الشعر والسينما بين مقولتين

‏"مقولة الكينونة" و"مقولة العلاقة"‏

 

‏ يوسف يوسف ‏

‏ ناقد أردني ‏

yousefyousef2006@yahoo.com

في بحثه حول الشعر والسينما، وإن كان بينهما علاقة، أم أنَّهما كينونتان مستقلّتان، يذهب كاتب ‏هذه الدراسة إلى أرجحيّة غلبة (مقولة العلاقة) على الأخرى (مقولة الكينونة)، ويلفت الانتباه إلى ‏قصائد تبدو استفادتها من السينما واضحة تمامًا، ومنها: قصيدة "زيارة" للشاعر يوسف الصايغ، ‏وقصيدة "زرقاء اليمامة" للشاعر عزالدين المناصرة، إذ فيهما تجاوزٌ واضحٌ لإشكاليّة العلاقة بين ‏الجنسين، وذلك من خلال توظيفهما بعض مكوّنات السينما، وتحوُّلهما من قصيدتين قوامهما ‏المفترض الألفاظ، إلى معالجتين رؤيويتين.‏‎ ‎

 

عند تناول ثيمة التقارب والتباعد بين الشعر والسينما، تقف أمام الأنظار مقولتان متضادتان إلى ‏حدٍّ بعيد: الأولى (مقولة الكينونة) التي يرى أصحابُها أن لكلٍّ من السينما والشعر (كينونته ‏الخاصة) التي تختلف جذريًا عن الكينونة الأخرى. ومن شأن أصحاب هذه المقولة الدفع باتجاه ‏الافتراق، وعدم التقاء الجنسين أحدهما بالجنس الآخر. وأمّا الثانية فإنها (مقولة العلاقة) التي ‏يُرَجّحُ فيها أصحابُها أمرَ التقارب بين الجنسين، والتفاعل أحدهما مع الجنس الآخر، واستفادتهما ‏من بعضهما بعضًا: الشعر من السينما، والسينما من الشعر. وبصرف النظر عمَّنْ يعتقدُها الواحدُ ‏منا المقولة الأصحّ، فإنه من الواضح الاختلاف في طريقة التعبير، وأنَّ لكلٍّ من الجنسين حقيقته ‏الفنيّة المغايرة، أو وسيلته الخطابية التي يوصل بها رسالته إلى المتلقي، قارئًا كان هذا المتلقي ‏كما هي الحال في الشعر، أو متفرِّجًا كما هي الحال في السينما، وإن كانت العين في الحالتين -‏حالة القراءة ورؤية المفردات على الورق، وحالة رؤية الصور المتعاقبة على الشاشة- بكل ما ‏فيها ممّا تسمّى (القوة القذفيّة)، هي قبل غيرها مَن تقوم بعملية الكشف عمّا في الرسالة التي ‏يبعثها إليها كلٌّ من الشاعر أو المُخرج وبالطريقة المعروفة للجميع، حتى وإن كان مثل هذا ‏الفعل: رؤية المفردات أو رؤية الصور يحدثُ في مكانين مختلفين: الأوَّل المكان المضيء الذي ‏ينبغي أن نقرأ فيه الكلمات، والثاني المكان المعتم الذي تتم فيه رؤية الفيلم، صالة صغيرة كان ‏المكان، أو قاعة عرض سينمائية واسعة. وعلى الرغم من أنَّ التلقي في حالة الشِّعر يبقى فرديًّا ‏في الغالب، أي على اختلاف عن التلقي الجماعي كما هو في حالة الفيلم، إلا أنَّ القصد هنا ليس ‏البحث عن اختلافات بين الجنسين، وإنما الكشف عن حقيقة كل منهما، وتسليط الأضواء على ما ‏يمكن أن يجعلهما يلتقيان أو يفترقان. فما تسمّى (لغة السينما) تختلفُ عمّا تسمّى (لغة الشعر)، ‏ولربما لهذا السبب: الاختلاف بين اللغتين المستخدمتين في التوصيل، يصعِّبُ الحديث عن زواج ‏نموذجي بينهما، على الرغم مما بينهما من دواعي الالتقاء وأسبابه، دون أن ننسى أننا في الوقت ‏نفسه، يصعُب علينا الحديث عن طلاق قطعي لا رجعة عنه بينهما.‏

