محمد يوسف موسى متحدِّثًا عن الدين والفلسفة ‏ عند ابن رشد وفيلون الإسكندري

د. ربيعة بورقبة

باحثة مغربية

 

موضوع الدين والفلسفة من المواضع الجديرة بالاهتمام، فعلى الرّغم من تناول ‏الفلاسفة والمفكرين للموضوع في القدم، إلا أنَّ الحاجة ماسة اليوم لسبر أغوار القديم ‏وفهمه، خاصّة وأنَّنا نشهد وجود طرفي نزاع بين مُمجِّد للفلسفة وحدها، وبين مُمجِّد ‏للدين وحده والاقتصار على النص دون إعطاء مجال للعقل. ‏

كي نسلِّط الضوء أكثر على جديّة العلاقة بين الدين والفلسفة سنتوقف في هذا المقال ‏مع آراء الباحث محمد يوسف موسى (1899- 1963)؛ الفقيه الأصولي المصري ‏وأحد أعلام الأزهر المجددين، الذي اشتغل على هذا الموضوع في أطروحة دكتوراه ‏بجامعة السوربون بعنوان: "الدين والفلسفة في رأي ابن رشد وفلاسفة العصر ‏الوسيط"، فكيف قارب محمد يوسف موسى جدليّة الدين والفلسفة عند ابن رشد وفيلون ‏الإسكندري؟

الإحساس بالحاجة إلى التوفيق بين الدين والفلسفة أمر طبيعي يحسُّه المؤمن المفكر أو ‏الفيلسوف، ومحاولة هذا التوفيق تعتبر إلى حد كبير واجبًا لازم الأداء، وذلك ليحقق ‏الانسجام بين معتقده الديني العامر به قلبه، والذي يعتبره فوق كل شك.‏

إنَّ وجوب تقرير العلاقة بين الوحي والعقل، لا ينكره ابن رشد ولا غيره من الفلاسفة ‏المسلمين بوجه عام؛ ولذلك نراه يصحّ في أكثر من موضع من كتاباته بأنَّ الحكماء ‏من الفلاسفة لا يجيزون الجدل في مبادئ الشرائع. ويرون أنه لا ينبغي أن يتعرض ‏بقول مثبِت أو مُبطِل في مبادئها العامة، وأنه يجب أن نقلّد الأنبياء والواضعين لتلك ‏الشرائع فيما جاءوا به من مبادئ العمل وصنوف العبادات التي تؤدّي للمصلحة الخُلقية ‏والاجتماعية. ‏

العلاقة بين الوحي والعقل في رأي ابن رشد

إذا رجعنا للعصر الذي عاش فيه فيلسوف قرطبة، وتمثلنا الأثر الذي أحدثه الغزالي ‏بكتابه "تهافت الفلاسفة"، رأينا فيلسوفنا مُضطرًا لبذل غاية جهده؛ لإماتة هذا الأثر أو ‏إضعافه على الأقل، وذلك بعملٍ له أسسه ودعائمه، يبيِّن العلاقة التي ينبغي أن تكون ‏بين الدين والفلسفة، حتى لا يقوم بينهما عداء أو نزاع.‏

وقد أقبل ابن رشد على العمل الذي أحسَّ ضرورته، وخصَّص للغاية التي أراد ‏الوصول إليها كتابيه: "فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" ‏و"الكشف عن مناهج الأدلّة في عقائد الملّة". ذلك فضلًا عمّا خصّصه لها أيضًا من ‏كتابه "تهافت التهافت". ‏

ونستطيع القول إنَّ فيلسوف الأندلس لم يعتدّ بالدين وحده دون العقل، بل حاول أن ‏يسلك طريقًا وسطًا، وذلك ببيان أنَّ كل من الحكمة والشريعة في حاجة إلى الأخرى، ‏وأنَّ لكل منهما ناسها وأهلها، وخلص ابن ارشد إلى المبادئ التالية:‏

ـ الشريعة أو الدين، توجب التفلسف.‏

ـ الشريعة لها معان ظاهرة للعامة، وأُخَرٌ باطنة للخاصة، ومعنى هذا وذاك وجوب ‏التأويل أحيانًا ولبعض الطبقات من الناس.‏

