عدمُ كفاية آليات تقنين وضع الترجمة في وطننا العربيّ أكاديميًّا ومهنيًّا""

 

"عدمُ كفاية آليات تقنين وضع الترجمة في وطننا العربيّ أكاديميًّا ومهنيًّا"

د. سليمان العباس – الجامعة العربية المفتوحة – فرع الأردن

يختلف الناسُ كثيراً حين يتصدّون لموضوعٍ يبدو سهلًا من الناحية النظريّة، لكنهم حين يسبرون غوره ويخوضون في تفاصيله، يجدون أنَّ هذه المسألة هي من الأمور التي تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ، ويدلي كلٌّ بدلوه بين متفق ومخالف. هذا الموضوع هو الترجمةُ التي تبدو للكثيرين أمرًا سهلًا في متناول اليد، إلا إنّنا حين نتناول تفاصيلَه بعمقٍ وتفصيلٍ وتمحيصٍ وتحليلٍ علميّ، نجد أنَّ الترجمةَ- فعليًّا- هي من أكثر الأنماط اللغويّة تعقيدًا، رغم أنّها قد تبدو غير ذلك في ظاهرها الشكّليّ، حيث ما يزال هناك من يظنون أنَّ الترجمةَ قرارٌ يتخذه أحدهم ليصبح مترجمًا بين عشيّةٍ وضحاها. وهذا الأمرُ  -في الواقع- لم يأتِ من فراغ، بل يعود إلى أسبابٍ كثيرةٍ نكاد نلمسها في وطننا العربيّ بشكل عام حتى لو كان هناك بعض التفاوت النسبيّ من بلد إلى آخر، ولكنّها في المحصلة النهائية لا يكاد يخلو منها أيُّ بلدٍ عربيٍّ، ويأتي في مقدمة هذه الأسباب عدمُ كفاية آليات تقنين وضع الترجمة دراسيًّا ومهنيًّا. 

إنَّنا حين ننظر مليًّا إلى واقعِ الترجمة في جامعاتنا، نجد أنَّ هناك الكثير من الجوانب السلبيّة التي تجعل خريجَ الترجمة سواءً أكانت تخصّصاً دقيقًا أم ضمن تخصّص اللغة الإنجليزية وآدابها، ليس في المستوى المطلوب بالنسبة إلى الشهادة التي يحملها، بل على صعيد الممارسة أيضًا. ويأتي في مقدمة هذه الجوانب السلبيّة أسسُ القبول وشروطه التي لا تعطي تخصّص الترجمة وضعَه الخاص، فيتم قبول الراغبين في دراسة الترجمة بكلِّ بساطةٍ ودون معايير مدروسة لاختيارهم، وتُعامل كأيّ تخصّصٍ ضمن العلوم الإنسانيّة. وهذا لا يعني انتقاصًا من قيمة التخصصات الأخرى، فلكلِّ تخصّصٍ أهميٌّة تتناسب مع مجاله، إلا إنَّ كوّن الترجمة تجمع بين النظرية والتطبيق بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، يجعلها تختلف عن كثير من التخصّصات التي ينصبُّ جهدُ الطالب على دراستها وحسب.

إنَّ تخصّصَ الترجمةِ ينبغي أن يُمهّدَ له من خلال تدريسٍ مكثّفٍ لعددٍ من المواد التأسيسيّة التي تؤهل الطالب للوقوف على أرضيّة صُلبةٍ تعوضه عمّا فاته خلال فترة وجوده في المدرسة، خاصّةً أنَّ مناهجَنا المدرسيّة في وطننا العربيّ تعتمد بنسبةٍ أو بأخرى على الجوانب التلقينيّة وليس على آليات تطوير المستوى التفكيريّ التحليليّ لدى الطالب. وهناك جانبٌ آخر لا بدَّ أن يؤخذ بعين الاعتبار، وهو أنَّ خططنا الدراسيّة في جامعاتنا وخاصّةً التي تُطبِّق نظام اختيار المواد الدراسيّة، تفرض على الطالب دراسة مواد كثيرة لا علاقة لها بتخصّص الترجمة، فتكون دراسة هذه المواد عبًأ عليه وتجري على حساب تحصيل الطالب في تخصّصه. ويقول الكثيرون حين يحاولون تسويغَ وجود العدد الكبير من المتطلبات، إنَّ الطالب بحاجة إلى معرفة ثقافيّة عامة يحصل عليها من خلال المواد العامة التي يدرسها كمتطلبات جامعيّة. والحقيقة أنَّ كثيرًا من هذه المواد يمكن دمجها بيسر وسهولة، لذلك لنفسح المجال لوجود المواد ذات الصلة الجوهريّة بتخصّص الترجمة؛ ومن هنا، فإنَّ خططنا الدراسية في جامعاتنا العربيّة، بحاجة إلى إعادة نظر ليتم التركيز على المواد التي تسهم في بناء قدرة الطالب ليتخرج مُترجِمًا مؤهلًا لممارسة الترجمة في سوق العمل بكفاءة واقتدار، بعيدًا عن التنظير الذي لا يقدم ولا يؤخر. 