لا نريد الإيغال هنا في تناول عمل العين وآليّة هذا العمل، لكن الرؤية بها بحسب ما يراه "جاك ‏أومون"، وبصرف النظر عن نوع الوسيط التعبيري: مفردة كان هذا الوسيط أو صورة، تفترض ‏وجود عدة أعضاء متخصصة، تنجم عنها باستمرار ثلاثُ عملياتٍ متميزة ومتتالية: بصرية ‏وكيميائية وعصبية، من شأنها تمهيد الطريق لفهم المعنى(1). ومع هذا المفهوم، والقبول بعدم ‏متابعة هذه العمليات والتفصيل فيها، نرى نمطين من الإدراك: الأوَّل يرتبط بإدراك معنى ‏الصورة، والثاني بإدراك معنى المفردة، الأمرُ الذي يقوِّض مختلف الدعوات لوجوب الانفصال ‏بين الجنسين، خصوصًا وأننا في في بعض الحالات، كحالة الشاعر إبراهيم نصرالله، سنرى ‏صورًا بجانب المفردات التي نراها هي الأخرى بالعين ذاتها. وإذا كانت المفردة هي ما تغذّي ‏إدراك القارئ لفهم المعنى، فإنَّ الصورة هي الأخرى تغذّي إدراك المتفرِّج لتحقيق هذا الفهم، أي ‏أنَّ كلتيهما -كل واحدة منهما بطريقتها- تساهمان في عملية الفهم؛ فهْم الرسالة على هذا النحو أو ‏ذاك.‏

إننا بالوقوف أمام ما نراها حالة إبراهيم نصرالله الخاصة، إنما نقصد لفت الانتباه إلى أهمية ‏الصورة في شعره، التي هي كما يعرف المهتمون بالشأن السينمائي، ليست سوى جزء بسيط من ‏الواقع المرئي [بصرف النظر إن كانت هذه الصورة في الفيلم أو في القصيدة] على اعتبار أنها ‏وكما نعرف يتم إنتاجها عمدًا بهدف نقل مدركاتٍ ومضامين وتأثراتٍ أوليّة(2). ونصرالله في ‏هذا الاستخدام إنما يقصد الحدَّ من طغيان اللغة، على اعتبار أنها في الجانب الآخر من وجودها، ‏يتم تكريسها للمفهمة والتصنيف بدرجة كبيرة. والأمر الآخر الذي ينبغي الانتباه إليه، وعدم التقليل ‏من شأنه، يرتبط بطبيعة المحرّك الأساسي للإدراك، الذي هو الدماغ في عمليات استقبال كلا ‏الجنسين، إذ بفضل ما يقوم به من نشاط، يدرك المتفرج ما في الصورة من معنى، ومثله قارئ ‏القصيدة الذي يدرك ما في المفردة من معنى.‏

هنا قد يشير القارئ إلى (الصور الشعرية) على اعتبار أنها أحد أهم مقوّمات القصيدة، وإلى أنها ‏في زمان ظهورها قد سبقت نظيرتها (الصور المرئيّة) التي اعتاد النقاد الإشارة إليها إذا ما تناول ‏أحدهم علاقة الشعر بالسينما. وسوى هؤلاء أيضًا ممَّن يؤمنون هم الآخرون بـ(مقولة الكينونة) قد ‏يقولون: إنَّ الشعر (الوصفي التصويري) في الأدب، ظهر إلى الوجود قبل اختراع السينما بما لا ‏يقل عن القرن من الزمان. وهذا القول -كما نعرف- فيه القدر الوافي من الصحة، بل وإنه ممّا ‏يُمكن إضافته في هذا المجال القول: إنَّ إنسان العصر الحجري القديم كان قد أنتج صورًا ثابتة، ‏وأخرى غيرها تمثيلية، شاهدنا الكثير منها فوق جدران الكهوف والمغاور. لكن ممّا يجدر ذكره ‏في أعقاب هذا أنَّ اختراع الصور المتحركة في ذاتها، المزوَّدة بقدرة خاصة على التغيير ‏‏(الحركة) ترك تغييرًا أساسيًا في إطار علاقة الصور بمشاهديها في مختلف انحاء العالم(3). ‏ولعله لا يغيب عن الأذهان، الحديث عن (حضارة الصورة) الذي ظهر منذ ستينات القرن ‏العشرين مع توسع انتشار السينما. إنه الإحساس بظهور نوع جديد من أنواع التواصل، يعتمد ‏المرسلُ فيه على الصورة، التي لم يعُد من الممكن صرف النظر عمّا يمكن أن تقدمه للنص ‏الأدبي.‏‎ ‎