ـ وضع قواعد خاصة بتأويل النصوص.‏

ـ تحديد مدى قدرة العقل، الصلة بينه وبين الوحي.‏

وقد‎ ‎انتهى‎ ‎ابنُ‎ ‎رُشد‎ ‎من‎ ‎ذلك‎ ‎كله‎ ‎إلى‎ ‎أنَّ‎ ‎الحكمة‎ ‎والشريعة‎ ‎أو‎ ‎الفلسفة‎ ‎والدين، أخُتان‎ ‎ارتضعتا‎ ‎لِبانًا‎ ‎واحدًا،‎ ‎وأنهما‎ ‎يتعاونان‎ ‎في‎ ‎إسعاد‎ ‎البشر. وفيما يلي بيان لهذه المبادئ:‏

أولًا: الشريعة توجب التفلسف‏

بدأ ابن رشد بالتدليل على أنَّ الشريعة (القرآن والحديث) توجب النظر الفلسفي، كما ‏تُوجب استعمال البُرهان العقلي، لمعرفة الله وموجوداته، وساق لهذا وذاك دليلًا من ‏القرآن وهو قوله تعالى في سورة الحشر: (فَاعْتَبِرُوا يَا أوُلِي الْأبَصَارِ﴾، مبينًا أنَّ ‏‏"الاعتبار" هنا ليس إلا استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس الفلسفي.‏

وإذا كان الشرع يُوجب أن نلتمس تأويل ما لا يتفق معه من النصوص، على أن يتفق ‏هذا التأويل وقواعد اللغة العربية؛ وذلك لأنَّ من المقطوع به -كما يقول ابن رشد- أنَّ ‏كل ما أدّى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع؛ أنَّ هذا الظاهر يقبل التأويل حتى لا ‏يصطدم الشرع والعقل، كما أنه من الجائز أن يؤدّي البرهان إلى نتائج تتفق وظواهر ‏النصوص التي أجمع المسلمون على تأويلها، أو تتفق والمعاني الخفيّة الباطنة التي ‏أجمعوا عل أخذها بحسب ظواهرها، وبعبارة أخرى يجوز أن يؤدي البرهان إلى ‏مخالفة الإجماع في الأمور النظريّة، ما دام الإجماع لا يُمكن أن يتحقق بيقين من ‏العلماء جميعًا في عصر من العصور.‏

ثانيًا للشريعة ظاهر وباطن

والسبب كما يذكر ابن رشد في وجود نصوص من القرآن والحديث تتطلب التأويل ‏لمعرفة المعاني الخفية المُرادة منها، ووجود نصوص أخرى يراد منها ما تدلّ عليه ‏من المعاني الظاهرة، أو بعبارة أخرى، السبب في انقسام الشريعة إلى ظاهر له أهله ‏وهم العامة وأشباههم، وباطن له أهله وهم ذوو البرهان، هو أنَّ الناس مختلفون في ‏الفِطَر والعقول؛ ولهذا تختلف استعداداتهم وقُدَرُهم ووسائلهم إلى فهم وإدراك ما جاءت ‏به الشريعة. وهم بسبب هذا الاختلاف والتفاوت ثلاث طوائف:‏

ـ الخطابيون: وهم الجمهور الغالب الذي يصدق بالأدلة الخطابية.‏

ـ أهل الجدل، ومنهم رجال علم الكلام: وهم الذين ارتفعوا عن العامة ولكنهم لم يصلوا ‏لأهل البرهان اليقيني.‏

ـ البرهانيون: بطبعهم وبالحكمة التي أخذوا أنفسهم بها.‏

ثالثًا: قانون التأويل وقواعده

ابن رشد يرى أنَّ التأويل ضروري لخير الشريعة والحكمة مها، ففي ختام كتابه ‏‏"الكشف عن مناهج الأدلة" يُعنى بوضع قانون يبين به بحسب تعبيره: "ما يجوز من ‏التأويل في الشريعة وما لا يجوز، وما جاز منه فلمن يجوز". وهذا البيان أو القانون ‏يتلخص في أنَّ المعاني الموجودة في الشرع خمسة اصناف:‏