وهناك ظاهرةٌ أخرى ينبغي الإشارة إليها نظرًا لوجودها في الكثير من جامعاتنا وهي أنَّ كثيرًا من الذين يعملون على تدريس الترجمة، هم في الواقع ليسوا مترجمين، فينطبق عليهم في هذه الحالة القول المأثور "فاقد الشيء لا يعطيه". حين يكون مدرسُ الترجمة مترجمًا تطبيقيًّا، فإنَّه في هذه الحالة يعطي طلبته خلاصة تجاربه الميدانية، وليس مجرد سردٍ نظريٍّ لما لديه من معلومات. وهذا ما يؤكّده القولُ المعروفُ بأنَّ الترجمة علمٌ وفنٌ في آن معًا. وهذا يعني أنَّ المترجم حتى لو كان لديه إلمامٌ كافٍ بالجوانب اللغويّة النظريّة، إلا إنَّه ينبغي أن تكون لديه قدرةٌ فنيّةٌ لعرض ما يقوم بترجمته على مستوى فنيٍّ يضيف جمالًا نوعيًّا لما يقوم بترجمته. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ نظام الامتحانات في كثير من جامعاتنا العربيّة لا يقيس قدرات الطالب الحقيقيّة، خاصّةً أنَّ كثيرًا من المدرسين يلجأون إلى آلية إبلاغ الطلبة أنَّ الامتحان سيحتوي على نصوصٍ سبق لهم دراستها خلال الفصل، ونصوصٍ لم يسبق لهم دراستها، وهذا يجعلُ جهودَ الطلبة منصبّةً على حفظ عددٍ من النصوص غيبًا استعدادًا للامتحان. وهناك تطبيقٌ سلوكيٌّ آخر نلمسه في كثير من جامعاتنا في عالمنا العربيّ، وهو منعُ الطلبة من استخدام المعاجم، مع أنَّ المعجم هو السلاحُ المشروعُ للمترجم، واستخدامُه من قبل طالب الترجمة لا يعني على الإطلاق أنَّ الأمر قد أصبح تحت سيطرة الطالب، ولو أنَّ كلَّ من توفّر لديه معجمٌ أصبح مترجمًا، فإنَّه سيصبح لدينا مئاتُ الآلاف من المترجمين حتى لو لم تكن الترجمةُ هي مجال تخصّصهم الدراسيّ. 

ومن المشكلات التي نواجهها حين نتناول واقع الترجمة في وطننا العربي، هو غيابُ الجانب التنظيميّ المستند لقوانينَ وآلياتٍ ممنهجة، حتى لا تصبح الترجمةُ مهنةَ من لا مهنة له. إنَّ هناك عددًا من دولنا العربية لا يزال تطبيقُ نظام المترجم المعتمد والمحلف غائبًا عن أوساطها، حتى أنَّنا في  كثيرٍ من الحالات نجد تداخلًا كبيرًا في مفهوم المترجم المعتمد. الكثيرون يخلطون بين مفهوم المترجم المعتمد ومكتب الترجمة المرخص، رغم أن الفرق كبيرٌ جدًّا بين المفهومين. فمن يحصل على ترخيص من الجهات المعنيّة لفتح مكتب ترجمة، لا يعني أنَّه معتمد فنيًّا ومهنيًّا. إنَّ المترجمَ المُعتَمدَ هو الذي يجتاز معايير علميّة تضعها جهاتٌ مخوّلةٌ من الدولة كالاختبارات العامة، ثم يُقسِمُ من يجتاز تلك الاختبارات قسمَ المترجم، فيصبح معتمدًا ومحلفًا بالمفهوم السليم المتعارف عليه دوليًّا. إنَّ هذا الإجراءَ من شأنه أن ينظّم المهنة بشكل يضمن نسبًة عاليًّة من الدقة، ويبعد عنها المتطفلين عليها حتى لو كان لديهم مؤهلٌ علميٌّ لا يعكسه واقعهم فنيًّا ومهنيًّا، فنحن نلاحظ أنَّ عددَ الذين يمارسون الترجمة في عالمنا العربي كبيرٌ جدًّا، ولكن مستوى عملهم وأدائهم تنقصه الدقة وجودة الأداء؛ لأنَّ غيابَ آليات ضبط المهنة تترك الباب مفتوحًا أمامَ كل من يريد ممارسة المهنة سواء كان مؤهلًا لها أم غير مؤهل. ومما ساعد على هذا الوضع، تطورُ برامج الترجمة الآليّة التي أصبحت في متناول يد الجميع دون حسيب أو رقيب، خاصّةً أنَّ من يطلب الترجمة ليست لديه الملكة اللغوية لتقييم الترجمة ومعرفة مدى صحتها ودقتها. 

