أفكار؛ نحو ثقافة المستقبل

لعلَّ تشكيلَ هيئة تحرير جديدة لمجلة "أفكار" سيكون إيذانًا ببدء مرحلة جديدة من هذه ‏الوثيقة الفكريّة المهمّة التي يسهم فيها كتّابٌ وشعراء وأدباء وباحثون من مختلف أقطار ‏الوطن العربيّ. المرحلة الجديدة تتمثّل في عدم اقتصار الموادِ المنشورةِ على المنتجات ‏الأدبيّة والفنيّة بأنواعها، مع التقدير لما تحمله من قيمة، وإنَّما العملُ على اجتياز ‏الجسر نحو العلوم، ونحو التكنولوجيا التي تسيطر على العصر الذي نعيش فيه، ‏وسوف تزدادُ سيطرتُها كلّما تسارعت خطواتُنا نحو المستقبل. ‏

وبطبيعةِ الحال لن تكونَ مجلةُ "أفكار" منبرًا لنشر الأوراق العلميّة بقدر ما ستسعى إلى ‏التعامل مع العلوم والتكنولوجيا كجزءٍ من الثقافة المجتمعيّة، وكواحدٍ من محركاتها. ‏

‏   وإذا كان الإبداعُ يُسجّلُ للآداب والفنون، فلمَ لا يُسجّل للعلوم؟ ولقد تنبّه العالِمُ ‏والروائيُّ البريطاني المشهور "سي. بي. سنو"( ‏Snow‏ ) في  أعقاب الحرب العالميّة ‏الثانيّة إلى تفوّق كلٍّ من ألمانيا والولايات المتحدة على بريطانيا، على الرغم من أنّها ‏أي (بريطانيا) كانت مهدَ الثورة الصناعيّة، وكان السببُ الرئيسُ كما رآه "سنو" -‏أوضحه في محاضرةٍ قدّمها عامَ 1948 وأخرجها عامَ 1950 في كتابه المشهور " ‏الثقافتان والثورة العلميّة"- أنَّ المجتمع البريطاني آنذاك كان منقسماً بين ثقافتين: ثقافة ‏العلم والتكنولوجيا لدى من يعملون بها، وثقافة الإنسانيات للآخرين ... وبين الثقافتين ‏فجوةٌ كبيرة لم تتمكن أيٌّ منهما من وضع الحلول الناجعة للبلاد أو للمؤسسات. هذا في ‏حين أنَّ ألمانيا وأمريكا تنبّهتا إلى هذه المسألة في وقتٍ مبكّرٍ، فلم يعد الطلبة ينقسمون ‏إلى طلبة علوم أو طلبة إنسانيات، أو حسب أدبياتنا تصنيف "علمي وأدبي"، وإنَّما ‏على الجميع أن يدرسَ الأساسيات في كلٍّ من العلوم والإنسانيات، بهدف تجسير ‏الفجوة وكي تصبحَ ثقافةُ العلم جزءًا من الثقافة العامة، وبالتالي يصبح هذه التجسيرُ ‏عنصرًا فاعلًا في تطوّر المجتمع، خاصةً ونحن أمام ثوراتٍ علميّةٍ وتكنولوجيّة متتالية ‏ولا حدود لها، وهذا يوصلنا إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن يفهم المواطن، ومن ثمّ ‏يفهم المجتمع أساسيات العلوم والتكنولوجيا وإبداعاتها من جانب، ويفهم الإنسانيات ‏وإبداعاتها من جانبٍ آخر، وهذا يمثّل  الطريقَ الصحيحَ نحو المستقبل. ‏

وكما نلاحظ هناك مؤشرٌ أو دليلٌ لتفهّم المجتمع للعلم، وكلُّ مجتمع يعطي علامة ‏تحدد ذلك. ونلاحظ أنَّ الدول الاسكندنافية مثلاً؛ تحتلُّ المكانة الأعلى في هذا الشأن ‏بين دول العالم؛ ومن هنا فإنَّ التعاملَ مع ثقافة العلم والتكنولوجيا من منظور مجتمعيّ ‏لا بدَّ وأن تأخذ حظَّها من الاهتمام وخاصةً في المجتمعات العربيّة. ‏

ولسوف تحاول مجلّةُ "أفكار" باعتبارها منبرًا للفكر الحداثيّ أن تغطي جوانبَ مختلفةً ‏من فكرٍ وفلسفةِ العلم والتكنولوجيا والإبداع، هذا مع التأكيد على أنَّ الثقافة المجتمعيّة ‏القائمة على تجسير الفجوة بين العلوم والإنسانيات تكون محرّكاً رئيسًا نحو صميم ثقافة ‏المجتمع، وأنَّها تدفع باتّجاه إطلاق المواهب الإبداعية وتحفيز النمو الاقتصادي ببشائر ‏عالية، وهو أمر تفتقر إليه معظمُ الأقطار العربيّة.‏

وغنيٌّ عن التنويه؛ فإنَّ هذا التطلّعَ لا يتحقق إلاّ بالمشاركة الفاعلة من العلماء ‏والمهندسين والباحثين والكتّاب والشعراء باتّجاه بناء ثقافةِ المستقبل. فهل تبدأُ خطواتُنا ‏بهذا الاتّجاه؟!‏

الدكتور إبراهيم بدران