‏"هب لي عينًا ثالثة"‏ لـِ"مفلح العدوان"‏

د. نزار قبيلات/ الأردن‏

 

 لا يمكننا أن نقرأ مُنتجَ الكاتب والقاص الأردني مفلح العدوان دونَ العبور من مفهومين يتعلقان ‏مباشرةً بمفهوم القصّة لديه، أولهما؛ أنّ القصة القصيرة لدى العدوان تركن لمستَندٍ تراثي ‏ووجودي بكافةِ ملامِحه وتشكُّلات هويّته أنّى كان هذا التراث، والمِحور الآخر هو صوفيّة الكاتب ‏وإيمانه بأنّ للمستمسكات التّاريخية والحضرية رُوحها ونداءها الذي تنبلج منه هنا وهناك، ‏فالفلاسفة يقولون: "إنَّ العالم ليس ما نراه لكنّه ما نسمعه حينًا ويرانا هو دائمًا"، لذا فإنَّ ديدن ‏الكتابة على الدوام هو مَلء الفراغ القابع بين المادي والروحي، الممكن والمستحيل، الحاضر ‏والغائب، فالقاص تحديدًا وبِتلك الالتقاطة البسيطة التي يُكبرها ويُضخّمها لا يريد أن يستكشفَ ‏الغائب أو المتواري حسب، بل يريد من جهة أخرى أن يقرّب المسافة بينهما بقدر ما تحثّه ولا ‏تشبعه هذه الفاصلة المكانيّة والزمانيّة بين ما هو قابع فعلًا وما لم يقع، أو نودّ لو أنّه لم يقع، أو ‏نتوقع له أن يقع. وإزاء ذلك فإنَّ الكاتب المتحسّس لهذه الصراعيّة يشعُر بقصور أداته وبرغبته ‏في تمكين نفسِه أو التزوُّد بأعضاء وحَواس أكثر، فهو يؤمن إذ ذاك بأنّه بات بحاجةٍ إلى ‏الحصول على عين ثالثة أو على يدٍ ثالثة كما هي الحاجةُ إلى حاسةٍ سادسة دومًا، فالكمال ومِنه ‏الاستواء لا يستقيم إلّا على ثلاثة مراجل على الأقلّ.‏

ويبدو إلحاح الإنسان في البحث عن الثّالث نابعًا من سلميّة روحه، ومن ميلِه لوجود منطق ‏للأشياء؛ فاثنين تعني قصورًا، وأربعة تعني تزوُّدًا لا طَائل منه، كل ذلك رغبة في تحقيق تآلف ‏بين الواقعي والمستحيل، لذلك فإنَّ مذهب مفلح العدوان في مجموعته هذه ليس سرياليًّا لأنه لا ‏يرغب في إدراك الحلم والاستفادة منه كأداة أو تقنية ربَّما تساعده في إضاءة المزيد من ‏المساحات المعتمة لصالح المساحات المدركة والواقعة تحت الضوء، بل في ولوج الحلم نفسِه ‏وإحداث تعديل فيه لكون هذا الحلم مبنيًّا في الأساس على الواقع وما هو إلّا امتداد له ومنه، فمثلًا ‏في قصة "أيام الأستوت الستة"، جاءت فكرة الأيام الستة الحلميّة من فكرة أيام الأسبوع السبعة، ‏وفي قصة "لص في حفلة عشاء" استثمر الكاتب فيها طاقة الإبداع في إحداث الممكن وخدمة ‏الغائب -مؤنس الرزاز- وإعادة طقسه إليه على الرغم من حتميّة غيابه، ففي هاتين القصتين نجد ‏أنَّ لغة القصّ ليست سرياليّة بقدر ما هي إعمال في مستحيل ممتدّ من رَحم الممكن.‏

الأسرار الدفينة، والحيرة المقلقة، والحلم باستذكاراته، والتحوُّلات الشنيعة في الأشياء، كلها ‏ظهرت في العنونة الفرعيّة لأجزاء هذه المجموعة القصصيّة التي اشترط الكاتب لمن يريد ‏الدخول إليها الدعاء للحصول على عين ثالثة، فقد امتلأت العينان في أوّل الأمر بجسامة القدر ‏وحتميّة الكون واستسلمت للأسطورة وللخرافة، وبالرُّعب بمجرّد التفكير بالاقتراب منها، فلو ‏تمكَّن أحدنا من الحصول على العين الثالثة لتوقَّف الهذيان وانتفت الغرابة وتساقط عِقد الاندهاش ‏وتمَّ التسامح مع الجنوني، ولصار الخيال أكثر إنتاجيةً ومقدرةً على التّحقق، ولصارت أسئلة ‏الهلوسة مشروعة وقانونيّة.‏