إنَّ حال الشعر بعد ظهور مصطلحات الحداثة والتجديد، وكذلك بعدما اكتشف الشعراء أهمية ‏الصور المرئية وإمكانية الاستفادة منها في إنجازاتهم، لا بدَّ أن يطرأ عليها التغيير، وكذلك التبدُّل ‏في تقنيات الكتابة، الأمر الذي أعطى الغلبة لـ(مقولة العلاقة)، حتى وإن كنّا لا نرى مثل هذه ‏العلاقة إلا عند عدد قليل من الشعراء، وبدرجات تتفاوتُ الدالات إليها بين شاعر وآخر. ولعلّنا ‏في هذا التصوُّر والميل إلى ترجيح غلبة (مقولة العلاقة)، نلتقي مع مَن يرى أنَّ الشعر من حيث ‏كونه عملية إبداع وصناعة يقوم بها فردٌ بعينه، ينبغي عليه في قوامه ولكي يكون شعرًا جيدًا، أن ‏يدرِّبنا على النظر بصورة أفضل، على الرغم من أنَّ الكلمات التي فيه، تبقى عمياءَ بحسب ما ‏يذهب إليه "ريجيس دوبرى"(4) وهو ما كان قد أشار إليه "أوكتافيو باث" بالقول:‏

‏"بين ما (أراه) وما (أقوله)‏

‏ بين ما (أقوله) وما (أصمتُ) عنه‏

‏ بين ما (أصمتُ) عنه وما (أحلمُ) به ‏

‏ بين ما (أحلم) به وما (أنساهُ) يكون الشِّعر"(5).‏

في كتابه (الوعي والفن) يوجب "غيورغي غاتشف" النظر إلى النص الأدبي على أساس ما لحق ‏به من التطوُّر، بشرط أن يكون الحديث عن هذا الجانب منطقيًّا. وهنا وبالنظر إلى المقترب في ‏هذه الدراسة، ينبغي الانتباه إلى تاريخيّة الصورة في الشعر، وتاريخيّة علاقة الشعر بالسينما، ‏كليهما وليس إلى أحدهما دون النظر إلى الآخر. بهذا المعنى ينبغي أن تكون بنية المجتمع في كل ‏لحظة، مفتاحًا لمنهج فهم الطبيعة وعلاقة الانسان بها، وفهم كل ثمرة من ثمار النشاط الإنساني، ‏ومن بين ذلك بنية الصورة ذاتها(6). وهذه الصورة عند إبراهيم نصرالله لا شك سبقتها تجارب، ‏لا ننكر هذا، كما وأنها تصاحبها تجارب أخرى لهذا الشاعر أو ذاك. لكن ليس هذا هو المهم، ‏فالأساس معرفة موقعها من حركة تطوُّر الإنسان، وما أنجز خلال حياته من المتغيرات، ‏وأضاف من الممكنات الفنية الجمالية، بما في ذلك (الصور المرئية). إنه التطور في الوعي ما ‏كان "غاتشف" يقصده بالحديث عن ثمار النشاط الإنساني: إنَّ الإنسان الذي عاش في ظروف ‏المجتمع البدائي لم يكن يفهم إلا علاقات القربى البدائية والأكثر صلة به. وتبعًا لهذا الواقع كما ‏كان يفهمه، كان يطلق أحكامه على الطبيعة والمجتمع وكل شيء في العالم. إنه التفسير على وفق ‏علاقات القربى وليس أبعد من هذا(7). وهكذا وبعد أن ظهرت السينما في نهايات القرن التاسع ‏عشر، أصبح تفسير القصيدة يتم من خلال النظر إلى ما حولها من الموجودات والأشياء، ‏لاحتمالات تأثر الشاعر بها وعلى منوال تأثر الإنسان بالطبيعة التي حوله في الكثير ممّا أنتج ‏وأنجز‎.‎

