د.فيصل أبو الطُّفَيْل/ المغرب
تَتَعوَّذ التكنولوجيات الرقميّة في عصرنا الحاضر بتميمة نُقشت على جنباتها العبارة الآتية: "كل شيء أصبح متاحًا في متناول الجميع بمجرَّد لمسة زر". وبموجب ذلك، صارت حياتنا اليوميّة منذورة أكثر فأكثر للإقامة في أروقة الإمكانات الاستثنائيّة التي توفرها الشبكة العنكبوتيّة، داخل عالم افتراضي يتواصل فيه الأقرباء والغرباء على حد سواء، محتمين تارة بمظلات مستعارة، وتارة أخرى بما تتيحه البراعة التقنيّة ووسائل التواصل الاجتماعي من حرية التبادل وتحقيق الذات وتخليصها من ضغوط اليومي وتراكماته التي لا تنتهي.
وضمن هذا السياق يأتي كتاب: "الثورة الرقميّة، ثورة ثقافيّة" لمؤلفه "ريمي ريفل" Remy Rieffel، والذي ترجمه إلى العربية سعيد بلمبخوت ضمن سلسلة عالم المعرفة بالكويت (العدد 462-يوليو 2018)، ليسلِّط الضوء على التأثيرات الإيجابيّة والسلبيّة للتكنولوجيا الرقميّة في العالم الثقافي؛ حاضره ومستقبله، وعلى الانعطافات التي شهدها التواصل البشري في ظل تطوُّر الوسائط الإلكترونيّة واستعمالها المكثف لدى أفراد المجتمع. وقد انطلق الكاتب من فكرة مؤدّاها أنَّ "الرقمي يعتبر مجالًا تتعايش من خلاله المنتجات الثقافيّة على اختلافها مع الأقطاب التكنولوجيّة". منهجيًّا، قسّم "ريمي ريفل" كتابه إلى مدخل وثلاثة أجزاء وخاتمة.
يستهلّ "ريفل" مدخل كتابه بالحديث عمّا أسماه "الحالة الرقميّة" التي تنوس بين الانجذاب الحماسي لما تزودنا به الشبكة العنكبوتيّة من إمكانات هائلة ومتنوعة في التواصل واكتساب المعلومات وثقافة التبادل مع الآخر، وبين التخوُّف من مخاطر التأثير الرقمي في حياتنا وما قد يسبِّبه من إدمان على الشاشات وإفقار للعلاقات المباشرة ونزوع إلى عيش اللحظة الراهنة المسنودة بروابط افتراضيّة. ليخلص الكاتب بعد ذلك إلى طرح سؤال جوهري هو: "هل يعتبر الرقمي مصدرًا حقيقيًّا للتجديد الثقافي؟"، أمّا الإجابات الممكنة عنه هذا السؤال فمنها مثلًا: "أن نخرج من مساك الأفكار القديمة، والآراء العامة، ثم نشرع في الملاحظة والبحث والتحليل العقلاني لفهم التحوُّلات الراهنة"، وأنَّ "تحليل الرهانات الرقميّة سيرتكز أساسًا على مقاربة سوسيولوجيّة للمشكلات... مع الاستعانة ببعض التساؤلات الفلسفيّة والنفسيّة وحتى الاقتصاديّة".
