شهادة إبداعيّة:‏ انقلاب الأمكنة على جغرافيّتها المألوفة

ناصر الريماوي

رغبتي الأولى في الكتابة القصصيّة، لم تكن عفويّة بذلك القدر البديهي إلى حد البراءة ‏في النَّوايا، لكنَّها تولَّدت بعد انقلاب الأمكنة على جغرافيّتها المألوفة في داخلي، ليغدو ‏كل منها هاجسًا يوميًّا، يطاردني، قبل أن تطلق تلك الأمكنة خلفي ذلك الآخر؛ القرين ‏المستبِدّ، بملكاته القاسية وأحكامه القاطعة في استلهام جائر لكل مظاهر الانقلاب ‏وهزّاته الارتداديّة العديدة، بما تخلّفه من آثار مفاجئة على النفس.‏

بالنسبة لي، بدأ القرين- الآخر محرِّضًا، وانتهى مستفِّزًّا وجالبًا للسخط دون سبب، ‏على الرغم من براعته اللامتناهية في الابتكار، وإنكاره لذاته، إلا أنه كان كذلك ‏بالنسبة لي.‏

ثلاثة أماكن جعلتني في مواجهة القرين- الآخر وملكاته المستفزّة، بعد احتدام ألفة ‏متسارعة وهائلة بيني وبينها، ليكون انقلاب كل منها في حياتي حدثًا نوعيًّا مؤرقًا ‏وجاذبًا في الوقت ذاته.‏

المكان الأوَّل، والذي كان بمثابة المهد لطفولة نقَشَت أغلب وقائعها فوق جدران أزقّة ‏قديمة لحيّ منسي في مدينة الزرقاء الأردنيّة، وبين سبّورات التعليم المدرسي فيها، ‏لأعود بعد انقلاب المكان على جغرافيّته المعتادة طفلًا صغيرًا، يهفو إلى حوش بيته ‏القديم، بتلك الفسحة السماويّة العالية، وهو يلهو بلعبة مختلفة، كأغلى لعبة يلهو بها ‏طفل؛ ألبوم جرائد..‏

ليفيض في صباح كل جمعةٍ وهو يزدان بصفحة أخرى جديدة لملحق الثقافة في ‏صحيفة "الرأي" الأردنيّة... أو صحيفة "الدستور"، ليكبر العنوان حتى يصير بمقدار ‏أفق طفل صغير، يقرأ في زاوية الحوش العتيق بصفحات مطبوعة غير كتبه ‏المدرسيّة، يبكي ثم يهرب أو يحتمي بعِرق الدالية حين يأتي الصوت محذِّرًا: "اقرأ ‏دروسك، اترك عنكَ الجرائد يا ولد..!".‏

أمّا المكان الثاني، فكان بمثابة المهد لمعترك الصبا ومطلع الحكايات الراسخة، ‏الضاربة بعمق أشجار الكينا والسرو في دمشق.. تحت ظلال الحور، على ضفاف نهر ‏بردى، وحتى مصبّات الحنين، أسفل قاسيون وغوطة الشّام، وعبق القهوة القديم على ‏شرفات هناك تسكن القلب وتأبى أن تغادره حتى يومنا هذا.‏

وأمّا المكان الثالث، فهو يطغى بما يعنيه، بحضور انقلاباته المتتالية، ليبرز جليًّا بتلك ‏الخصوصيّة النادرة في الجمع بين أصالة الماضي وشموخ الحاضر؛ الخليج.. بكلّ ‏تناقضاته المعيشيّة والثقافيّة، إلا أنَّ أصالة الماضي وهي تسود في داخلي باستفزاز ‏محض عبر ذلك القرين- الآخر لينعكس أثرًا جميلًا لا يُنسى وعبقًا يحكي عن رحلات ‏بحريّة لصيد اللؤلؤ قبل اندياح النفط، لأتبع مرغمًا تلك الأصالة، عبر معراج عصري ‏نحو بدايات القرن الماضي، لأجدني دومًا على الجانب الآخر للخور، في دبيّ، أطالع ‏الأبراج التي تشهق في وجه الغيم على برّها المقابل، أراها وهي تتراجع وتختفي، ‏لتبزغ قرية الصَّيْد القديمة فوق أرض جرداء تحيط ببيوتها الطينيّة سواحل الخليج، ‏وبأناس يرتدون وزرات شعبيّة عتيقة، تستر أجسادهم السَّمراء، في حين يعلو وجوههم ‏سأم الانتظار لمراكب صيد طال انتظارها.‏

كان لانقلاب الأماكن الثلاثة على نفسها، دورًا حقيقيًّا وفاعلًا في فضّ اشتباكٍ ما أوَّل ‏الأمر، لأتورَّط بعدها بالتباسات عديدة في داخلي، لكنها وللصدق كانت هي الأجمل، ‏حيث أفضت إلى تأثيث غالبيّة القصص لديّ، وحتى يومنا هذا.‏