بيد أنَّ القول بأرجحيّة غلبة (مقولة العلاقة) لا يقوِّضُ الأساس الذي يقوم عليه الشعر مثلًا، ولا ‏الأساس الذي تقوم عليه السينما كذلك. وهو أيضًا لا يخرجه من الإطار الذي نعتبره فيه متوالية ‏لغويّة، شأنه في التعبير فيها ليس هو شأن النثر ولا شأن السينما هي الأخرى، والخلاصة فإنَّ ما ‏وصل إليه إبراهيم نصرالله لا ينأى عن إطاره التاريخي الذي نما وتطوَّر فيه ولا عن إطاره ‏الاجتماعي كذلك. وإذا ما كان الشعرُ غالبًا ما يبحثُ عن أدواتٍ ووسائلَ للتمويه والمواربة، فإنَّ ‏السينما بعكسه تمامًا، ترفض القيام بمثل هذا السلوك، بل وإنها تحاول الابتعاد عنهما قدر ‏المستطاع، بحكم طبيعتها، وإن بقي ما بين الجنسين من المجاورة وإمكانات التلاقح‎ ‎أقوى من تلك ‏التي يمكن أن تدعو إلى التنافر والتباعد، وابتعاد هذا الجنس منهما عن الجنس الآخر.‏‎ ‎

وفي الضدِّ من هذا النزوع إلى التقارب، قد يقول بعضهم إنَّ الشعر في طبيعته أكثر ميلًا إلى ‏النخبوية والغموض، وأنه ممّا لا تفهمه العامة من الناس في الغالب، فيما السينما بعكسه: ‏جماهيريّة وفي مقدور العامة من الناس فهمها على نحو جيد. لكن المهم القول هنا إنَّ الصور ‏المتحركة التي ابتكرتها السينما، أصبحت إحدى أهم العلامات الدالة على مشاركتها الفاعلة في ‏عملية (صوْغ ذائقة الشاعر الجمالية، بدالة قيام عدد من الشعراء الطامحين إلى تخصيب ‏نصوصهم الشعرية، بتحويل أدواتهم اللفظية بما فيها من التجريد من حالة المفهمة والتصنيف ‏المشار إليها آنفًا، إلى حالة أخرى غيرها صوريّة، الأمر الذي كان من شأنه ظهور مصطلحات ‏نتبين من خلالها فاعلية التداخل بين الجنسين، والمديات التي وصل إليها هذا التداخل والتلاقح، ‏وهي مديات واسعة ومترامية ومنها للتوضيح: الشاعر السينمائي، القصيدة السينمائية، الفيلم ‏الشاعري، المخرج الشاعر، الشاعر المخرج، وسواها مما يطرح ثيمة حتمية العلاقة والالتقاء، ‏ومما يمكن أن يصاحبها من التطور في بناء القصيدة مع الزمن. فالشاعر السينمائي مثلًا هو ذلك ‏الشاعر الذي في شعره نزعة قوية إلى السينما، والفيلم الشاعري هو ذلك الفيلم الذي يذهب ‏المخرج فيه باتجاه الشعر فيختار طريقته في التعبير: التكثيف والحلم وسواهما ممّا في الشعر ‏الناجح، وهكذا إلى غير ذلك ممّا سيأتي لاحقًا هنا وهناك في متن الدراسة.‏