في الجزء الأول المعنون بـِ"سياق تكنولوجي واقتصادي جديد"، يخصص الكاتب الفصل الأول الموسوم بـِ"الرقمي: التكنولوجيا الجديدة واستعمالاتها" لتسليط الضوء على مصطلحيْن: الأول هو "الرقمي" المتأرجح بين أصله اللاتيني: digitus الذي يفيد: الإصبع، لتحديد التكنولوجيا الحديثة digital technology مفضلة إذن معنى اللمس، وبراعة الأصابع. وبين المصطلح الفرنسي الذي يتجه نحو numérus "الرقم"، ليخلص إلى أنَّ الرقمي "يعتبر مصدرًا للممارسات الاجتماعيّة الجديدة.. حيث يعيد تعريف المعرفة ويغيِّر طرق ولوج المعلومات... كما يغيِّر علاقتنا بالكتابة، ويفرض تحوُّلًا جذريًّا لعلاقتنا بالمجال والزمن". أمّا المصطلح الثاني فهو "الإنترنت" التي يعتبرها الكاتب "عالمًا تقوم فيه العلاقات بين الأشخاص على أساس المساواة والتعاون، وتكون المعلومة متوافرة في الحال وبالمجان وعلى الفور"، بيد أنَّ هذا الفضاء الأكثر حريّة وشساعة قد يسهم في تفاقم بعض المشكلات المتعلقة بضمان المحافظة على خصوصيتنا وعلى وقوعنا في قبضة الهوس الرقمي جراء الاستخدام المفرط للوسائط الإلكترونيّة. ومع ذلك، يدافع الكاتب عن مزايا العلاقات بين التقنية والمجتمع، فيقرر متفائلًا أنَّ "استعمال الرقمي لا يؤدي بالضرورة إلى تغيير إنسانيّتنا وإفقار تعدديّتها؛ يتعلق الأمر بتجربة شخصيّة كونيّة من شأنها أن تغيِّر عميقًا من معارفنا ومداركنا". ويختم "ريمي ريفيل" هذا الفصل بفكرة مفادها أنَّ "التكنولوجيات الرقميّة تتميز بتلك الخصوصية التي تجعل من المستخدمين -في الوقت نفسه- مستفيدين ومنتجين للمحتويات الإعلاميّة.. وأنها مصدر التغييرات المؤثرة في نمط عيشنا وطرق تسليتنا وإخبارنا وتثقيفنا وربط علاقاتنا بالآخرين". وهكذا يجد الفرد نفسه داخل دوّامة العالم الافتراضي الذي يعبره طوعًا أو كرهًا للتواصل مع غيره واقعيًّا. وهذا هو مكمن قوة التكنولوجيات الرقميّة ومصدر خطرها في آن.
يعنون الكاتب الفصل الثاني من مؤلفه بـِ"ثقافة المرئي والتوصية: السوق الرقميّة"، وتحت مظلته يناقش ما سماه "اقتصاد المعلومة عبر الشبكة". وتبعًا لذلك تتموقع السوق الرقميّة في الصفوف الأماميّة لأنها "توفر تنوعًا من حيث الشكل وحجم العرض المتاح.. بطريقة يكون فيها المستهلك قادرًا على الوصول، لينهل بإرادته ويختار بنفسه". ويؤكد الكاتب الدور الرئيس لوسائل الإعلام الرقميّة في تحقيق الشهرة لدى الكُتاب والفنانين حيث "النجاح الإعلامي الناتج عن الدعاية عبر الشبكات الاجتماعيّة يضاعف بشكل كبير سمعة المعترف به أكثر". هذه الشهرة/ السمعة يتحكم فيها المستهلكون" الذين يستطيعون تصنيف وترتيب مختلف العروض المقترحة عليهم وفق المؤثرات المرموز إليها بالملاحظات والنجيمات أو التصويت". ومن ثم أصبحت سوق الرؤية ممسكة بتلابيب الرواج الثقافي داخل الشبكات الاجتماعيّة انطلاقًا من مبدأ "أنَّ المهم هو الملاحظة، وأنَّ الأهم ليس بالضرورة أن يكون أصليًّا أو إبداعيًّا، بل أن يكون منظورًا". وتبعًا لذلك فإنَّ "الفنانين الأكثر شهرة على الإنترنت هم الأكثر شهرة كذلك خارج الشبكة".
يناقش الكاتب في الجزء الثاني من الكتاب: "علاقة أخرى مع الآخر، والإبداع والمعارف"، وفيه يعرض للفصل الثالث "ثقافة تعبيريّة وعلائقيّة: حضور ترابطي". وهنا يشرع في تحديد دور "الشبكات الاجتماعيّة، عن طريق روابط الصداقة والمؤانسة (قضاء بعض الوقت للمناقشة والتبادل مع بعض الأصدقاء، واللهو، والتصفُّح، وترك التعليقات، وما إلى ذلك)". وخلف هذه الشبكات التي توفّر ظهور علاقات افتراضيّة أكثر من تلك التي تتوافر في الواقع، "يسهم الويب في ترسيخ أشكال تبادلات غير مسبوقة ومختلفة (في المنتدى، كل رسالة تثير ردًّا وزيارة الصفحة الشخصيّة ورسالة شخصيّة)"، من الأقارب أو من الغرباء.