ذلك القرين- الآخر، وليد التحوُّلات الطيفيّة المتتالية والملتبسة في داخلي بعد كل ‏انقلاب جذري للأمكنة، والذي يحيلها إلى حلم حرّ محلِّق يطغى على جغرافيّتها ‏الراكدة، أعترف بأنني لا أنكر عليه ملكاته ولا براعته، فهو عميق كتلك المدن ‏بمظهرها الخفيّ في تلك الأمكنة، ولكنني أكره فيه تفوُّقه الكبير أمامي، ولمَ لا أكون ‏أكثر وضوحًا وأعترف، بأنني أكره عجزي وسطحيّتي في حضوره.‏

ففي إحدى الليالي، وبينما كانت نشرات الأخبار المتلفزة تأخذ على عاتقها ذمّ الطقس ‏ووصفه بالسيئ على اعتباره حدثًا كونيًّا سينحدر بالناس إلى منزلة العقوبة، كنتُ ‏أتصفَّح ألبوم الصور القديمة، وأُطيل النظر إلى صورة فوتوغرافيّة ذابلة باللونين، ‏الأبيض والأسود، أحاول استعادة شيء ما فيها، صورة قديمة، جمعتني بصديقين في ‏مقهى الروشة، ذلك المقهى المطلّ على "مخيَّم العودة" في الزرقاء، وكنتُ أنا عند ‏طرف الكادر.‏

تدخّل القرين- الآخر بلا مناسبة حقيقيّة، وقال: "هناك أنين واضح تترجمه الصورة، ‏ينبعث من نافذة ما خارج الكادر، على الأغلب، وتنهيدة مرتجعة، سقطت بين الكراسي ‏ولم يلتفت إليها أحد..!".‏

ثم حدّق في وجهي كعرّاف وقال: "ألا تدرك هذا؟".‏

أجبتُ في برود: "لا يهمّني، فقط أنا أبحث عمّا تقوله الصورة علنًا".‏

انفجر صائحًا: "إيّاكَ، فليس كل ما تقوله الصورة صحيح، هناك غياب محتمل لِلَون ‏ثالث، ربَّما ابتلعته النافذة في الركن البعيد من الساحة".‏

أجبتُه بلا مبالاة: "على أيّ حال هي مجرّد صورة فوتوغرافيّة وليست قصّة أكتبها".‏

أشاح عنّي بازدراء وهو يقول: "حتى وإنْ كانت قصة، فلن تفلح في اصطيادها مثلما ‏يجب، شأنك شأن الآخرين..!".‏

وكان على حق.. فأصوات حجارة النرد في الصورة لم تنقطع، على الرغم من أننا ‏تفرَّقنا ذلك النهار، ثلاثتنا لمْ نعُد، وظلّت الصورة.‏

في اليوم التالي نهارًا، كان الطقس حارًا ومغبرًا على غير العادة في تلك الضاحية ‏النائية من مدينتي.. الزرقاء.‏

كتبتُ: الشوارع شبه خالية، والمدينة بلونها الترابي، الخانع، ساكنة وكأنها تنتظر شيئا ‏ما ببلادة..‏

انبثق القرين- الآخر بنظراته الساخرة، حتى قبل أن يرى ما أدوِّن، مسح الورقة بنظرة ‏خاطفة ومعتمة، كظم غيظه وهو يجذبني من يدي في نزق، نحو عنق النافذة وقال: ‏‏"انظر، هذا ليس غبارًا، حتى وإنْ كان كذلك فمَن سيأبه لقصّة كهذه؟".‏

تسمّرتُ ولم أجب، فواصَلَ: "لنقُل، هذا غبار كونيّ ثقيل يجوس الشوارع الآن، ‏

وبأنه فتات نيزك سقط منذ يومين وشجّ رأس المدينة، ثم تناثر وعلق في الأجواء.‏

حرارة المدينة، المرتفعة، كانت على إثر ذلك السقوط المفاجئ، وأمّا المناخ فلا شأن ‏له، فما رأيك؟".‏

ثم انتفض بهستيريا مفاجئة وأخذ يشير إلى حاكورة البيت، ذلك الصيف، وتحديدًا أسفل ‏التكعيبة المداريّة الطائشة لعرائش الظّل، والتي خلا سقفها إلا من بعض العروق ‏الضامرة، كان القرين- الآخر توّاقًا لفكرة راحَ يقلِّبها بيني وبينه وهو يشاركني النَّظر ‏إلى جذع الدالية المنخور، الناحل، قال لي: "ألا يشبه كهلًا واهنًا، عقيمًا؟".‏