وهذه المصطلحات لئلا يغيب عن الأذهان، استقرَّت في المجالات التي يتم التعامل معها فيها، ‏وأصبحت لها حدودها المتعارف عليها بين النقاد، ومثل ذلك أصبحت لها ملامحها المميزة، التي ‏بقدْر المحافظة عليها وترسيخها، يصبح الحديث حول (مقولة العلاقة) جديًّا ومُلهمًا لكلٍّ من ‏الشعر والشعراء والسينما والسينمائيين على حدٍّ سواء، بدالّة قول الناقد اليوم وفي يقين وبغير ‏خشية من خلل في الاستخدام: المضمون الشعري في السينما، ليس هو التجسيد الشعري الذي ‏فيها. فالأوَّل: المضمون الشعري، إنَّما يعني التصوير الانطباعي، ومثله الإخراج الانطباعي، فيما ‏الثاني الذي هو التجسيد الشعري يرتبط بقوام الفيلم، أي بشكله وبطريقة إخراجه ذاتها، أي بجسد ‏الفيلم في تعبير آخر.‏

ولمّا كانت التجربة الشعرية في ماهيّتها والتطبيقات إليها تجربة في مادة الشعر البنائيّة التي هي ‏الألفاظ، فقد صار من اللازم عليها إذا ما أراد صاحبها الارتقاء بها، بعْثَ صور إيحائية يعيدُ ‏الشاعر -كما يقول السعيد الورقي- من خلالها إلى الكلمات، قوة معاينتها التصويرية الفطرية ‏الموجودة في اللغة أساسًا(8). وما نودُّ تأكيده هنا، وهذه هي العتبة التي علينا عبورها، أنَّ مثل ‏هذا القول فيه ما يؤكد صوابه، وذلك لأنَّ استخدام المفردات في القصيدة على وفق ما هو ‏متعارف عليه من المعاني في التفسير المعجمي كما يرى "جان كوهن"، لا يُنتجُ الشعريّة، وإنَّما ‏ينتجها خروجُ الشاعر بالمفردات من طبيعتها الراسخة، إلى طبيعة أخرى جديدة(9).‏

وإلى ما نذهب إليه من القول بأرجحيّة غلبة (مقولة العلاقة) على الأخرى (مقولة الكينونة)، نلفت ‏الانتباه إلى تلك القصائد التي تبدو استفادتها من السينما واضحة تمامًا، ونوردها هنا في مجرى ‏دراسة التطوُّر في الشعر، ومنها: قصيدة "زيارة" للشاعر يوسف الصايغ، وقصيدة "زرقاء ‏اليمامة" للشاعر عزالدين المناصرة، إذ فيهما وكما سيكتشف القارئ هو الآخر، تجاوزٌ واضحٌ ‏لإشكالية العلاقة بين الجنسين، وذلك من خلال توظيفهما بعض مكوّنات السينما، وتحوُّلهما من ‏قصيدتين قوامهما المفترض الألفاظ، إلى معالجتين رؤيويتين.‏‎ ‎

 

قصيدة "زيارة"‏

‏ (جرسُ البابِ) (يُقرَعْ)‏

‏ (ينهضُ) من نومه

‏ (يتطلعُ) (من فتحةِ الستارة)‏

‏ (يرجعُ) مرتبكًا

‏ (يتردَّدْ)‏

‏ (ينظرُ) ثانيةً

‏ (يتفرَّسُ)‏

‏ (يجلسُ) (فوق الأريكةِ)‏

‏ (يسمعُ صوت خطىً) في (ممرِّ الحديقةِ)‏

‏ (ينهضُ) مرتبكًا

‏ (طرقتانِ على البابِ)‏

‏ (ثالثةٌ)‏‎ ‎

‏ ‏‎-------- ‎

‏ (يضحكُ) من نفسهِ

‏ (ثانية‎ (‎‏(يغلقُ الباب)‏

ثم (يجلسُ) (فوق الأريكةِ)(10).‏

 

 

