": الشخصية الرئيسة، التي تُغتصب وتحمل سفاحًا وهي طفلة، ويُحكم عليها ‏بالسجن عشر سنوات، ويُنتزع منها ابنها. "شموس" نموذج إيجابي من الشخصيات ‏النسوية اللواتي يقعن ضحايا الاغتصاب، والحمل، ويتعرّضن للظلم بالسجن، ولا ‏يجدن نصيرًا. ذات شخصية قويّة، تصرّ على الاعتراف في المحكمة أمام القاضي ‏بالحقيقة، وترفض دعوة زوج أمها وأمها لها بأن تدّعي على عامل المزرعة، ولم ‏تأخذها رأفة بزوج أمها، ذاك الوحش، الذي قتل طفولتها، ودمّر حياتها. بعد السجن ‏تتطور حياة "شموس" في اتجاه متصاعد، فهي تستطيع أن تُبقي ابنها معها في السجن ‏بدعوى الرضاعة لمدة خمس سنوات، وتتعلم داخل السجن، وتحافظ على نفسها، ‏وتبقي على تعلقها بابنها، ثم بعد خروجها من السجن، تكمل تعليمها، وتجد عملًا، ‏وتصارع الحياة، وتتزوج وتبني عائلة.‏

‏"راشد": الشخصية الرئيسة الثانية، "ابن شموس"، ينشأ في بيت الرعاية، يظل متعلقًا ‏بأمل عودة أمّه، حتى بعد أن يكبر، ويترك بيت الرعاية، ليكمل تعليمه، ويعمل، ‏ويحبّ، وهو لا يعرف سبب غياب أمّه، وما إذا كانت خرجت من السجن أم لا، إن ‏كانت على قيد الحياة أم لا، إن كانت تتذكّره أم لا. شخصيّة "راشد" أيضًا تسير في ‏خط متصاعد، إلى أن يتعرَّف على "مريم"، ويحبّها، لكنّه يتلقّى الصدمة عندما يخبرها ‏عن أصله، فيقرِّر أن يستجيب لدعوة صديقه "سالم" الذي سبقه للهجرة إلى أميركا.‏

وتوجد شخصيات ثانوية في الرواية: "أم شموس"، امرأة مستضعفة، يتوفى زوجها ‏باكرًا، فتتزوّج للمرة الثانية، وتقدّم كل التنازلات لزوجها لمجرّد أنه آواها هي وابنتها. ‏حتى عندما تعرف عن قصة اغتصاب زوجها لابنتها، تحاول أن تلملم الموضوع، ‏وتضحّي بابنتها مقابل تبرئة زوجها، "حفاظًا عليه ليبقى مظلّة لها ولعائلتها"، لكنها ‏تستعيد شخصيّتها عندما يُعدَم زوجها، فتقرِّر الانتقال بعائلتها إلى مكان آخر، وتعود ‏للتواصل مع ابنتها "شموس" في السجن.‏

و"مريم" ابنة العائلة الثريّة، المثقفة التي تحب "راشد"، والتي تضحّي بعلاقة الحب ‏مقابل السُّمعة الاجتماعية.‏

وشخصيّة "سالم" صديق "راشد"، مجهول النسب أيضًا، الذي لا يعرف شيئًا عن ‏أهله على الإطلاق، يعاني كثيرًا بسبب نسبه المجهول، وسواد بشرته، إلا أنه صاحب ‏عزيمة، يتفوّق في الدراسة ويحصل على منحة للدراسة في أميركا. "سالم" يرفض ‏المجتمع الذي كان يعيش فيه، وينشد خلاصه الفردي خارج حدود بلده الذي لا يشعر ‏بالانتماء إليه أصلًا، بسبب موقف الناس منه.‏

‏"زوج شموس": لا تُعرض شخصيّته كثيرًا. فقط يُشار له أنه رجل لطيف، قبِل ‏الزواج بـ"شموس" على الرّغم من فقرها، ومن ادعائها بأنها كانت متزوِّجة من قبل، ‏لكنه عندما يعرف قصة زوجته بالصُّدفة، يأخذ موقفًا نبيلًا، إذ يتفهَّم قصتها، ‏ويصدقها، ويسعى معها لاستعادة "راشد".‏

وهناك شخصيّات السجينات، وكل واحدة منهنّ لها قصّتها، وجميعهنّ يشتركن ‏بالظروف القاهرة نفسها التي أوصلتهنّ للسجن، ويشتركن في حب "راشد"؛ الطفل ‏الوحيد في السجن.‏

ومن اللافت هنا الشخصيات العامة، فـ"القاضي"، على سبيل المثال، كان صارمًا في ‏حكم الإعدام على مغتصب "شموس"، وإدارة السجن، والسجّانات، كانوا متعاطفين ‏مع "شموس"، ولا يظهر أيّ نوع من سوء المعاملة، أو الظروف القاسية.‏

وكذلك الأمر في إدارة دار الرعاية، إذ نجد المديرة متعاطفة مع "شموس" وتسمح لها ‏برؤية ابنها ولو من بعيد، وتستلم منها الهدايا له، وتفتح له حساب توفير للمبالغ التي ‏ترسلها الأم.‏

وكأنَّ الكاتبة تودّ أن تقول إنَّ الدولة تقوم بواجبها تجاه هذه الفئة من المواطنين، لكن ‏الخلل في المجتمع نفسه، بأعرافه، وعاداته، وتقاليده.‏

ومن الشخصيات الملفتة في الرواية شخصية "سلوى" المصابة بآفة السَّرقة، لمجرّد ‏السَّرقة، لكنَّنا نجد لديها نَفَسًا متمردًا على المجتمع، فلا تكترث للسجن.‏