ينتقل الكاتب بعد ذلك لبيان أسباب ازدهار الشبكات الاجتماعيّة: وأوّلها "هو تقاسم ما يكنّه الإنسان بداخله مع أشخاص مجهولي الهويّة.. وثانيها المحادثات العائليّة بين الأقارب.. وثالثها التنسيق المشترك الذي يركّز على هوية المدوّن ويقيّم كفاءته الشخصية.. ورابعها تبادل الآراء بين الجمهور". ويوضِّح الكاتب الفروق الوظيفيّة بين الشبكات الاجتماعيّة ومواقع التواصل الاجتماعي. "فعكس المدوّنات التي تفضل منتجات حيث تؤدي الكتابة الدور الرئيس، فالشبكات الاجتماعيّة ترتكز على الشكل الشفهي المستند إلى المحادثة". وينبّه الكاتب على ثنائيّة الخفاء والتجلّي في العالم الافتراضي، "حيث يُظهر مستخدمو الإنترنت الكثير من الأمور (صورهم الشخصيّة، ومكان قضاء عطلتهم).. وفق الجمهور الذي يتوجَّهون إليه: الوضوح بالنسبة إلى الأكثر قربًا، والظلام بالنسبة إلى الآخرين". وبعبارة أخرى "يتم الاستخدام المكثف للشبكات الاجتماعيّة بشكل عام وفق ثلاثة أشكال أساسيّة: التعبيريّة، والمنطق العلائقي، والبحث عن الاعتراف". لكن الأمور تتعقّد كلّما اتَّجه الفرد إلى إبراز ذاتيّته بشكل مفرط، وهو ما حدا بالكاتب إلى نقد وجوه "النرجسيّة وطغيان المرئي" حيث "بدأت الشبكات تَظهر مثل واجهات لنرجسيّتنا ومرايا تعكس استراتيجيّتنا بخصوص الرؤية والسمعة في مجتمعاتنا". وهنا يتساءل "ريفيل": ماذا يعني في الواقع أن يكون لك الكثير من "الأصدقاء" على الفيسبوك؟ والجواب الأكثر تفاؤلًا هو: أنَّ الصداقة (أن يصبح المرء صديقًا لأحد على الويب) لا تعكس الصداقة الحقّة، بل مجرّد وجود صلة -أحادية الاتجاه أو باتجاهين- بين صفحتيْ شخصيتين". بل إنَّ وجودنا صار موشومًا بمقولة "ديكارت" التي استعان بها الكاتب لصياغة المقولة الآتية: أنا موجود لأنني أتفاعل مع آلة وشبكة تقنية- اجتماعية". وذلك في إطار عملية "تُخضع أجزاء من ذات الفرد لنظرة الآخرين من أجل المصادقة عليها". ويختم الكاتب هذا الفصل باستعراض المؤانسة الرقميّة عند "الجيل الرقمي" أو الأحداث الذين "يسبَحون في ثقافة رقميّة تمنحهم إحساسًا قويًّا بالانتماء لمجموعة متقاربة الأذواق ومراكز اهتمام مشتركة".
في الفصل الرابع الموسوم بـِ"ثقافة تعاونيّة وتطوريّة: الوفرة الإبداعيّة" يتطرَّق الكاتب إلى ما أسماه "ثقافة التقاسم" حيث "يتعلّق العالم الرقمي بالولوج المفتوح وحرية التبادل"، ومن نماذجها موسوعة ويكيبيديا التي "تمثل بامتياز رمزًا لإنتاج تشاركي للمحتويات.. وهنا نبتعد عن شكل الثقافة المطبوعة ونعتمد حكمة الجمهور". ثم ينتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن المؤلِّف في الزمن الرقمي، لينبّه إلى أنَّ "الكثير من الكتّاب مطالبون حاليًّا أكثر من أي وقت مضى باستعمال الأجهزة الرقميّة التي تمكِّنهم من تخزين المضامين.. وإمكانية إعادة تنقيح النصوص، والوصول إلى المصادر عبر الشبكة، والتصحيح الآلي". ويحدد ريفيل موقفين حول الكتّاب تجاه الرقمي: بالنسبة إلى الأوَّل فإنَّ الويب الشخصيّة تشكِّل واجهة، ومجالًا لترويج الكتاب والإعلانات.. وبالنسبة إلى الثاني فإنَّ الويب تشكّل مجالًا لربط العلاقات وتجريب أشكال جديدة من الكتابة". ويحذّر في نهاية هذا الفصل من أنَّ "ثقافة التسلية والمتعة المنتشرة عبر الويب هي في الطريق نحو إزالة شرعيّة، أو على الأقل، تهميش الثقافة التقليديّة بشكل تدريجي"، وهو ما قد يفضي إلى "استخدام يخلط بين المعرفة والمتعة".