قصيدة "زرقاء اليمامة"‏

‏(تتدلى أشجارُ التينِ) (على الحيطان الشرقيةِ)‏

‏(نتلقّى الدرسَ الثاني)‏

‏(تحت الشمسِ الصاحية) النيْسانيةْ

‏(نكبرُ) (نهجرُ) (ساحة ظلِّ الحانوتْ)‏

‏(نحلمُ) بـ(الشرنقةِ المنسوجةِ من أوراق التوتْ)‏

‏(لكن يا جفرا الكنعانية)‏

‏(قلتِ لنا) إنَّ (الأشجارَ تسيرْ

على الطرقاتِ)‏

‏(كجيشٍ محتشدٍ تحتَ الأمطارْ)‏

‏(أقرأهُ سطرًا سطرًا) رغم (التمويه)‏

لكن يا (زرقاء العينينِ) ويا (نجمةَ عتمتنا الحمراءْ)‏

‏(كُنّا نلهثُ) في (صحراءِ التيه)‏

‏(كيتامى منكسرين) على (مائدة الأعمامْ)‏

ولهذا ما صدّقكِ سواي (لهذا كنتُ الناجي)‏

‏(تخبّأتُ في عبِّ داليةٍ) ثم (شاهدتُ من فتحةٍ ضيّقةٍ)‏

‏(سكاكينهم).. و(الظلالْ)‏

ثم (شاهدتُ) ما لا يُقالْ

‏(كان الجيشُ السفاحُ مع الفجرْ)‏

‏(ينحرُ سكان القرية) في عيدِ النحرْ

‏(يُلقي تفاحَ الأرحامِ) بقاع النهرْ

‎ ===‎

‏(رفَّتْ عيني اليسرى).. (شبَّتْ نارْ)‏

‏(ورأيتكِ في الصورةِ) (تحت التوتة في ظلِّ الدارْ)‏

‏(إلفكِ مدَّ جناحيهِ)، (توارى)، (غابْ)‏

‏(ينقشُ أشعار الحزنِ) على تفاحة

‏(يأتي العفنُ) المزمنُ يا تفاحةْ

‏(يمحو) من ذاكرتي (صور الأحبابْ)‏

في اليوم التالي يا زرقاءْ

‏(قلعوا) (عين الزرقاءِ الفلّاحة)‏

في اليوم التالي يا زرقاءْ

‏(خلعوا التينَ الأخضرَ) (من قلب الساحةْ)‏

في اليوم التالي يا زرقاء...إلخ)(11).‏

وفي هذا المقام تهمّنا الإشارة إلى أنَّ كلا الشاعرين يقدِّمان للمتلقي مُدرَكات صوريّة محدَّدة: ‏الأوَّل الشاعر يوسف الصايغ الذي يتمثَّل مركز الثقل الدلالي في قصيدته برجُل يلاحقه الحسُّ ‏بالمطاردة، فتتحوَّل حياته إلى جحيم حقيقي ترسمُ الصور ملامحه على نحو واضح، والثاني ‏الشاعر عزالدين المناصرة الذي يتمثَّل مركز الثقل الدلالي في قصيدته بواحدة من مجازر ‏الصهاينة في قتلهم الفلسطينيين، تقدِّمها كما هي في الواقع صور منتقاة. وإلى ما وضعناها من ‏المفردات بين أقواس، وبالذات منها تلك التي تشير إلى أفعال وقعت، وكذلك إلى الأخرى التي ‏ترتبط بالمكان وفيزيائيّته- اهتمام السينما الكبير، وهي ممّا تظهر لنا فيها مُدرَكات صوريّة، ‏يصبحُ في مقدور القارئ اكتشاف ما في القصيدتين من السردية العالية، ومثل ذلك معرفة ما ‏فيهما من أثر السينما من حيث كونها كما سبق القول: متوالية صوريّة فيها صراع وشخصيّات.‏