‏1ـ أنْ‎ ‎يَكُون‎ ‎المعنى‎ ‎الظَّاهر‎ ‎من‎ ‎النَّص هو‎ ‎المُراد‎ ‎حقيقة‎ ‎في‎ ‎نفس‎ ‎الأمر،‎ ‎وهذا‎ ‎الصنف‎ ‎لا‎ ‎يجوز‎ ‎تأويله‎ ‎مُطلقًا،‎ ‎بل‎ ‎يجب‎ ‎أخذه‎ ‎بحسب‎ ‎ظاهره‎ ‎للناس‎ ‎جميعًا‎.‎

‏2ـ أن‎ ‎يكون‎ ‎المعنى‎ ‎الظَّاهر‎ ‎للنص‎ ‎ليس‎ ‎مرادًا،‎ ‎بل‎ ‎هو‎ ‎مثال‎ ‎ورمز‎ ‎للمعنى‎ ‎المقصود ‏حقيقة،‎ ‎ولكنَّه‎ ‎لا‎ ‎يُعلم‎ ‎أنَّه‎ ‎مثال،‎ ‎ولا‎ ‎لماذا‎ ‎اختير‎ ‎بذاته‎ ‎ليكون‎ ‎مثالًا‎ ‎ورمزًا‎ ‎لذاك‎ ‎المعنى ‏الخفي،‎ ‎إلا‎ ‎بقياسات‎ ‎بعيدة‎ ‎مُرَكَّبة‎ ‎لا‎ ‎يوصَل‎ ‎إليها‎ ‎إلا‎ ‎بتعلُّم‎ ‎طويل‎ ‎وعلوم‎ ‎جَمَّة،‎ ‎لا‎ ‎يقدر ‏عليها‎ ‎إلا‎ ‎الخاصة‎ ‎من‎ ‎الناس،‎ ‎وهذا‎ ‎الصِّنف‎ ‎لا‎ ‎يجوزُ‎ ‎أن‎ ‎يؤوِّله‎ ‎إلا‎ ‎الرَّاسخون‎ ‎في‎ ‎العلم، ‏وليس‎ ‎لأحدهم‎ ‎التصريح‎ ‎به‎ ‎لسواهم‎.‎

‏3ـ أن‎ ‎يكون‎ ‎المعنى‎ ‎الظاهر‎ ‎مثالًا‎ ‎ورمزًا‎ ‎أيضًا‎ ‎لمعنى‎ ‎آخر‎ ‎خفي،‎ ‎ولكن‎ ‎من‎ ‎اليسير أن‎ ‎يُفهم‎ ‎أنَّه‎ ‎مثال‎ ‎ولماذا‎ ‎هو‎ ‎بذاته‎ ‎مثال،‎ ‎وهذا‎ ‎الصنف‎ ‎ليس‎ ‎لأحد‎ ‎الأخذ‎ ‎بظاهره،‎ ‎بل لا‎ ‎بد‎ ‎من‎ ‎تأويله،‎ ‎والتصريح‎ ‎بهذا‎ ‎التأويل‎ ‎للجميع‎.‎

‏4ـ أن‎ ‎يكون‎ ‎المعنى‎ ‎الظاهر‎ ‎مثالًا: ولكن‎ ‎يعرف‎ ‎بنفسه‎ ‎أو‎ ‎بعلم‎ ‎قريب‎ ‎أنه‎ ‎مثال،‎ ‎وبعلم‎ ‎بعيد‎ ‎لا‎ ‎تقدر‎ ‎عليه‎ ‎العامة‎ ‎ومن‎ ‎في‎ ‎حكمهم‎ ‎لماذا‎ ‎هو‎ ‎بنفسه‎ ‎مثال، وذلك مثل قوله صلى ‏الله عليه وسلم: "الحجر‎ ‎الأسود‎ ‎يمين‎ ‎لله‎ ‎في‎ ‎الأرض"، وهذا الصنف تأويله خاص ‏بالعلماء ويؤوِّلونه‎ ‎لأنفسهم‎ ‎خاصة،‎ ‎ويُقال‎ ‎للآخرين‎ ‎الذين‎ ‎شعروا‎ ‎أنه‎ ‎مثال،‎ ‎ولكن‎ ‎ليسوا‎ ‎من‎ ‎أهل العلم‎ ‎الذين‎ ‎يعرفون‎ ‎لماذا‎ ‎هو‎ ‎مثال‎:‎‏ إنَّه‎ ‎من‎ ‎المُتشابه‎ ‎الذي‎ ‎يجبُ‎ ‎عدم‎ ‎البحث‎ ‎عنه،‎ ‎إلا للعلماء‎ ‎الرَّاسخين،‎ ‎أو‎ ‎ينقل‎ ‎لهم‎ ‎التمثيل‎ ‎لما‎ ‎هو‎ ‎أقرب‎ ‎إلى‎ ‎معارفهم‎ ‎ومداركهم.‏

