"معركة الكرامة الخالدة"‏

 

‏أوَّل انتصارٍ عربيٍّ على آلةِ الحربِ الإسرائيليّة

 

‏ د. خليف مصطفى غرايبة

كاتب وباحث أردني

 

 

ها هي مجلّة "أفكار" تواصلُ صدورها بانتظامٍ منذ عام ‏‎1966‎؛ الأمر الذي يدلّ على ‏الرِّعاية والمتابعة الفائقتيْن اللتين تُوليهما وزارة الثقافة من جهةٍ، وهيئات تحريرها ‏ورؤساؤها من جهةٍ أخرى، مهما كانت المعوّقات والصّعوبات الّتي واجهتها خلال ‏عمرها المديد.‏

 

إنَّ "أفكار" ليست مجلّة أردنيّة بقدر ما هي عربيّة للجميع ولكلِّ قلم عربيّ مبدع، وهي ‏وإن كان يهمّها أن تُقدّم الوجه الثقافي للأردن فإنّ من أسمى أمانيها الغالية هو أن تلتقي ‏في رحابها الأقلام العربيّة الرّاسخة المحترفة، والشّابة الواعدة المجدِّدة على مستويات: ‏البحث والدّراسة الجادّيْن، والمقال الخصب العميق، يُتوّج كل ذلك مُنجزات الإبداع ‏العلمي والأدبي من قصة ورواية، وشعر ومختلف الفنون الأدبيّة والتراثيّة.‏

 

وفي تحليلٍ مُوجَزٍ للسِّيَر الذاتيّة لرؤساء تحرير هذه المجلّة خلال مسيرتها المُباركة ‏نجد أنه تقلّد رئاسة تحريرها ما يزيد على عشرين مُفكّرًا ونجمًا وأستاذًا من خيرة ‏روّاد الثقافة الأردنيّة العربيّة بامتياز، ندعو الله أنْ يرحم كلّ مَن قضى منهم، وأنْ يمدَّ ‏بأعمار كلّ مَن بقى بصحة وعافية وسعادة، وأنْ يُسامحنا كلّ من غفلنا عن ذِكر دَوْره ‏‏-بغير قصدٍ بكلّ تأكيد- ممّن عملوا بجدّ وإخلاص عبْر هيئات المجلّة وإداراتها ‏المتعاقبة، مع احترامنا الشديد لألقابهم العلميّة والاجتماعيّة الفكريّة، فهذه القامات ‏الشامخة هم رموز الثقافة الأردنيّة، وتخليد ذكرهم بين الحيْن والآخر واجبٌ علينا. ‏وهذا ما كان في هذه التوطئة قبل أن نخوض في الحديث عن معركة الكرامة الخالدة، ‏التي تفرد لها مجلة "أفكار" ملفًا خاصًّا في هذا العدد.‏

 

ليوم ‏‎21‎‏ آذار من كلّ عام مكانة مُميّزة في الثقافة الأردنيّة، ففي هذا اليوم ذكريات ‏ثلاث غالية في المجتمع الأردني، ففيه ذكرى يوم الأم، والاعتدال الربيعي، وهي ‏ذكرياتٍ عالميّةٍ، لكن ما يُميّز الأردن في هذا اليوم هو ذكرى الانتصار في معركة ‏الكرامة الخالدة من عام ‏‎1968‎م، من خلال التحام الجيش الأردني والفصائل ‏الفلسطينيّة ضدّ العدوّ المُشتَرَك.‏

 

سُمِّيت معركة الكرامة بهذا الاسم‎ ‎نسبةً لمنطقة‎ ‎الكرامة المطلّة على نهر الأردن في ‏الجزء الشرقي من غور الأردن، ودارت فيها‎ ‎المعركة‎ ‎بين جيش الاحتلال الإسرائيلي ‏مِنْ جِهةٍ، والجيشِ الأردني والفصائل الفلسطينيّة مِنْ جِهةٍ أخرى.‏

 

في صباح يوم الخميس ‏‎21‎‏ آذار ‏‎1968‎‏ شنَّت القوات‎ ‎الإسرائيليّة‎ ‎هجومًا واسعًا ‏على الضفة الشرقيّة لنهر الأردن امتدَّ من جسر الأمير محمد شمالًا حتى جنوب ‏البحر الميت، وكان‎ ‎هدف‎ ‎الهجوم -بحسب‎ ‎ما‎ ‎أعلنت "إسرائيل" في حينه- القضاء ‏على مواقع الفدائيين الفلسطينيين في مخيّم‎ ‎الكرامة.‏

 

دخل الجيش الإسرائيلي بغطرسةٍ واضحةٍ إلى الأراضي الأردنيّة من أربعةِ مقترباتٍ ‏هي‎:‎

 

‏- مقترب العارضة‎:‎‏ ويأتي من جسر الأمير محمد في‎ ‎غور داميا‎ ‎إلى مثلث ‏المصري وطريق العارضة الرئيس إلى‎ ‎السلط‎.‎

‏- مقترب وادي شعيب‎:‎‏ ويأتي من جسر الملك حسين‎ ‎‏(اللنبي‎ ‎سابقًا) إلى‏‎ ‎الشونة ‏الجنوبية، إلى الطريق الرئيس المحاذي‎ ‎لوادي شعيب‎ ‎ثم السلط، وكان الهجوم ‏الرئيس موجَّهًا نحو الشونة الجنوبية، وكانت القوات الإسرائيلية الرئيسة ‏المخصَّصة للهجوم مُركّزة على هذا المحور الذي يمكن التحوُّل منه إلى بلدة ‏الكرامة والرامة والكفرين جنوبًا.‏

‏- مقترب سويمة: ويأتي من جسر الأمير عبدالله إلى غور الرامة وناعور ‏إلى‎ ‎عمّان‎. ‎

‏ - محور غور الصافي:‏‎ ‎ويأتي من جنوب‎ ‎البحر الميت‎ ‎إلى غور الصافي فالطريق ‏الرئيس حتى‎ ‎الكرك.‏

 

كان النصر في المعركة للجيش الأردني والفصائل الفلسطينيّة، واستشهد ‏خلال‎ ‎المعركة‎ 86 ‎جنديًّا أردنيًّا، وأُصيب ‏‎108‎‏ من الجنود الأردنيين والفلسطينيين، ‏وقُتل من الجانب الإسرائيلي ‏‎250‎‏ جنديًّا، وجُرح‎ ‎ما‎ ‎يقارب ‏‎450‎‏ جنديًّا إسرائيليًّا، ‏وتمّ تدمير العديد من آليّات العدوّ، لتُسطّر معركة الكرامة أوَّل انتصار عربي (أردني- ‏فلسطيني)، بعد تسعة أشهر على هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران/ يونيو ‏عام ‏‎1967‎‏.‏

 

وأخيرًا نقول وبكلِّ فخر: يُعتبر يوم معركة الكرامة من الأيّام الخوالد بحقٍّ في ‏تاريخنا، ويبقى من الشّواهد الحيّة لقدرة الشعوب والأمم على النُّهوض، ورسم ‏تاريخها بصورتهِ المُشرقةِ الزّاهيةِ.‏

 

وهنا يحضرني قول المغفور له بإذن الله الملك الباني: "وإنَّنا فيما نبني وفيما نعمل ‏لرفعةِ الله والوطن، سبيلنا الوحدة، وشيمتنا الكرامة".