أمّا الناقدة بشرى البستاني، وفي مجرى حديثها عن التداخل بين الشعر والسينما، فإنها تتناول ما ‏أسمته (الاهتزاز) في نظرية الأجناس الذي حتمَّ حدوثَ مثل هذا التداخل، وكذلك هجرة مفهوم ‏الشعرية من حيث كونها تشكيلًا لغويًّا إلى مختلف الفنون الإبداعية الأخرى، وقد ذهبت البستاني ‏في تفسيرها لعلاقة الشعر بالسينما إلى الاعتقاد بأنَّ الشاعر وبسبب تأثير الواقع عليه، وكذلك ‏بسبب بحثه عن مخصِّباتٍ لفنِّه الشعريّ، راح يبحثُ عن ذلك الشكل الشعري القادر على ‏استيعاب تجربة العذاب الكبرى التي يخوضها ضدَّ قوى عاتية تشتغلُ على أهداف محدَّدة ‏ومرسومة، فوجده في الاستعارة الممكنة من السينما(12).‏

وأمّا الناقد السينمائي "باركر تيلر" الذي يُعتبر أحد أبرز المهتمين بدراسة العلاقة بين الشعر ‏والسينما، فكان هو الآخر قد توقف أمام تمفصل بعض تقنيات الشعر في السينما، ومثل ذلك أمام ‏تمفصل بعض تقنيات السينما في الشعر. وكان ممّا اكتشفه عند التقاء هذه التقنيات ببعضها ‏بعضًا، إنتاج إبداع فني متميز. صحيح أنَّ مثل هذا الرأي في زمانه (خلال عقدي الأربيعنات ‏والخمسينات من القرن الماضي) قد جاء في مجرى محاولات إيجاد سينما طليعيّة في الولايات ‏المتحدة، إلا أنه ومع أقوالٍ أخرى لنقاد وسينمائيين سوى "باركر"، كان قد مهَّد الطريق لظهور ‏تلك المصطلحات التي سبق ذكرها، الأمر الذي يعني أنَّ بدايات هذه العلاقة ظهرت منذ زمن ‏بعيد، وليست ابنة هذه الأيام التي يكثر تداولها فيها، بل وإنَّ تلك العلاقة بين الشعر والسينما ما ‏كانت لتحدث لو لم يكن الشعر أداةً مرئيّةً هو الآخر. وإلى هذا الرأي نستطيع القول كذلك أن ‏الشعر ينضوي بشكل أوتوماتيكي في الواقع تحت صنفين هما: الشعر الذي هو أداة مرئيّة، ‏والشعر الذي هو أداة لفظيّة(13). ‏

 

 

الهوامش

‏(1)‏ للمزيد: جاك أومون، الصورة، ترجمة ريتا الخوري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2013.‏

‏(2)‏ الصورة، المصدر نفسه، ص131.‏

‏(3)‏ الصورة، نفسه، ص323.‏

‏(4)‏ ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة د.فريد زاهي، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، ‏ص56.‏

‏(5)‏ عن عزالدين المناصرة، الأعمال الشعرية 1962-1992، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ‏بيروت 1994، من المقدمة.‏

‏(6)‏ غيورغي غاتشف، الوعي والفن، ترجمة د.نوفل نيوف، سلسلة عالم المعرفة 149، الكويت، ‏‏1990، ص13.‏

‏(7)‏ الوعي والفن، المصدر السابق، ص17.‏

‏(8)‏ السيد الورقي، لغة الشعر الحديث، دار النهضة للطباعة، بيروت، 1984، ص64.‏

‏(9)‏ جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، المغرب، ‏‏1976، ص129.‏

‏(10)‏ عن فاتن عبدالجبار، الإخراج الشعري، مجلة الأقلام البغدادية، 2/2001.‏

‏(11)‏ عزالدين المناصرة الأعمال الشعرية، المصدر السابق، ص48.‏

‏(12)‏ د.بشرى البستاني، جماليات السينما في الشعر الحديث، موقع مؤسسة النور الإلكتروني‎ ‎‏11-‏‏4-2015.‏

‏(13)‏ الشعر والفيلم (ندوة)، ترجمة فلاح رحيم، مجلة الأقلام البغدادية، 4/1988.‏