ثم تخطّاني قبل أن أجيب إلى شتلة الياسمين، المورفة بدهاء فوق جدار الجارة ‏المجاور، قال في مكر: "منذ متى وهذه الشتلة تضنّ علينا بعبق الرائحة؟".‏

وحين أدرَكَ أنني لم أفهم ما يعنيه، مال نحوي هامسًا في ضيق وصبر: "جذع الدالية ‏كهل عقيم وتلك الشتلة مخادعة..!".‏

هزّ رأسه وصاح في وجهي: "لماذا تخشى أنسنة الأشياء؟".‏

رحل القرين- الآخر دون إجابة شافية، لكنني كنتُ بعدها أنجز أولى مجموعاتي ‏القصصيّة..‏

‏"جاليريا" 2009، ثم تليها مجموعتي القصصيّة الثانية "ميرميد" ‏‎2010‎، ثم ‏المجموعة القصصيّة الثالثة "وردة لصيف واحد"، وكنتُ كلما قصدتُ عمّان.. المدينة ‏المجاورة لمدينتي الزرقاء، الملهمة، كي أكتب شيئًا عنها، كنتُ أفتقد القرين-الآخر ‏لألعن غيابه، فعند الشروع بالكتابة تتيه منّي الوقائع، وأنسى، دون سبب واضح، أو ‏ذنب منّي، أو أحيانًا ما أمضي ببعض قصصي لتتمرّد بعض شخوصها القصصيّة ‏بشبحيّة قاسية وفوقيّة طائشة فأقف، وأعدِّل مرغمًا.‏

ثم التقينا، أنا والقرين- الآخر بعد قطيعة زمنيّة جائرة، ليلقاني أخيرًا ببوحه الذي تأخَّر ‏طويلًا، قال بهدوء: "عمّان لا تدعم خاصيّة البحث عن أحد يا صديقي، فهي تحتضن ‏الكثير. وأما الحَرّ الذي أفزع الخلق في الزرقاء، كان رُبع موجة ذلك النهار المغبرّ، ‏ليس أكثر. أمّا الصورة الفوتوغرافيّة العتيقة، وبعد تصلّب الأخير وانسحابه ليقف عند ‏حافة الكادر، إنّما دلالة أكيدة على أنَّ ثالثهم، كان لونهم".‏

كان ببوحه ذاك يفتح أمامي الطريق لمجموعة قصصيّة جديدة، وأخيرة، أسميتها "ربع ‏موجة حرّ"، دون أن يدري، مجموعة قصصيّة صدرت عن وزارة الثقافة الأردنيّة ‏ضمن سلسلة إبداعات في العام 2017.‏

 

 

 

لون ثالث ‏

‏ قصة: ناصر الريماوي

‏ 

كانوا ثلاثة رجال، خارج الكادر.. 

عبروا غبش الصبح الفقير بالضوء والصدى، دون مشي، ذلك الرمادي المرتجل كلون ‏أحادي، لم يلتقطه المصوّر، ليظل البياض في الرواق سيد الساحة. 

على الجدار في المقهى المجاور، كان السواد، ظلالًا قديمة، نافرة، للشجر ولافتات ‏الشوارع.. عتمتها موحشة، ولا توحي بالطمأنينة، ثلاثتهم أجمعوا على غرابة الأنين ‏داخل الإطار. وأنَّ غياب اللون الحقيقي للصدى، قد أفسد الصباح في الصورة.‏

‏****‏

استوقفهم ذلك الأنين المترجم في آخر الصورة.. 

ثمة تنهيدة تفشّتْ بين الكراسي، أفزعتهم بين حفنة المفردات العديدة، كمصطلح عميق.  

قال أوسطهم لرفيقيه: "كونا على حذر، فليس كل ما تقوله الصورة صحيح، هناك ‏غياب محتمل لِلَون ثالث، ربّما ابتلعته النافذة في الركن البعيد من الساحة..!". 

رهبة تقطر من وجه رجل ضامر، كان يصغي لهم، سرعان ما تصلّبت شرايينه ‏وماتت على جدار خارج الكادر.  

ربما ابتلعته النافذة أيضًا.‏

‏****‏

‏"في الغد، نهارًا، سنأتي بهم واحدًا واحدًا.. على الرغم من فداحة اللونين في الصورة". 

هذا ما قاله رجل آخر، هزيل، ينتظر الصبح، ويطلّ في فزع على قتامة الليل الممدَّد، ‏وسط الساحة.  

كان يحتمي بظلّ الستائر، حين اعترضه الوميض، ففر للخلف، مبتعدًا، تعثَّر في ‏ارتباك وسقط، بعدها لم يعُد يراهن على الضوء في شيء. 

خطّ في استياء على هامش ضئيل لتلك الصورة، ذات يوم: (تلك الأمسية، كنتُ مع ‏الليل ضد أعمدة الإنارة...! 

