ماندالا الشَّهيد

مخلد بركات

روائي وقاص أردني

 

 

 

وانغلق الشُبّاك على قارورة ريحان، وبدت الصورة في إطار، موشَّحة بفراشات خلف ‏الأفق، وابتسامة غامضة تحت شاربين أسودين، ووجه لوَّحته الشمس.‏

اعتادت الحاجّة (كرامة) أن تشبك يديها المعروقتين خلف ظهرها، وهي تسير وئيدًا ‏صوب الحافة الطالّة على الغور، ثم تعود لتشعل غليونها وتسقي الريحانة، وتناظر صورة ‏في إطار، لتهمس في داخلها: ‏

‏-‏ الشهداء لا يموتون.‏

في ليلة تشرينيّة وإيقاع المطر خافت، كالنُّواح البعيد، تسمَّرَتْ أمام الصورة، ولم تُشعل ‏غليونها بجمرة، أو تبغ، كان هناك في الركن مائلًا على جنبه كناي مقسوم إلى أغنيتين، ‏وصارت تتساءل عن حكمة اسمها، وعلاقته بذلك اليوم الآذاريّ من العام 1968 حينما ‏نادتها الجارة صارخة:‏

‏-‏ كرامة، يا كرامة، تراه اليوم يوم الكرامة، رجالنا لليهود بالمرصاد.‏

وحينما فتحت الشُبّاك، طالعت الأفق الغَوْريّ، لتلمح دوائر من برق، وأدخنة تنبعث من ‏الأودية، ومن مزارع الموز البعيدة، وشعرت بقشعريرة حينما حدست أنَّ دمه يسحُّ يانعًا، ‏ساخنًا بلون شقيقة نعمان اعتادت أن تراها خلف السنسال الحجري في الكرم الذي يتسلق ‏أعلى منحدرات الغور، وانسلّت إلى حجرة لم تُفتح منذ سنين لتُخرج قارورة فخاريّة في ‏العمق منها، ترابٌ قليل، وزرعت ريحانة، وهي تتمتم: ‏

‏-‏ الشهداء لا يموتون.‏

على مرمى أربعين سنبلة، من بيت الحاجّة (كرامة) التي ترمَّلت مبكرًا، كانت تربض ‏المدفعيّة السادسة عيار 155 ملم، يحيطها جنود يلبسون الكاكي، ظهروا يلقِّمونها بالعتاد ‏وهي ترتدّ إلى الخلف ثم تهيج، ثم تطلق قذائفها إلى الغرب من الحكاية، شمَّرت عن ‏ساعديها وأشعلت النار تحت الصّاج القرويّ وراحت ترتِّب دوائر خبز "الشراك" بعضه ‏فوق بعض، ثم تسير إليهم ليعلو صوتها كالرَّبابة:‏

‏-‏ هيه، يا رجال الكرامة، هذا خبز كرامة، وليدي هناك يحارب تراه مثلكم، (افلحوا ‏عالزّاد).‏

وتلمس باليد المعروقة، نبتة الريحان التي تناهز خمسين اخضرارًا، والرائحة مطرية، ‏نشوى ومسكونة بتراب القرى والنصر الذي طوَّقه الجنود قلادة تشعُّ كالقمر على جيد ‏الوطن.‏

وحينما تحدّق مجددًا في الصورة، تستذكر مدفعيّة ترتدّ إلى الخلف ثم تهيج، وجنود ‏يلقمونها العتاد، وهم يغمسون الخبز بالحلاوة البلديّة، ويهزجون الهجيني، وأغاني ‏الأسلاف.‏

ذات مرّة، وهي تجلس صامتةً في حفلٍ لتكريم ذوي الشهداء والمحاربين القدامى الذين ‏شاركوا في معركة الكرامة، ظلّت تحدِّق في الرجل الذي عاد يحمل حكايته القديمة، ‏أفراحه ذات معركة على ضفاف النهر الذي يحرسه الصفصاف والحلفاء، وطيور أبي ‏الحنّاء، وقيل لها إنه حينما دخل إلى متحف الدبّابات التي شاركت في المعركة، صمت ثم ‏بكى وانطلق يعانق إحدى الدبابات وهو يتمتم:‏