في الفصل الخامس المعنون بـِ"ثقافة متكيِّفة ومتعدِّدة الأصوات: كتابات على الشاشة" يسافر بنا الكاتب بين الأزمنة الأولى للقراءة والكتابة وتطوُّر دعاماتهما عبر التاريخ، بدءًا بلفافة الورق ومخطوطات البردى، ومرورًا بالمخطوط، فاختراع الطباعة، ووصولًا إلى ازدهار التواصل الإلكتروني الذي "خلخل طرق الكتابة والقراءة". كما يعدِّد "ريفل" العمليات التي يتيحها النص الرقمي من قبيل: الكتابة والتحويل والقطع والحذف وقابلية التوزيع بلا حدود. ينضاف إلى ذلك تنوُّع طرائق القراءة (الحواسيب والهواتف الذكية والألواح الرقميّة..) وابتكار أجناس جديدة من الكتابة (المدوّنة والتغريد والفيديو..). ويشير الكاتب إلى أنَّ الرقمي عادة ما يُنظر إليه من زاويتين: الأولى تعتبره معزّزًا لقراءة مختصرة ومتسرّعة وسطحيّة، فيما الثانية تؤكد أنه يشجع نشاط الدماغ ويغني فهمنا للأحداث. ليستنتج أنَّ "الاستعمال المكثف للحاسوب والإنترنت يتطلب الصبر والانقطاع، بخلاف القراءة التقليديّة التي تتطلّب البطء والعزلة والهدوء".
يستعرض الكاتب في الجزء الثالث من الكتاب "علاقة أخرى مع الإعلام والسياسة"، وفيه يعرض للفصل السادس "ثقافة المعلومة في الوقت الراهن: انعطاف في الاستخدامات"، حيث يسلط الكاتب الضوء على "الصحافة الرقميّة" التي "غيَّرت جزئيًّا الطريقة التي يجري بها إخبار الجمهور، فكانت سببًا في إعادة توزيع الأدوار بين المنتجين والمستهلكين لمواد الصحافة الورقيّة والإلكترونيّة". ويرى "ريفيل" أنَّ الصحافة الرقميّة صحافة تجاريّة "تفضّل الرؤية وتأثير بث المعلومة.. بغض النظر عن أهميّتها أو أصالتها"، كما أنها أيضًا صحافة تفاعليّة ترتبط طبقيًّا بـِ"مستوى الشهادة، والحالة السوسيو- اقتصاديّة وسن الأشخاص المعنيّين".
ويأتي الفصل السابع والأخير من الكتاب "ثقافة تشاركيّة جديدة ومواطنة: نحو ديمقراطيّة إلكترونيّة"، حيث يستهلّه الكاتب بالسؤال الآتي: "هل تعتبر التكنولوجيات الرقميّة فرصة أو خطرًا على الديموقراطيّة؟". الجواب عن هذا السؤال يكمن في ما سماه الكاتب "التواصل السياسي عبر الإنترنت"، مستشهدًا بالمثال الأميركي، وبالضبط الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة الرقميّة التي قام بها الرئيس "باراك أوباما" في العام 2008 في الولايات المتحدة.. مستفيدًا من وسائل الإعلام الرقميّة وبالأخص الشبكات الاجتماعيّة، حيث "راهنت الحملة بقوّة على الإقناع بواسطة الإنترنت من أجل كسب المتعاطفين بنسبة عالية وتعبئة الناخبين". وصار الوصول إلى الناخب أولويّة لكسب التأييد واستقطاب الأصوات، ليخلص الكاتب إلى أنَّ "الويب ستستمر في إحداث تغيير أعمق لإعادة تشكيل السياسة في السنوات المقبلة".
في عالم أصبحت التكنولوجيات الرقميّة تؤطر آفاقه المستقبليّة، يرعى كل واحد منّا عزلته الخاصة ليتعرّف إلى الآخر البعيد القريب، اعتمادًا على مناجم التكنولوجيات الرقميّة التي من شأنها أن تعيد توجيه القراءة والكتابة نحو ما يحقق للكاتب والقارئ في العصر الرقمي استحضار ظلال الماضي وأصواته (المضمَّنة في الورقيّ) واستشراف عالم افتراضي يمثل جسرًا لانفتاح آفاق التبادل والتقاسم وتعزيز المكانة الواقعيّة والافتراضيّة (المجسدة في عوالم الثقافة الرقميّة والمدونات والمنتديات..)، بما يضمن تجسير المسافات الممتدة بين غرف مغلقة وأخرى مفتوحة على تواصل أفضل بين البشر وعلى تيسير سبل الوصول إلى الثقافة بمختلف أشكالها وتجلّياتها.