‏5ـ وأخيرًا،‎ ‎أن‎ ‎يكون‎ ‎المعنى‎ ‎الظاهر‎ ‎مثالًا‎ ‎ورمزًا‎ ‎لآخر‎ ‎خفي،‎ ‎ولكن‎ ‎لا‎ ‎يتبيّن‎ ‎أنَّه‎ ‎مثال‎ ‎إلا‎ ‎بعلم‎ ‎بعيد،‎ ‎ومتى‎ ‎عُرِفَ‎ ‎أنه‎ ‎مثال‎ ‎يتبين‎ ‎بعلم‎ ‎قريب‎ ‎لماذا‎ ‎اختير‎ ‎بذاته‎ ‎ليكون‎ ‎مثالًا له. ‏وهذا‎ ‎القسم‎ ‎من‎ ‎المُمكن‎ ‎أنْ‎ ‎نَقُول‎ ‎إنَّ‎ ‎الأحفظ‎ ‎للشرع‎ ‎ألا‎ ‎يُتعرَّض‎ ‎لتأويله،‎ ‎بل‎ ‎الأوْلى ‏بالنِّسبة‎ ‎لغير‎ ‎العلماء‎ ‎أن‎ ‎نبطل‎ ‎الأمور‎ ‎التي‎ ‎من‎ ‎أجلها‎ ‎ظنوا‎ ‎أنَّ‎ ‎المعنى‎ ‎الظاهر‎ ‎من‎ ‎النص ‏هو‎ ‎مثال‎ ‎لآخر‎ ‎خفيٌّ‎ ‎هو‎ ‎المراد‎ ‎منه،‎ ‎ولنا‎ ‎كذلك‎ ‎أن‎ ‎نقولَ‎ ‎بجواز‎ ‎التأويل‎ ‎لهؤلاء‎ ‎أيضًا، ‏وذلك‎ ‎لقوة‎ ‎الشبه‎ ‎بين‎ ‎المعنى‎ ‎الخفي‎ ‎المراد‎ ‎وبين‎ ‎ما ضُرب‎ ‎رمزًا‎ ‎ومثالًا‎ ‎له‎.‎

وبعد‎ ‎هذا‎ ‎التفصيل؛‎ ‎يذكر‎ ‎فيلسوف‎ ‎قرطبة أنَّ‎ ‎هذين‎ ‎الصنفين‎ ‎‏(الرابع‏‎ ‎والخامس)‏‎ ‎متى‎ ‎أبُيح‎ ‎التأويل‎ ‎فيهما‎ ‎تولَّدت‎ ‎منه‎ ‎اعتقادات‎ ‎غريبة‎ ‎وبعيدة‎ ‎عن‎ ‎ظاهر‎ ‎الشريعة،‎ ‎ورُبَّما فشت‎ ‎فأنكرها‎ ‎الجمهور. يُريد‎ ‎أن‎ ‎يقول‎ ‎إنَّ‎ ‎الخير‎ ‎في‎ ‎هذا‎ ‎هو‎ ‎البُعد‎ ‎عن‎ ‎التأويل. ولهذا‎ ‎لمّا‎ ‎أخذ‎ ‎في‎ ‎تأويل‎ ‎نصوص‎ ‎الشريعة‎ ‎مَن‎ ‎لم‎ ‎تتميَّز‎ ‎له‎ ‎هذه‎ ‎المواضع‎ ‎كالمتصوّفة ولا تميّز‎ ‎له‎ ‎الصنف‎ ‎من‎ ‎الناس‎ ‎الذين‎ ‎يجوز‎ ‎التأويل‎ ‎في‎ ‎حقهم، اضطرب‎ ‎الأمر‎ ‎في‎ ‎الدين،‎ ‎ووُجد‎ ‎بين‎ ‎المسلمين‎ ‎فِرَق‎ ‎يُكِّفر‎ ‎بعضها‎ ‎بعضًا،‎ ‎وهذا‎ ‎كله‎ ‎جهل‎ ‎بما‎ ‎قصد‎ ‎الشارع،‎ ‎وتعدٍّ على‎ ‎الشريعة‎ ‎نفسها‎.‎

