شهادة إبداعيّة: ‏ يجب أن ترخي ساقيكَ في ماء البحر ‏ قبل أن تكتب عن البحر..‏

عامر علي الشقيري/ الأردن‏

 

أتَذَكَّرُ الآن -بتبجيل خاص- خربة الوهادنة والضوء الذي يخترق زاوية الشبّاك ‏ويدغدغ طفولتي، أنهض وأحمل حقيبتي، عفوًا لم يكن ثمّة حقيبة؛ كان حزامًا أشدُّ به ‏الكتب.. بعد المدرسة أتوجَّه للمقبرة وأُخرج من بين الكتب رواية "الخاسرون"‏‎ ‎لزياد ‏قاسم وأستأنف القراءة هناك... ولقد طاردني عنوانها حتى اللحظة‎!‎

كان ثمّة قبو صغير أتذكَّر رائحته حتى الآن، حوَّلَتْه البلديّة لمكتبة صغيرة ووضَعَت ‏موظَّفًا فيه، وكنتُ مصدر إزعاج هذا الموظَّف‎.‎

تعرَّفتُ في المقبرة على جمال أبو حمدان وتيسير السبول وغالب هلسا ويوسف ضمرة ‏وهاشم غرايبة.. تقاسمنا التبغ والخبز والفلافل، وأخذوني معهم في نزهة لم أعد منها ‏حتى اللحظة، كانت "مقبرة القباة"‏‎ ‎هي النافذة التي أطل منها على ذلك العالم الساحر.. ‏وجرَّبتُ.. كتبتُ عن فلسطين.. صفَّق الأولاد والأساتذة في الطابور الصباحي.. ‏وتورَّطت‎!‎

لماذا القصة..؟ لماذا القصة القصيرة جدًا تحديدًا؟ في الواقع لقد أورثني أبي كل ‏الصمت المتاح في الأرض.. كان وما زال يختصر عمرًا كاملًا من التَّعب بكلمة ‏واحدة أو بحبّة عرق، وكان كلامه القليل يختصر سنوات طويلة من الألم.. لقد أورثني ‏القصة القصيرة جدًا على الرّغم من أنه بالكاد يفكّ الخط، لكنه سيظل رغم ذلك أعظم ‏قاص في التاريخ!‏

بدأتُ بكتابة القصة في الجامعة، ونشرتُ في مجلة "أقلام جديدة" وفي الملحق الثقافي ‏لصحيفتي "الدستور" و"الرأي"، استهواني هذا الجنس الأدبي المظلوم نقديًّا، القصة ‏القصيرة جدًا تشبه قطة لطيفة أحبَّها الجميع وتعاطفوا معها ثم دخلوا بيوتهم وأغلقوا ‏الأبواب وتركوها في الخارج!‏‎ ‎

أمّا بخصوص "المقبرة" فربّما المسألة لها علاقة بالخوف، كنتُ ألتصقُ بالأشياء التي ‏أخاف منها بدلًا من الهروب منها.. وانتَقَلَت تلك العدوى للكتابة؛ كنتُ أكتبُ عن ‏الأشياء التي أخافها.. الموت الجمال المال...إلخ‎.‎

تولد الفكرة، تظلّ في البال حتى تختمر، أتذوّقها، أرشّ عليها شيئًا من ملحي ‏وأتركها... عادةً في الليل أعود إليها وأتفقَّدها مثل أم تعدّل غطاء ابنها الوحيد في ليلة ‏باردة، أدوِّنها في ملاحظات هاتفي، وأبدأ بتشكيلها وتهذيبها وآخذ بيدها وأعلِّمها المشي ‏حتى تكبر، فأخرجها للجمهور وأقول لها: "هذه عائلتك الجديدة!".‏

كي تكون ساردًا حقيقيًّا يجب أن تواظب على القراءة، والقراءة وحدها لا تكفي، يجب ‏أن تغامر وتتألّم، يجب أن تقترف قبلة حارّة في الزقاق حتى تكتب عن الحب، وأن ‏ترخي ساقيكَ في ماء البحر قبل أن تكتب عن البحر.. الخيال وحده لا يكفي فهو ‏بحاجة إلى تجربة تسنده وتأخذ بيده‎.‎

