الانكفاءُ على الذات في رواية "ليلتان وظل امرأة" لليلى الأطرش.

د. نهلة عبد العزيز الشقران 

كاتبة وأستاذة جامعية/ الجامعة الهاشمية

تكشفُ لنا ليلى الأطرش الستارَ المسدل على الأنا، لنعرف كيف ترى الكونَ من حولها، حينها تشرق الشمس لتغيب، وتغيب لتشرق، وتستمرّ الحياة بلا رغبةٍ بالضوء المنبعث منها، وتكتفي لترى الأنا الكون من خلال هواجسها مرتدّا إليها، فلا بؤرة تمثّله سوى أفكار كوّنتها في طفولتها، ولا عماد يُلتفت إليه غير الهروب من مواجهة الآخر، الآخر الذي يتمثّل في الرجل والمرأة، فالبطلة "آمال" تنكفئ على ذاتها وترفض مواجهة أمّها أو أختها منى أو زوجها عادل، وكذلك الحال في "منى" التي تقوم بالشيء نفسه وبطريقة مختلفة.

(ليلتان وظلّ امرأة) عنوانٌ بمفارقة صارخة يلخّص ما تريده الكاتبة بجملةٍ اسميةٍ مثبتة متصدّرة بـدلالة الليلتين على الظلمة والوحشة والانكفاء والحزن والمآسي، ثم دلالة العدد اثنين على عدم الرغبة بالبوح لقلّته، فهما ليلتان فقط جمعتا البطلة وأختها التي جاءت راغبةً في ولوج عالم أختها، وكان سفر ابنها حسام سببًا ظاهريًّا لرغبة تكنّها في نفسها، فتصوّر الكاتبة الصراعاتِ النفسيّةَ لدى كلّ منهما، والتمسك بسياجٍ حصينٍ يحمي الأنا التي تحاول الهرب من البوح إلى أن تنهار مرة واحدة في نهاية الليلتين، لكنّها في اللحظة نفسها تتوازن، وتقف قويةً قادرةً على الاستمرار.

 ولا يتمّم المبتدأ بأيّ وصف للّيلتين، يوحي بالكآبة التي رسمتها الأحداث، بل يتعدّى الوصف تاركًا إيّاه، ويردفه بنقطتين تصوران عالمين مختلفين لكلّ منهما، فهما ليلتان ونقطتان، ثم امرأتان مختلفتان في أمورٍ كثيرة، ومتفقتان في أنّهما ظلّين لما تأمّلتا أن يكون من وجودٍ لكليهما، فجعلت الكاتبة (ظلّ امرأة) مشاركًا الأهمية مع الليلتين، والظلُّ صورةٌ تؤكّد حضور البطلة من خلاله، وحضور أختها كذلك، في حين أنّها قضت معها نهارين أيضًا، لكنّها اختارت ذكر الليلتين اللتين اكتشفت انكفائها على ذاتها من خلالهما أيضًا، فهي ليست امرأةً، بل هي ظلٌّ فقط يشبه الليلتين في غموضه وقتامته ووحشته، ولم يظهر هذا التصوّر بدلالة عنوان الرواية حسب، بل تعدّى الأمر بدلالة عناوين الفصول، فجاءت بسيميائيّة مقصودة تدور في فلك العنوان الأم، ضمن عناوين فرعيّة لكلّ من الليلتين: (الليلة الأولى: انتصارات صغيرة/ الحياة نصيب/ أين هو الآن؟/ السيدة مشغولة دائمًا)، فترسم الأنا كما تحبُّ أن تكون في عيون الناس، في حين أنّها تكشف لذاتها فقط أوجاعَها ووحدتها وتيهها وإخفاقاتها. و(الليلة الثانية: رحلة ليليّة/ امرأة مدلّهة/ ثورة مستكينة/ الانهيار) حيث بدأت تحاول كلّ منهما البحث عن الأخرى، كالاستعانة بالخادمة الأسيوية التي كشفت لمنى أسرار حياة أختها آمال، وعلاقتها مع زوجها الذي تزوجته عن حبٍّ، لكنّه هجرها إلى أخرى، ثم تقترب المحاولات أكثر من المواجهة المنتظرة طيلة أربعة عقود بشكل مباشر، حين تنهار منى بسبب سفر أصغر أبنائها حسام عند أخوته للدراسة، وهو آخر ما تبقى لها للحياة مع زوجٍ لم ترتبط به عن حبٍّ كأختها، في حين أنّها استمرّت معه وستستمر، وهذه المفارقة العجيبة تجعلها تقارنُ بين زواج كلّ منهما، زواج أختها آمال الذي كان من المفترض أن ينجح وفق اعتقاداتها في الحياة في حين باء بالفشل، وزواجها هي الذي بقي طوالَ كلّ هذا السنوات آيلًا للسقوط لكنّه صمد!  تبدأ آمال بكشف المستور من نفسها أمام منى، وتخرج من انكفائها على ذاتها، فتقف الأنا في موقع المتفرّج على الذات، وهي التي قرّرت ألّا تعنيها الأمور بدقائق تفصيلاتها الرتيبة، فالذاكرة لم تخصّص إلّا للمحو، هكذا كانت تظن حين اعتقدت أنّ الدنيا صالحتها ب"عادل"، فغفرت لأمّها ولكلِّ من فضّل أختها الأجمل عليها، وحتى لأختها نفسها، في حين أن أختها لم تستطع الغفران، فهي لم تحظَ بالحب!