هذا،‎ ‎ولكي‎ ‎نتقي‎ ‎أمثال‎ ‎هذه‎ ‎النتائج‎ ‎السيئة،‎ ‎وزرْعَ‎ ‎العداوة‎ ‎بين‎ ‎الشريعة‎ ‎والفلسفة يجب‎ ‎بصفة‎ ‎عامة‎ ‎‏-كما‎ ‎يقول‎ ‎ابن‎ ‎رشد-‏‎ ‎ألّا‎ ‎يصرّح‎ ‎بالتآويل‎ ‎وبخاصة‎ ‎البرهانية‎ ‎لغير أهلها،‎ ‎وهُم‎ ‎أهل‎ ‎البرهان،‎ ‎كما‎ ‎يجبُ‎ ‎ألا‎ ‎تثبت‎ ‎هذه‎ ‎التآويل‎ ‎في‎ ‎الكتب‎ ‎الخطابية‎ ‎والجدلية ‏الموضوعة‎ ‎للعامة‎ ‎وأمثالهم‎ ‎من‎ ‎أهل‎ ‎الجدل،‎ ‎وإلا‎ ‎أدّى‎ ‎ذلك‎ ‎إلى‎ ‎إبطال‎ ‎ظواهر‎ ‎النصوص ‏التي‎ ‎يفهمها‎ ‎الواحد‎ ‎من‎ ‎هاتين‎ ‎الفئتين،‎ ‎مع‎ ‎العجز‎ ‎عن‎ ‎إدراك‎ ‎التأويل‎ ‎البرهاني،‎ ‎فيضلّ ‏ويقع‎ ‎في‎ ‎الكفر‎ ‎إن‎ ‎كان‎ ‎ذلك‎ ‎في‎ ‎أصول‎ ‎الشريعة‎.‎

رابعًا: تحديد‎ ‎مدى‎ ‎قدرة‎ ‎العقل

‎ ‎والصلة‎ ‎بينه‎ ‎وبين‎ ‎الوحي

إنَّ فيلسوف الأندلس مهما أشاد بالعقل ونظره وقدرته على المعرفة، يصرِّح بأنَّ هناك ‏أمورًا يعجز العقل عن معرفتها، وإذن فلنرجع إلى الوحي الذي جاء متممًا لعلم العقل، ‏فإنَّ "كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسانَ من قِبَل الوحي"، ويضيف ابن ‏رشد أنَّ الفلسفة تُعنى بتعرُّف ما يجيء به الشرع، فإن أدركته كان ذلك أتم في ‏المعرفة، وإلا أعلنت بقصور العقل الإنساني عنه، وأنَّ هذا ممّا يدركه الشرع وحده.‏