يعنيني المتلقي أكثر من المتخصص، وربّما هذا مأزقي الشخصي، أكتب للقارئ ‏العادي وليس للنقاد، أضع نفسي مكان القارئ وأتخيَّل كيف أنَّ هذا النص سيصفعني ‏ويجعلني أصحو، كيف سيحفر عميقًا في داخلي، وربّما سيساعدني على اجتياز ‏المحنة.. القصة رغيف القارئ الجائع.. القصة القصيرة جدًا الرغيف الساخن الذي ‏سيلتهمه القارئ الجائع وسيسدّ جوعه، وكلما جاع سيجده في المتناول.‏‎.‎

سأواصل خبز الأرغفة ومدّها للناس، ولكن.. عندما أجوع.‏‎.‎

مَن سيمدّ لي برغيفه الساخن.‏‎.‎

وسط كل هذه الرَّداءة؟‎!‎

 

 

قصص قصيرة جدًا

 

عامر الشقيري

الأبيض

ألم‎ ‎تكره الأبيض؟ لكنَّها لا تقدر إلّا أن ترتديه، يلازمها هاجس غامض بحدوث كارثة ‏ستكون سببًا رئيسًا فيها، وتمضي يومها تحاول طرد هذا الهاجس الغريب الذي لا ‏ينفكّ يحاصرها في أشد ساعات انهماكها ولا تفلح في التملُّص منه، تعدُّ الأدوية ‏والمحاليل وتستقبل المريض بابتسامة عريضة فرضتها عليها ظروف المهنة، تأخذ ‏طوله ووزنه وترافقه إلى غرفته.. تشرح له بإسهاب عن المكان، وعن الحاجة الملحّة ‏للامتناع عن الطعام والشراب والتدخين قبل العمليّة.. تضيف: "إذا شعرتَ بالألم ‏اضغط على هذا الزرّ هكذا"، وتضغط على الزرّ مطوّلًا.. تضغط عليه بقوة وإصرار.‏

 

الطابور‎ ‎

انتظمنا في الطابور، كان الذي أمامي يحمل ضمّة بقدونس وشتلة ليمون، والذي خلفي ‏يقضم تفاحة ويتأفَّف ويتحدَّث بغضب ولعابه يتراشق كيفما اتّفق ويصطدم بأذني.. ‏تقدَّم الطابور قليلًا فارتحتُ وانفرجت أساريري، وصار بإمكاني أن أهرش كتفي.‏‎ ‎قال ‏صوت من الخلف: "يقولون إنَّ الطابور مغضوب عليه، ولن يمشي قبل الغد". وقال ‏صوت من الأمام: "كلها أقاويل.. الازدحام حالة طبيعيّة وتحصل حتى في أوروبا، ‏اذهب إلى المريخ وستجد من يحبطك.."، "وهل الحياة في المريخ سهلة؟"، سأل ‏أحدهم، فضحك الجميع. تبدَّلت الفصول.. حلَّ الخريف وصار الهواء باردًا.. "احجز ‏لي مكاني، سأتزوَّج وأعود حالًا"، قال الرجل الذي يليني في الدور.. وذهب. عاد ‏لاحقًا مع أطفاله، وزاد العدد ممّا يعني زمنًا أطول. كبرت شتلة الليمون التي بيد الرجل ‏وأصبحت شجرة وارفة تعربش عليها الأطفال.. ونبت على جوانب الطابور أحياء ‏بائسة ومحال تجاريّة شعبيّة، وانتشرت عربات القهوة على امتداده.‏‎ ‎سمعنا صراخ ‏سيدة سُرقت محفظتها، واقترح شيخ في مؤخرة الطابور أنَّ الحاجة صارت ملحّة ‏لمخفر شرطة‎!‎

 

العقاب‎ ‎

دخلت المعلمة إلى الصف تستشيط غضبًا، زمجرت ووبَّخت حتى أُنهِكَ صوتها، ثم ‏قذفت اللوح بأصبع طبشور ارتدَّ إلى الأرض قطعًا صغيرة.. أشار الجميع إلى الطالب ‏المسكين أحمد، فانفجر صوتها من جديد: "أنت سبب كل هذا الإزعاج ها.. هيّا معي"، ‏في تلك اللحظة تحديدًا دخلت المديرة، فازداد الأمر تعقيدًا، سألَت: "ما الأمر؟"، ‏‏"مشاغب جدًا ويجب معاقبته".. فقرَّرت المديرة على الفور: "خذوه إلى غرفة ‏الفئران".‏‎ ‎اندفع طالبان وسحباه من ذراعيه وألقياه في تلك الغرفة.. ظلَّ أحمد صامتًا ‏ولم يبكِ.. ظلَّ كذلك طوال الوقت.. حتى عندما تقدَّمت نحوه بضعة فئران وبدأت ‏تلتهمه بتلذُّذ وانهماك!‏‎ 