برندات الشوارع كانت خبيثة، ولا أمان لها، أخذت فوانيسها السقفية معها في غفوة ‏الناس، انسلّت بعيدًا عن أعين البيوت، لتلتقي بالليل خفية، ثم عادت من دونها.. 

مصابيح البيوت، راحت تقنن واحة الوهج الممكنة، وتهتف للشوارع: اللّهم نفسي..! 

النجوم تلك الليلة، فرّت بضوئها من سماء المدينة، والقمر حبسته غيمة).  

رأى طاولة النرد، تهبط من أعلى الصورة، من نقطة تخطّاها الوميض، إلى خارج ‏الإطار، وعاد بها لتحطّ في المقهى، هبطت بينهم طواعية، حين تلقَّفها ثلاثتهم بفرح.. ‏ابتلع غيظه، وهو يؤكد: "أنا مع الليل في كل شيء، وضد أعمدة الإنارة".‏

‏****‏

المرأة الصامتة، تجمّدت خلف النافذة الوحيدة.. 

‏ شهدَت على تعثُّر الصبح، لمرّات، ولم تنبس بكلمة.. 

لمْ تحسم أمرها بعد، على الرغم من وجودها بينهم، وسط الكادر، وأمام الساحة، غير ‏أنها تنهَّدت ثم أطلقت فوضى أنينها نحو فضاء الصورة الخارجي، ثم فوَّضَت أمرها ‏للصباح. 

كانت كلما تنهَّدت، توقَّف النَّرد ليلفحها لهاث الثلاثة أمام الطاولة. 

علّقت ببضع سطور لاحقًا خلف تلك الصورة: (ثلاث محاولات فاشلة.. شهدتُ عليها ‏وحدي. تلك الليلة، وفي كل مرّة، كان ينزلق الصباح عن حافة السور ثم يرتطم ‏بالرصيف، تسنده الطريق، ثم تعيده للشمس مكبّلًا في غيظ، أشجار الساحة بدت ‏منزعجة، لكنها تراقب في صمت وتكتفي بالنظر نحو زجاج النوافذ. 

عند كل محاولة للصباح، كانت تهبّ العصافير ثم تعود خائبة، وهي تلعن الإسفلت ‏على سعة صدره. 

الهواء تأخَّر ولمْ يغامر، وراح يوبِّخ الشمس في سرّه وينتظر، تتحرَّك في صدره نواة ‏زوبعة.. 

قرَّر تأجيلها مرغمًا لساعات الظهيرة.  

ثلاث محاولات فاشلة في يوم وليلة 

لم يشهد عليها أحد سواي). 

تتنهَّد المرأة، فيتوقَّف النرد، يلفحها لهاثهم حول تلك الطاولة.. فتبكي.‏

‏****‏

أصوات حجارة النَّرد تتواصل‎..  

تتدحرج من بوّابة المقهى وحتى قلب الزقاق الوحيد، الممتد، المحظور على الليل ‏عبوره، تقرع الأبواب المصفدة، والنوافذ، كرشق المطر‎.  

‏"سيجلبون لنا الليل... لا محالة"، قال الناس في فزع. لكنَّ أحدَّا منهم لمْ يخاطر.‏

تسلّق الصدى أعمدة الإنارة الشاردة، قرب الساحة، ليجدها وحيدة، ومشغولة، تفتش ‏عن نورها الشاحب في الرمل، حتى كؤوس الشاي لمْ تزل مغمورة وساخنة، منذ ‏زمن، ولم يلتفت إليها أحد‎. 

لم يعُد ما يجري لعبة.. بقصد التسلية‎. 

ثلاثتهم تفرّقوا -وكانوا خارج الكادر المغبر بالدخان- سدّ أكبرهم أذن الرصيف بثوب ‏الليل الأسود، كي تومض المصابيح وتشتعل فوق رؤوس الأعمدة‎. 

جمَعَ أوسطهم منافذ الصخب الفالتة من ساحة المقهى، ودسّها في جيب قميصه، فعاد ‏الصمت للزقاق‎. 

أصغرهم أصغى بانتباه للنافذة الوحيدة، المطلّة بنصف إغماضة على الساحة، "صراخ ‏طفل يشق ستارة المهد، ويخرج منها، ممّا يعني امرأة"، قال في سرّه‎.  

جذبته أكثر، كان وهو يقترب، يدوس إطار الصورة في حذر ويعبُر، حتى وقع، صار ‏مرئيًّا لنا، وسط الكادر‎. 

رمى بحجارة النَّرد مثلهم، ظلَّ يرمي بها تحت أقدام الصَّباح، وفي كل مرّة، يترنَّح ‏الصبح ثم ينزلق، يرتطم بالرصيف، ويفشل‎. 

ظل اثنان منهم، تعلّقا بحبل الصدى، وكان ثالثهم.. لونهم‎.‎