إنَّنا من دون أدنى شك  بحاجة إلى هيئات تنظيميّة لمهنة الترجمة على مستوى الوطن العربيّ بمجمله، وليس فقط في الدول العربية بشكلها المنفرد. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنَّنا لا نلمس وجودًا لاتحاد المترجمين العرب الذي تمَّ تأسيسُه في بيروت في بداية العام 2002، وكان يُنتظر من الاتحاد أن يكون له دورٌ تنظيميٌّ في توحيد نشاط الترجمة على مستوى الوطن العربيّ، لكنَّنا للأسف لا نلمس وجوده من خلال الممارسات الفنيّة التنظيميّة، رغم أنَّ المؤسّسين للاتحاد كانوا يمثلون مختلف الدول العربيّة. وكنّا نأمل حين تمَّ تأسيسُ الاتحاد أن يكون له ممثلون في كلِّ دولةٍ عربيٍّة ليكون المظلةَ الكبرى التي تستظل بها جمعياتُ وروابطُ الترجمة في البلدان العربية، بحيث يتولى الاتحادُ التعاملَ مع الجهات الأجنبيّة كممثلٍ لجميع البلدان العربيّة. وكان من المنتظر أن يتولى الاتحادُ الإشرافَ على ما يتمُّ ترجمتُه في مختلف الدول العربية من أعمالٍ جوهريّة كالأدب مثلًا، وإيصالها إلى مختلف دول العالم على أنَّها نتاجٌ عربيٌّ عام وليس نتاج دولة عربيّة بشكلها المنفرد، حتى نظهر أمام الآخرين بأنَّ لدينا الكثيرَ من الأعمال التي تعكس نشاطًا عربيًّا موحّدًا، خاصّة أنّه من الواضح أن ما تتم ترجمته من أعمال أجنبية إلى اللغة العربية، يفوق بكثيرٍ ما تتم ترجمته من أعمال عربيّة إلى اللغات الأخرى، وهذا يجعلنا لا نرى اهتمامًا عالميًّا بما لدينا من أعمال، لأنَّنا في واقع الحال مُقصِّرون في إيصال ما لدينا من إنجازات إلى الآخرين، وخاصّة في مجال الأعمال الأدبيّة والأعمال التي تعكس الواقع الثقافيّ العربيّ. 

ومن الأمور التي ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن توحيد الجوانب التنظيميّة للترجمة، هو غيابُ الجهود التي ينبغي أن تؤدي دورًا أساسيًّا في توحيد المصطلحات عند الترجمة من اللغات الأجنبيّة إلى اللغة العربيّة. فلو تمت ترجمةُ عملٍ علميٍّ من الإنجليزيّة إلى العربيّة من قبل مترجمين مختلفين في عدة دول عربية، فإنَّ القارئ قد يشعر أنَّ الترجماتِ لا تتفق تمامًا من بلد عربي لآخر، وكأنَّ الترجمة ليست للعمل ذاته، لأنَّه سيجد اختلافاتٍ كثيرةً خاصّة في معاني المصطلحات التي تحتمل أكثرَ من معنى حتى لو كانت المعاني المستخدمة كلّها صحيحة وسليمة. وقد تم طرحُ مسألة إيجادِ معجمٍ عربيٍّ موّحدٍ للمصطلحات العلميّة عدة مرات وفي مناسبات مختلفة، إلا إنَّ المشروع لم ير النور، ولا يزال الأمل قائمًا بأن يتولى مكتبُ تنسيق التعريب في الرباط تحقيقَ هذا الإنجاز بالتعاون مع مجامع اللغة العربية نظرًا للحاجة الملحة له، خاصّة في عصر تطوّر العلوم والتكنولوجيا، حيث لا يكاد يمرُّ يومٌ من دون دخول مصطلحات جديدة، سيكون توحيدُها أمرًا يُسهِّل مهمة المترجمين في مختلف الدول العربيّة، كما أنَّه يسهِّل مهمة الدارسين في الجامعات العربيّة حين يجدون أنَّ لديهم مرجعيًّة موحِّدًة للمصطلحات التي يدرسونها في جامعاتهم أو يحتاجونها في مجالاتهم العلميّة المختلفة. 

إنَّ واقع الترجمة وجهود المترجمين في عالمنا العربي يقضيان بضرورة وجود تنسيقٍ متواصلٍ بين كلِّ الجهات المعنية سواء أكانت وزاراتٍ أم هيئاتٍ أم منظمات، حتى يصل وضعُ الترجمة في الوطن العربي إلى المستوى الذي نتمناه ونتوق إليه جميعًا. كما أنَّ الجامعات والمؤسسات التعليمية أيضًا يمكنها أن تؤدي دورًا حيويًّا في إيجاد آلياتٍ للتقارب في برامجها التعليميّة الخاصّة بالترجمة، ويمكن أيضًا أن يكون هناك تبادلٌ للخبرات بحيث تستفيد المؤسسات مما تنجزه في مجالات معرفية مختلفة، وهذا بالتأكيد سيصبُّ في النهاية في المصلحةِ العامة لتلك المؤسسات وطلبتِها والعاملين فيها، خاصّةً أنَّ التطوّرَ التكنولوجيَّ جعل الأمور التنسيقيّة في غاية اليسر والسهولة، وهذا بالطبع لم يكن متوفرًا في عصر ما قبل التكنولوجيا.