 

أكثر من لص‎ ‎

كان الهَوَس بالنظافة والترتيب ما يزال يجوس في رأسها عندما تذكَّرَت فجأة أنها ‏نسيت أن تغسل ركوة القهوة التي اتَّسخت للتوّ، وأخذت سحابة من كآبة تطفو في البيت ‏وتتمدَّد: "هل مسحت طاولة غرفة الجلوس؟ هل فتحت نوافذ غرفة النوم للتهوية؟ مَن ‏سيلمّ حبّات السُكَّر التي قد تسقط على السجادة فيما لو حدث ذلك وهي خارج البيت؟"، ‏تفاقم أساها وأخذت تنفعل وهي تغسل ركوة القهوة وتُبدي تذمُّرها من هذه الحياة التي ‏باتت لا تطاق. العصافير في الخارج تزقزق على نحو غير منتظم والسيارات تطلق ‏أبواقها بعشوائيّة مقيتة.‏‎ ‎سيأتي هو عمّا قليل يخلع ملابسه ويلقي بها هنا وهناك كيفما ‏اتفق، وسيترك جواربه في المطبخ وهو يعدُّ قهوته، وبالطبع لن يغسل الفنجان أو ‏ركوة القهوة، وقد ينوي الخروج في موعد مع صديق؛ حدث أثناء مكالمة عاديّة دون ‏خطّة. ستوبِّخه على هذا. تململت السيدة في مقعدها وهي مندهشة من رائحة العطونة ‏في تلك الزاوية تحديدًا، ساهم في تركيزها على شمّ تلك الرائحة الشريط اللاصق الذي ‏يكمِّم فمها والقيود التي شلّت حركتها وثبّتتها جيدًا في الكرسي. أخذ الرجل الملثَّم ‏يتجوَّل في المنزل، فكَّرَت: "سيصل إلى المال بسرعة لأنه مخبَّأ في مكان تقليدي.. ‏ورق مناديل تحت الأغطية. قضم تفاحة وألقاها في الصالون، تدحرجت حتى وصلت ‏قدمها، صعقها ذلك. دخل المطبخ، أخذ يسكب كل ما تطاله يده على الأرضيّة ‏اللامعة.. أحضر ملابسها ودعكها بيده وألقاها أمامها.. ثم بال عليها... كاد يغمى ‏عليها عندما شاهدت اللص يخربش على الحائط ويقفز فرحًا قبل أن يغادر المنزل ‏فارغ اليدين!‏

 

‏"بنادول"‏

رجل يقف في الردهة.. يشعل لفافة تبغ بعود ثقاب (أحترم الرجل الذي يشعل السجائر ‏بعيدان ثقاب) يصوِّب مسدسه ناحيتي.. بدا طيِّبًا ومسالمًا ومدفوعًا إلى هذه الجنحة، ‏من ذلك النوع الذي يدفعك للقول: "هوِّن عليك يا رجل.. هيّا أطلق النار!".‏

تتربَّع السيدة عارية في غرفة الجلوس.. تدلق الويسكي في المغسلة وتعود (ستندم ‏لاحقًا وتبتاع زجاجة أخرى)... "سأتوقف عن الشرب.."، تتابع برنامجًا وثائقيًّا عن ‏عالم السلاحف.‏

‏"بنادول"! أين تركتُ شريط الـ"بنادول"؟! أمهلني أيها القاتل العزيز بضع دقائق كي ‏أخمد الصداع!‏

أتحايل على الوقت.. أبحث بتأنٍّ عن شريط الـ"بنادول". في تلك الأثناء يفترض أن ‏أصحو من حلمي هذا وأضحك كثيرًا.. لماذا لا تتسلّى بقتل جارتي السكّيرة في الطابق ‏العلوي ريثما أصل الصيدلية وأعود سريعًا؟!‏

أصحو من نومي يبلِّلني العرق.. أضحك لسذاجتي.. أبتلع ثلاث حبّات "بنادول" وأشعل ‏سيجارة.. أشعلها بعود ثقاب وبعد عناء.. فأنا أستخدم يدًا واحدة.. لأنَّ اليد الأخرى ‏تحمل مسدسًا تصوِّبه إلى رأسي.‏