الشخصيّات في الرواية تسعى للخلاص الفردي، مع بعض التعاطف، مثل تعاطف ‏‏"شموس" مع زميلاتها السجينات اللواتي خلّفتهنّ وراءها، إذْ ظلّت ترسل لهنّ الهدايا، ‏دون أن تزورهن، إذ كانت تخشى على نفسها وسمعتها. بمعنى، أنها اكتفت ما إن ‏توصلت إلى حلٍّ لمشكلتها. وعلى الرغم من أنها أصبحت متعلّمة، إلّا أنَّنا لم نلحظ ‏تطوُّرًا في الوعي تجاه قضايا الظلم الذي تتعرَّض له النساء في المجتمع، وأن يتحوّل ‏هذا الوعي إلى فعل.‏

وإذا ما عدنا إلى المشكلة الرئيسة في الرواية وهي مشكلة مجهولي النَّسب، نجد أنَّ ‏الدولة متقدمة على المجتمع في محاولة إيجاد حلول لهذه الفئة، إذ تفتح لهم دورًا ‏للرِّعاية، وتوفِّر لهم كافة الظروف حتى يكملوا تعليمهم ويصبحوا مؤهَّلين ليعيشوا ‏مستقلّين. لكنَّ هذه الرِّعاية وحدها غير كافية، إذ تبقى سلطة المجتمع؛ سلطة الأعراف ‏والعادات، هي الأقوى. فإذا ما نظرنا إلى مصائر ثلاثة أشخاص من نزلاء دار ‏الرعاية: "راشد"، و"سالم"، و"أحمد"، ثلاثتهم لم يحتضنهم المجتمع، على الرغم من ‏النجاحات التي حققها "سالم"، ونسبيًّا "راشد". "راشد" ظلَّ يعيش على أمل أن تأتي ‏أمّه، وظلَّ يعتقد أنَّ أمّه يمكنها أن تنتشله من الوضع القلق، الميؤوس منه، الذي كان ‏يعيشه، كان يعيش حياة متوترة، على الرغم من دخوله في علاقة حب، إذ تبقى ‏تلاحقه قصّته الحقيقيّة، حيث كان يدرك أنَّ هذه العلاقة غير قابلة للحياة، فسعادته لم ‏تطل كثيرًا. أمّا "سالم" فكان قد حسم موقفه مبكرًا، إذ أدرك مبكرًا أنه غير مقبول من ‏المجتمع الذي يعيش فيه لسببين: أنه مجهول النسب، من جهة، ومن جهة أخرى، أنه ‏أسود البشرة، فيسعى لخلاصه الفردي بطريقته، إذ يجتهد في دراسته ويحصل على ‏منحة دراسية في أميركا. أمّا "أحمد"، الذي يخرج من دار الأيتام، فلا يتقبّله المجتمع ‏إلا بصيغة مجرم، تاجر مخدرات. وتبدو هذه النماذج الثلاثة تمثل مصائر مجهولي ‏النسب من خريجي دور الرعاية من الذكور، والوضع بالتأكيد سيكون أسوأ بالنسبة ‏للإناث، على الرغم من أنَّ الرواية لم تقدِّم أي نموذج من هذه الفئة.‏

الرواية لا تقدم حلولًا للمشكلة المطروحة، لكنها تعرض لها، ولأسبابها الحقيقيّة ‏والواقعيّة، وتثير التعاطف مع شخصياتها، وتحرِّض على الوقوف ضدّ القيم السائدة ‏في المجتمع تجاه هذا الموضوع، وهي بشكل أو بآخر تدين الأطراف التي تتسبَّب ‏بوجود هذه المشكلة...إلخ. ربما لا تجد الكاتبة من مسؤوليّتها تقديم الحلول، فهي تبقى ‏مسؤوليّة المجتمع كاملًا.‏

ربّما كان بودّ القارئ أن يرى حركة اجتماعيّة تنتصر لهذه الفئة من المجتمع بشقيها ‏الأطفال مجهولي النسب، أو الفتيات والنساء اللواتي يتعرّضن للاغتصاب والتحرُّش ‏والتمييز، لكنَّ الروائي في نهاية المطاف، ليس كاتبًا اجتماعيًّا، فهو يعكس الواقع كما ‏هو، لا كما يتصوّره. ‏

وتجدر الإشارة إلى دلالات عنوان الرِّواية "سجين الزرقة"، فسجين الزرقة في الرواية ‏هو "راشد"، الذي ظلَّ محتفظًا بالغطاء الأزرق الذي تشبَّث به عندما جاؤوا وانتزعوه ‏من أمِّه في السجن، ويظلّ هذا الغطاء رمزًا لارتباطه بأمِّه، ورمزًا للأمل. لكن ليست ‏زرقة الغطاء وحدها هي ما كان "راشد" سجينها، بل زرقة البحر (في علاقة الحب ‏مع مريم) وزرقة السماء، وهو يرحل إلى عالم آخر- عالم الحريّة. اللون الأزرق ظلَّ ‏يأسره بالأمل، إذ يتحوَّل هذا اللون إلى رمز للحياة والأمل والحرية. وهذا ما جسّدته ‏بامتياز في لوحة الغلاف الفنانة القديرة بدور الريامي، إذ صوَّرت يدًا تمسك بشال ‏أزرق لامرأة ماضية في أفق أبيض وسماء زرقاء، ويتحوَّل الشال في اليد إلى شيء ‏يشبه الغطاء، فجمعت الفنّانة في اللوحة الزرقة ودلالاتها.‏

‏- - - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) شريفة التوبي، سجين الزرقة، رواية، الآن ناشرون وموزعون، عمّان، 2020.‏