‏- دبابتي، هاي دبابتي، كنتُ داخلها، ما زالت حيّة تتنفس.‏

جلس بجانب الحاجة (كرامة) فمالت إلى أذنه وهمست له:‏

‏-‏ ترى الريحانة تحرس القرى، ودبابتك أغنية، وبين الريحانة والأغاني صلات ‏قديمة يا شجاع.‏

‏"عيرا"(*) قرية تتسلّق السماء، اعتادت الحاجّة كرامة هناك أن تجالس جاراتها تحت ‏شجرة المشمش أمام الدار الكبيرة، عند حافة الغروب والأفق الطال على غور الأردن، ‏تحصي كلام الجارات العجائز وثرثراتهنّ، لكن ما يظلّ عالقًا في ذهنها، عبارة "الحاجّة ‏كرامة مصيرها الجنّة، ولدها الشهيد يشفع لها"، لتروح في تذكارها إلى البعيد، حينما ‏طلع اسمه في الراديو (حمدان اليوسف نجح....). وبُنيت بيوت الشَّعر لاستقبال المهنئين، ‏ودارَ في القرى الخبر "حمدان اليتيم نجح في التوجيهي، وطلع اسمه في الراديو" ‏وقرَّرت أن يلتحق بعدها بالكليّة العسكريّة.‏

ويخرجها من لجّة الذكريات، صوت متقطع:‏

‏-‏ هيه يا أم حمدان، الدنيا أغربت.‏

كلّما تنضج ثمار المشمشة، وتحمرّ كالجمر، يهجم بعض الأطفال ويتسلقونها، رامين ‏الثمار على الأرض، لطفل يقف صامتًا على مقربة من ظلال الشجرة، تطالعهم الحاجّة ‏كرامة من الشبّاك المحروس بالريحانة، ويسري في أوصالها تيّار ناعم من فرح مؤجَّل، ‏لتهمس:‏

‏-‏ واحد منهم حمدان، بيها العافية يا ربّ.‏

وتتكثّف الحكاية في صورة، على شكل "ماندالا" مبقَّعة بالدوائر والأزهار، معلّقة منذ ‏أواخر العام 1968 فوق جدار غربي، في الدار الكبيرة، وجه أسمر لوّحته الشمس، ‏بشاربين كثين، حاد النظرات بابتسامة غامضة، وكلما تشيخ شجرة المشمش، وتكفّ عن ‏خصوبة الإثمار، تشعر الحاجّة كرامة بدنوّ الأجل، وتظلّ حزينة على مصير الريحانة في ‏القارورة، والصورة المعلّقة هناك.‏

إيقاع الأسئلة في داخلها طاحونة:‏

‏-‏ هل تجد ساقيًا من قلبه يرشّها بالماء؟ هل تُباع الدار الكبيرة إلى واحد من أغنياء ‏المدينة لتهبط الصورة وتسكن في مخزن؟

كأنّما تعيد تركيب المشهد الذهني، في داخلها:‏

‏-‏ حينما تُعلّق الذاكرة على جدار، يصير التراب أكثر عشبًا، ويحمرّ المشمش أمام ‏طفل وحيد خارج قوس الظلّ.‏

يمرُّ الناس كلَّ عيد بكثير من القبور، ولا يعثرون على قبر أم حمدان، على الرغم من ‏موتها منذ سنين، وممّا قيل إنَّها رجعت ذات ليلة ماطرة في آذار إلى الدار الكبيرة، وهي ‏هناك بشحمها ولحمها تتلمّس الريحانة أمام صورة معلّقة على جدار.‏

ومن وقتها لم يجرؤ أحد على دخول الدار أو الطلوع إلى أغصان المشمشة.‏

وحال لسان القرى:‏

‏-‏ للحاجّة كرامة عيون كثيرة، تحرسنا.‏

‏- - - - - - - - - - - - - - - - ‏

 

‏(*)عيرا: قرية تقع إلى الغرب من مدينة السلط، محافظة البلقاء، نُصبت فيها مدفعيّة إبان ‏معركة الكرامة 1968، وحقّقت ضربات موجعة للعدوّ الصهيوني حينما دمّرت الجسور ‏التي يستخدمونها.‏