وهكذا لم يترك العدوان العنوان يقف عند حدود الطلب والإنشاء، إذ فلسفة الرؤية والإحلال ‏والتواصل لديه أهّلت هذا الطلب والترجّي الذي احتيج فيه إلى عين ثالثة مرةً واحدة، ما يشي بأنَّ ‏الرّأس يمكنه أن يحتمل وجود عينٍ ثالثة نتيجة انشغال العقل والقلب في البحث عن الغائب ‏والحدسي واللامرئي والذي فشلت العينان في تحديد موقِعه في الوقت الذي شعرَ به القلب والعقل ‏معًا محاولين إدراكَه. وبل ويقال إنَّ ثمّة عينًا حدسيّة فعلًا تتغذى من غدد في الرأس ومكان هذه ‏العين أعلى الجبين، وبهذا يقول مفلح العدوان في قصته: "ربّي هب لي عينًا ثالثة: دعوت، بعد ‏أن شعرت أنَّ عينين فقط على خريطة وجهي لا تكفيان لكشف تلك الدروب الجديدة، وأنا ‏وحدي، ومتاهة الطُرق تتداخل، كأنها تريد أن تصلني إلى نقطة تتوق لأن تلتقي فيهاـ وأنا لا ‏أدركها بما أوتيت من نظر...".‏

وهنا يبدو البصر مقتصرًا على عينين، والبصيرة على عين ثالثة تسهم في تدارك الأرضيّ لكنها ‏وعلى الرغم من ذاك لن تلحق بمن استمروا في رحلة غيابهم إلى كبد السماء، فحين يتعلق ‏الأمر بمصير مَن بلغت أرواحهم السماء تختفي العين الثالثة ويعود الاستفهام مرهقًا لمن طلب ‏ورجا عينًا ثالثة في محاولة أيضًا ليبدو مختلفًا عمّن يشبههم ولا يفهمهم. ‏

الكتابة هي المنفذ الوحيد لمواجهة القدر، وربما لتحقيق نَصر على شُرطيّة الحياة وضجرها ‏وتلبّسها بنا، إنها الوحيدة التي تَجعل مطالِبنا غيرَ سخيفة وموضوعيّة في آن. والكتابة هي الوحيدة ‏القادرة على تأطير المفردات التي فصّل بها مفلح مجموعته هذه، وهي "السرّ، والحيرة، والحلم، ‏والتحوّل".‏

ولعلَّ هذه الأسئلة المقلقة والمحيّرة تفرض بطبيعة الحال وجود حيّزٍ مكاني أو زماني يناظرها أو ‏تصدر منه، لذا حرص العدوان على خلق بينيّات بين كل الثنائيات الواقعة بين الثابت والمتحوّل ‏أو بين الظاهر والخفيّ، ففي قصة "غفوة" اختزل العدوان صراع الوجود الإنساني برمزيّة ملفتة ‏جعلت الصقر في كفّ والكون بضجيجه وعبثه في كف أخرى، لكن بين غفوة الصقر وأبديّة ‏الحياة أذان يصدر كل حين ليذكِّر الصقر الغافي والكون المتجدد منذ الأزل:‏

‏"عاد إلى كرسيه، بملل، ويأس، ودهشة ممّا يحدث.. ضمّ جناحيه وأعادهما إلى سكونهما ‏الأزلي ونام!!‏

علا شخيره

واقتربت ضجة الكائنات من أذنيه، فلم يسمعها، وبقي صوته يعلو على قلقها، وهي مستمرة ‏في عبثها، محتمية بصمته الأزلي!!".‏

ولعلَّ هذا الأزل وكذا الضّجر الكوني يتوارَى عنه الصقر بغفوة لا تكترث بحجم كل ذلك الآخر ‏الكونيّ بأزليّته، والذي لن تتوانى نيران الحريق من الإجهاز عليه، ففي قصة "حريق" كان ‏الحريق الوحيد القادر على أن يدوس على كل ذلك، لكن ليس بطريقة "الصقر" اللامبالية؛ فقصة ‏‏"حريق" ذهبت إلى النهاية الحتميّة الوحيدة القادرة على وقف هذا التضاد الكوني، فبما أنَّ الصقر ‏والكون لم يستجيبا لا إلى صوت المؤذن ولا إلى صوت صافرات سيارات الإطفاء ولا إلى ‏صافرات القطارات التي تتقدَّم في الزمان، فإنَّ الحريق وحده القادر على التهام كل ذاك. وأمام ‏هذه النظرية الحتمية يتمنى العدوان لبطل إحدى قصصه لو يعود طفلًا، فمراحل الزمن التي ‏استبقها في حضن الأم والمدرسة وحضن جميلته وساحات عمله أحالته إلى أمنية العودة طفلًا ولو ‏حلمًا.‏

‏ فالنواقص التي يرنو الإنسان إلى ملئها تكمن في الجوع والحلم والحزن والخوف، وهي مفاعيل ‏أفرجت عنها الحياة وسعى وعي الإنسان إلى طمسها من خلال تكملتها بما يعوزها، لكن النتيجة ‏أنَّ وطأة الحياة وواقعيّتها الدسمة تجعل الإنسان يرتدّ إلى الحلميّ والأمل الغيبيّ من أجل دحض ‏فوضى الكون غير المستقر وانتظار الفرج من السماء:‏

‏ "... سيضع رداءه على صخرة، وسينتظر مركبة تجرها خيول من نار تأتي قادمة إليه من ‏السماء، تحمله معها، لتكون نهاية تليق به...".‏