فالأمور‎ ‎التي‎ ‎لا‎ ‎يكتفي‎ ‎العقل‎ ‎بنفسه‎ ‎في‎ ‎معرفتها‎ ‎تتلخص -كما‎ ‎يرى‎ ‎فيلسوف‎ ‎الأندلس-‏‎ ‎في‎ ‎معرفة الله،‎ ‎والسعادة‎ ‎والشقاء‎ ‎الإنساني‎ ‎في‎ ‎هذه‎ ‎الحياة الدنيا‎ ‎وفي‎ ‎الحياة‎ ‎الأخُرى‎ ‎أيضًا،‎ ‎ووسائل‎ ‎هذه‎ ‎السعادة‎ ‎وأسباب‎ ‎هذا‎ ‎الشقاء‎.‎‏ وذلك‎ ‎بأنَّ‎ ‎الفلاسفة (ولعله‎ ‎يُريد‎ ‎الفلاسفة‎ ‎اليونان)‏‎ ‎يرون‎ ‎أنَّ‎ ‎الإنسان‎ ‎لا‎ ‎تقوم حياته‎ ‎وسعادته‎ ‎في‎ ‎هذا‎ ‎العالم‎ ‎وفي‎ ‎العالم‎ ‎الآخر،‎ ‎إلا‎ ‎بالفضائل‎ ‎النظرية‎ ‎التي‎ ‎لا‎ ‎يوصل إليها‎ ‎إلا‎ ‎بالفضائل‎ ‎الخلقية،‎ ‎وهذه‎ ‎الفضائل‎ ‎لا‎ ‎تتمكَّن‎ ‎في‎ ‎النفس‎ ‎إلا‎ ‎بمعرفة‎ ‎الله‎ ‎وتعظيمه بالعبادات‎ ‎المشروعة‎ ‎بحسب‎ ‎الملل‎ ‎المُختلفة،‎ ‎مثل‎ ‎القرابين‎ ‎والأدعية‎ ‎والصلوات،‎ ‎ونحو‎ ‎هذا وذاك‎ ‎ممّا‎ ‎لا‎ ‎يُعرف‎ ‎إلا‎ ‎من‎ ‎الشرع‎ ‎الموحى‎ ‎به.‏

هكذا يمكننا القول إنَّ‎ ‎ابن‎ ‎رشد‎ ‎ظلَّ‎ ‎أمينًا‎ ‎بخصوص وجوب تقسيم‎ ‎الناس‎ ‎إلى‎ ‎طبقات‎ ‎بحسب‎ ‎استعداداتهم‎ ‎وعقولهم،‎ ‎فإنَّ‎ ‎منهم‎ ‎العامة‎ ‎والخاصة، ويجبُ‎ ‎أن‎ ‎يكون‎ ‎لكل‎ ‎طائفة‎ ‎منهم‎ ‎تعليم‎ ‎خاص،‎ ‎وبهذا‎ ‎يبقى‎ ‎الوئام‎ ‎بين‎ ‎العقل‎ ‎والوحي أو‎ ‎بين‎ ‎الفلسفة‎ ‎والدين‎ ‎اللذين‎ ‎لكلٍّ‎ ‎منهما‎ ‎غرض‎ ‎خاص،‎ ‎ولا‎ ‎يصطدم‎ ‎أحدهما‎ ‎بالآخر‎.‎

وقد‎ ‎يدلُّ‎ ‎أيضًا‎ ‎على ما‎ ‎نذهب‎ ‎إليه‎ ‎من‎ ‎بقاء‎ ‎ابن‎ ‎رشد‎ ‎أمينًا‎ ‎لمذهبه‎ ‎العقلي،‎ ‎ما‎ ‎أَكَّدَه‎ ‎مرارًا ‏من‎ ‎أنَّه‎ ‎يجبُ‎ ‎ألا‎ ‎يُصرح‎ ‎للجمهور‎ ‎‏-حرصًا‎ ‎على‎ ‎سعادته- بما‎ ‎يؤدي‎ ‎إليه‎ ‎النظر‎ ‎العقلي ‏من‎ ‎العلوم‎ ‎التي‎ ‎سكت‎ ‎عنها‎ ‎الشرع. فإنَّ‎ ‎هذا‎ ‎معناه‎ ‎أنه‎ ‎فيما‎ ‎يختص‎ ‎بالعلماء،‎ ‎أي‎:‎‏ طبقة‎ ‎الخاصة،‎ ‎لا‎ ‎يُعتبر‎ ‎شيء‎ ‎من‎ ‎المعاني‎ ‎والحقائق‎ ‎التي‎ ‎لم‎ ‎يصرِّح‎ ‎بها‎ ‎الشَّرع‎ ‎خافيًا، بل‎ ‎إنَّ‎ ‎عقولهم‎ ‎لتصل‎ ‎إلى‎ ‎إدراكها‎ ‎ومعرفتها‎.‎