العنوان الأخير لليلة الثانية (الانهيار) يدلّ على خوف الأنا من المواجهة، وشدة الهوة بين ما يُعاش وما يُتخيل أنّه موجودٌ، ازدواجية تتنبأ دومًا بعدم صدق الأحداث، وبانفصالها عن الأمل الذي تأمّلته، لكنّه لم يتحقّق، لذا اختارت الكاتبةُ اسمين للبطلة وأختها: آمال، منى، ففي كلٍّ منهما دلالة على بحث الأنا عن حلمها، وعن حقّها في أن تكون امرأة ولا تكون ظلّا فقط،  وتعثّرها غالبًا في إيجاد صدى لصورتها التي تريد، وفي دلالتها على  البحث عن الآمال والمنى لتحقيق السّلام الداخلي، هذا السّلام الذي يستغرق رحلةَ الحياة في مواجهاتها للكون وحيثياته.

 

جاءت الروايةُ في ثمانية فصول، وكلُّ فصلٍ حمل عنوانًا فرعيًّا يشي بفكرة أرادتها الكاتبةُ في الرواية كلّها، وهي ما تواجهه المرأة من ضنك لتحقيق ذاتها، والسدود المنيعة التي تواجه نجاحها في الدراسة والعمل وسعادتها في الزواج والأسرة في آن، فهل يجب أن تحارب لتحظى بالأمرين؟ وكأنّها كذلك تعرّي المجتمع في نظرته القاصرة للمرأة دون رجل، وفي الوقت ذاته تثور على الرجل الذي يخنقها، ويعطي نفسه الحقّ في اغتيال حتى كرامتها، كحادثة التعدّي على كرامة المرأة بالتحرّش، والأذى النفسيّ الذي تعرضت له آمال من زوج أختها منى.

 هما إذن، آمال ومنى لم تصلا لكينونتهما لا في زواج تقليديّ ارتضاه الأب؛ وأجبر ابنته "منى" عليه، حين كشفت أختها عن علاقة غراميّة تربطها بهشام الذي بقي طيفًا كالظلِّ تمامًا يرافق مخيلتها، ولا في زواجٍ عن حبٍّ واختيارٍ واعٍ مخطط له وفق قدرات آمال التي تفوق أختها بذكائها لا في جمالها! 