وأخيرًا‎ ‎لعلَّ‎ ‎الحق‎ ‎هو‎ ‎أن‎ ‎نقرر‎ ‎أنَّ‎ ‎فيلسوف‎ ‎الأندلس‎ ‎لا‎ ‎يصح‎ ‎أن‎ ‎يوصف‎ ‎بأنه‎ ‎عقلي ‏إزاء‎ ‎جميع‎ ‎الناس‎ ‎وفي‎ ‎كل‎ ‎حال،‎ ‎ولا‎ ‎بأنَّه‎ ‎غير‎ ‎عقلي‎ ‎كذلك،‎ ‎بل‎ ‎إنه‎ ‎فيما‎ ‎نرى‎ ‎غير‎ ‎عقلي حين‎ ‎يتعلق‎ ‎الأمر‎ ‎بالعامة‎ ‎الذين‎ ‎لا‎ ‎يطيقون‎ ‎النظر‎ ‎والأدلة‎ ‎البرهانية،‎ ‎وعقلي‎ ‎حين‎ ‎يتعلق الأمر‎ ‎بأهل‎ ‎النظر‎ ‎العقلي‎ ‎والفلسفة،‎ ‎وإنَّ‎ ‎رعاية‎ ‎هاتين‎ ‎الناحيتين‎ ‎هو‎ ‎ما‎ ‎جعل‎ ‎في‎ ‎كلامه ما‎ ‎يوهم‎ ‎أحيانًا‎ ‎بأنه‎ ‎رجع‎ ‎عن‎ ‎نزعته‎ ‎العقلية‎ ‎إلى‎ ‎ما‎ ‎يناقضها‎.‎

فلاسفة العصر الوسيط والعلاقة بين الدين والفلسفة

فيلون الإسكندري:‏

إنَّ‎ ‎القارئ‎ ‎لِمَا‎ ‎كتب‎ ‎‏"فيلون الإسكندري"‏‎ ‎يحسُّ‎ ‎إحساسًا‎ ‎قويٍّا‎ ‎بأنَّ‎ ‎الشريعة‎ ‎والفلسفة‎ ‎هما‎ ‎المصدران لتفكيره،‎ ‎ولا‎ ‎عجب‎ ‎في‎ ‎هذا،‎ ‎فإنَّ‎ ‎الحقيقة‎ ‎واحدة؛‎ ‎فلا‎ ‎تناقض‎ ‎نفسها‎ ‎وإن‎ ‎اختلفت‎ ‎صور التعبير‎ ‎عنها،‎ ‎يُريد‎ ‎أن‎ ‎يقول‎ ‎إنَّ ما‎ ‎هو‎ ‎حق‎ ‎من‎ ‎الفلسفة‎ ‎ليس‎ ‎إلا‎ ‎ما‎ ‎نجده‎ ‎في‎ ‎التوراة من‎ ‎حكمة،‎ ‎وإنْ لبست‎ ‎على‎ ‎أيدي‎ ‎الفلاسفة‎ ‎ثوبًا‎ ‎أو‎ ‎ثيابًا‎ ‎أخرى‎.‎

ويركز "فيلون" على التأويل ويراه ضروريًّا، مؤكدًا أنَّ الأنبياء تكلموا كثيرًا بالمجاز ‏سترًا للحقيقة عن غير أهلها، إذ يكون فهم النص على حقيقته ليس مقدورًا للجميع، ما ‏دام طريق هذا هو التأويل الذي ليس مقدورًا أو مسموحًا به للناس جميعًا.‏

وللتَّأويل‎ ‎أصول‎ ‎أوضحها‎ ‎‏"فيلون"‏‎ ‎وشدَّد‎ ‎في‎ ‎اتباعها،‎ ‎ومنها‎ ‎يتبين‎ ‎ما‎ ‎لكلٍّ‎ ‎من‎ ‎المعنى ‏الحرفي‎ ‎والمعنى‎ ‎الخفي‎ ‎من‎ ‎قيمة‎ ‎لديه‎:‎

‏-‏ إنَّه‎ ‎يَرَى‎ ‎أنَّ‎ ‎المعنى‎ ‎الحرفي‎ ‎يُشبه‎ ‎الجِسْمَ،‎ ‎والمعنى‎ ‎الخفي‎ ‎يُشبه‎ ‎الروح‎.‎

‏-‏ ومع‎ ‎هذا‎ ‎ينبغي‎ ‎ألا‎ ‎نُهْمِلَ‎ ‎المعنى‎ ‎الحرفي،‎ ‎بل‎ ‎يجبُ‎ ‎أن‎ ‎نُراعي‎ ‎الحرف والروح ‏معًا‎ ‎أو‎ ‎الظاهر‎ ‎والخفي؛‎ ‎ولهذا‎ ‎يلوم‎ ‎الذين‎ ‎لا‎ ‎يُلقون‎ ‎بالًا‎ ‎لكلٍّ‎ ‎منهما،‎ ‎ويرى‎ ‎من‎ ‎الواجب العناية‎ ‎بهذا‎ ‎وبذاك،‎ ‎وذلك‎ ‎بما‎ ‎أنَّه‎ ‎من‎ ‎الواجب‎ ‎العناية‎ ‎بالجسم‎ ‎والروح‎ ‎معًا‎.‎

وفي‎ ‎الواقع‎ ‎إنَّ‎ ‎‏"فيلون"‏‎ ‎يجعلُ‎ ‎من‎ ‎التأويل‎ ‎وسيلة‎ ‎ضرورية‎ ‎يُحَقِّق‎ ‎بها‎ ‎أغراضًا‎ ‎لها ‏قيمتها‎ ‎لديه،‎ ‎أو‎ ‎بِعِبَارة‎ ‎أخُرى‎ ‎لتتفق‎ ‎النصوص‎ ‎المُقَدَّسة‎ ‎مع‎ ‎آرائه‎ ‎الفلسفية: في‎ ‎لله، وفي‎ ‎خلق‎ ‎العالم،‎ ‎وفي‎ ‎النفس،‎ ‎وفي‎ ‎الدين‎ ‎بصفة‎ ‎عامة،‎ ‎الدين‎ ‎الذي‎ ‎يحرص‎ ‎الحِرصَ‎ ‎كله ‏على‎ ‎أنْ‎ ‎يأخُذَ‎ ‎صفة "العالمية" لا‎ ‎أنْ‎ ‎يظلّ‎ ‎دينًا‎ ‎لطائفة‎ ‎خاصَّة‎ ‎هم‎ ‎بنو‎ ‎إسرائيل،‎ ‎وهكذا ‏بالتأويل‎ ‎المجازي‎ ‎الذي‎ ‎اصطنعه‎ ‎‏"فيلون"‏‎ ‎يستخرج‎ ‎ما‎ ‎في‎ ‎التوراة‎ ‎من‎ ‎فلسفة‎ ‎تظهر‎ ‎أنَّها ‏عارية‎ ‎منها‎ ‎لو‎ ‎أخذت‎ ‎نصوصها‎ ‎حرفيًّا‎.‎

إذن،‎ ‎يرى‎ ‎‏"فيلون"‏‎ ‎أنَّ‎ ‎من‎ ‎الضروري‎ ‎تأويل‎ ‎النصوص‎ ‎التي‎ ‎تثبت‎ ‎بظاهرها‎ ‎لله‎ ‎ما‎ ‎لا ‏يليق‎ ‎به‎ ‎من‎ ‎الصفات‎ ‎والأحوال: كالتجسيم،‎ ‎والكون‎ ‎في‎ ‎مكان،‎ ‎والكلام‎ ‎بصوت‎ ‎وحروف، والندم،‎ ‎وهو‎ ‎في‎ ‎هذا‎ ‎يقول: الله‎ ‎لا‎ ‎يأخذه‎ ‎الغضب‎ ‎ولا‎ ‎يندم‎ ‎ولا‎ ‎يتكلم‎ ‎بحروف‎ ‎وأصوات، وليس‎ ‎له‎ ‎مكان‎ ‎خاص‎ ‎يَقَرُّ‎ ‎فيه‎.‎

وفي الختام، نشير إلى أنَّ العقل والنقل لا تناقض بينهما، إذ لولا العقل لما فهمنا المراد ‏من النص الديني، بل إن غياب العقل يعني عدم تطبيق كثير من أحكام النص الشرعي ‏على المكلفين، إلا أنه لا يمكن أن نقدّس العقل على حساب النص الديني مراعاة ‏للتوفيق بين العقل والنقل. بل المسألة أكثر من ذلك، وهي أنَّ التكامل بين الشريعة ‏والحكمة فيه يُسر وخير للعباد.‏