من هنا افترضت كلُّ واحدة منهما أنّها تعيش في معركة تحارب فيها الأخرى، وتحارب فيها الرجل الذي لم يستطع أن يكون سندًا في الصورتين، ولا يمكن الدخول في معركة دون استراتيجيةٍ تأخذ بعين الاعتبار كلَّ الأبعاد والعوامل التي من شأنها أن توصل مبتغى المرسل؛  حين يحصر بنية اللغة في فضائين: فضاء من العقبات، يحتوي على معطيات، هو هنا عدم تصالح الأنا مع من حولها، لا الأسرة ولا الزوج، ليكون الفعل اللغوي متحققًا بوصفه، ثم فضاء يُحيل إلى الخيارات الممكنة والمتحقّقة من الأفعال اللغوية، ومن هذه المعطيات كلها، يمكن أن نستنتج أنَّ الاستراتيجيات هي من صميم الخيارات التي تتبناها صورة المرأة في الرواية، سواء أكان ذلك بوعيٍّ مقصود من الكاتبة أم بغير وعيٍّ، والغايةُ من ذلك هو تحقيقُ عمليات لغويّة؛ منها رهان إضفاء الشرعية الذي يحدّد وضعية سلطة المجتمع، ورهان الصدق الذي سعى إلى تحديد وضعية صدق المتكلم، ورهان الإثارة الذي تكمن الغاية منه في حمل الآخر على المشاركة في العملية التبادليّة التبليغيّة، انطلاقًا مما يفكر فيه المتكلم.

ما ميّز الرواية في رسم الانكفاء على الذات هو الولوجُ النفسيّ إلى خبايا دفينة في إحساس المرأة، وحفر أوجاع خبيئة في الذات منذ الطفولة، كاستراتيجية التنقل بين الحوار الداخلي مرة لمنى، ومرة لآمال، للمقارنة بين الحياة  المأمولة، والموت المعيش، فحقّقت المقاصد المبتغاة، بدلالات الخطاب الصريحة منها والضمنيّة، فكشفت الرواية عن مدى تأثير الرجل الشرقيّ في التحكّم بمصير المرأة، فالأب لا يكترث في عائلته، ويغيب تاركًا الأمور لزوجته، فخلق ظروفًا ملائمة للصراع بينها وبين أمّه، ثم ازدادت صورته سوءًا حين زوّج ابنته منى قبل أن تكمل تعليمها وهي المتفوقة في دراستها، ويأتي دور زوج منى المتخاذل في وصفٍ ذكوريٍّ شنيع، ومع ذلك تقبل وترضا به في سبيل الحفاظ على بيتها وأولادها، وتسكت أختها آمال، ولا تفضحه حين حاول التحرّش بها من أجل أختها، وبصورة عادل زوج آمال تكتمل الصورة، فهو أنانيٌّ يحبُّ التملّك، ولا يعي في المرأة سوى الظل الذي يتبعه، ويرسمه كما يريد، في حين أنّها تريد ذاتًا حقيقيّة ورجلًا تسند رأسها على كتفه، لذلك تتركه يغيب ويبحث عن غيرها، وهي تقاسي وجع الحرمان والحب والخذلان وحدها.

وعلى الرغم من هذه الصورة التي ترسمها الكاتبة للرجل إلّا أنّ القرارات المتخذة ليست نهائيّة، فالمرأةُ التي هي ظلٌّ هنا تقبل التفاوض، وتكشف مدى القطيعة بين الأنا والآخر، لكنّها تتعايش معها، وتنهي الرواية بانتظار آمال لزوجها، وعودة منى لزوجها، وباقترابهما قليلًا من أسوارهما الخاصّة، وانكشاف شيء من خبايا النفوس، فإن كانت كلّ نفسٍ تسعى وراء سعادتها في تحقيق الرغبات؛ فإنَّ الذات المنكفئة تعتلي لترى الصمتَ نهاية المطاف، وتأتي النتيجةُ صارخةً بوصول الأنا لحبِّ انكفائها على ذاتها، وتقبلّه، واتخاذه الملجأ الذي يشعرها بالأمان في كهفها المغلق، مبتعدةً عن صخب المواجهة وحيثياتها.