الخطابُ التنويريُّ والفعلُ الثقافيّ

عبد المجيد جرادات

أديب وباحث أردني

 

         أدت تطوراتُ الأحداث عالميًّا ومحليًّا بكلِّ ما تخلّلها من خلافات سياسيّة وصراعات متنوعة، لحدوث المزيد من المعاناة التي تعمقت بحكم التقلبات الاقتصادية وما نتج عنها من تحدّيات أثرت في مجملها على بنية معظم المجتمعات، حيث تسود حالةٌ من غياب الرؤية والقلق في معظم الاتجاهات، وتلك هي الحقيقةُ التي باتت بأمسِّ الحاجة لدورٍ تنويريٍّ يقوم به أهلُ الثقافة ويتابع تنفيذَ خطواته أهلُ الفكر.

 

       عند الحديث عن الثقافة التنويريّة، نستعرض -على سبيل المثال- تجربة رفاعة الطهطاوي( 1801-1873) وهو من المفكّرين النهضويين، ومن المتنورين الذين تفاعلوا مع مسيرة التطور الحضاريّ، وفي تتبعنا لمستجدات الحركة الثقافية، نجد أنَّ المثقفَ العربيَّ يحاول الاشتباك مع أسئلة النهضة والتنوير والحداثة والتقدم، ذلك لأنَّ هذه العناوين تشكِّل محطاتٍ تاريخيّةً بارزة في عملية الارتقاء بعيش الشعوب، لكنَّها وبحكم تجارب الماضي تتأثر سلبًا بخفايا السياسة وبحجم النوايا وخطط الدول الغربية التي تحرص على حيوية دورها في العالم العربي، وتبذل الجهود لأنَّ يكون العرب معجبين بثقافة الغرب ومستهلكين لمنتجاتهم.

 

      نستنتجُ من القراءة المتأنيّة حول الخطاب النهضويّ العربيّ منذ مرحلة "ابن خلدون" ولغاية الآن؛ أنَّ طموحات التقدم وفكرة المشروع التنويريّ عند العرب ارتكزت على جملة أبعاد منها: أهميّة توفّر الإرادة عند صُنّاع القرار، وهذا يتطلّب وضع تشريعات ونظم قانونية، تتحقق من خلالها موازين العدالة الاجتماعية، مع مراعاة منح الصلاحيات للمتنفذين وتوزيع المهام والواجبات بحيث تسود قيم الحرية المسؤولة وتستمر عجلة الإنتاج، وتبعًا لذلك لا بدَّ من تعزيز أسس المساءلة والرقابة الوقائيّة، وحثّ الجميع على التمتع بمقومات الثقافة الإنتاجيّة. 

 

       في دراسته المنشورة بمجلة أفكار التي تصدرها وزارة الثقافة الأردنية (العدد 172 الصادر في شهر شباط 2003) قال الدكتور ضرار بني ياسين إنَّ: (الرؤية الواقعيّة لفلسفة النهضة والتقدم عند رفاعة الطهطاوي تمثّل دعوة صريحة للاقتباس الواعي، أو بعبارة أخرى إلى التمثّل والاستيعاب، بحيث تبرز الحاجة للانفتاح على الحضارات المتقدمة، وأن يفيد العرب من أحدث النظريات العلمية ويأخذون ما يخدم طموحاتهم ومشاريعهم التنويريّة.    

 

       تبدو الحاجةُ ملحةً خلال الأيام المقبلة لخطابٍ (نهضويّ تنويريّ) يرتكز على بعدين يُمكن مناقشتهما على النحو التالي:

 

        تظهر ملامح البعد الأول، من مخرجات ما اصطُلح على تسميته بمرحلة التحولات الاقتصاديّة التي جاءت مع نظم العولمة، منذ مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي، بعد أن توجهت معظم الدول لفكرة إشراك القطاع الخاص بتحمل مسؤوليته في المسيرة التنمويّة والإدارة الاستراتيجيّة للموارد البشريّة والماليّة، حيث تخلّت الحكومات عن أصولها وأهم مصادر الدخل القوميّ لشعوبها؛ الأمر الذي عمّق أسباب الفقر وضاعف حجم البطالة، والنتيجة هي أنَّنا نشهد حالةً غير مسبوقة من (التلاوم) الذي يستوجب استعادة مقومات تبادل الثقة على مختلف المستويات، وكل ذلك بهدف الحرص على صون المنجزات، والسعي لإدامة المعنويات التي تعزّز مفهوم التناغم الاجتماعيّ.

 

         أمَّا البعد الثاني، فهو يتمثّل بواقع الصراعات الدوليّة التي تتجدّد مع الزمن بحكم نزعة (التنافس) بين الدول العظمى والصناعيّة في المجالين التقنيّ والاقتصاديّ، وحبذا لو تنبّه صنّاع القرار والدوائر المعنية بالتخطيط الاستراتيجيّ لنتائج  تطورات المشهد العربيّ بعد أحداث (الربيع العربي) التي اندلعت مع مطلع العام 2011، حيث سادت الخلافات الداخلية والمواجهات التي ثبت بعد فترة وجيزة أنها عبثيّة وتحتاج للكثير من الجهود التنويريّة والمصالحات التي تعيد هذه الدول لحيوية دورها في المشروع النهضويّ العربي.

 

      كيف سيكون الخطابُ التنويريُّ في ظلِّ حالة التداخل غير المنضبط عالميًّا وعربيًّا ومحليًّا واحتمالات التغيير التي ستطرأ على منظومة التحالفات الدولية؟ وما هي الأهداف التي يُمكن وضعها بنيّة العمل على تحقيقها؟ ولأنَّنا نتحدث عن أهميّة تبني مشاريع رياديّة نحو المستقبل، فما هي الأدواتُ والأولوياتُ الاقتصاديّة والخطط التنظيمية؟ وكيف يُمكن رسم السياسات وصنع القرارات في هذا الاتّجاه؟

 

       من المؤكّدِ أنَّ استحقاقات المرحلة الحالية والمقبلة تستدعي حث الجهود نحو دفع عجلة النمو الاقتصاديّ سعيًا لتوفير متطلبات الاستقرار السياسيّ والأمن الاجتماعيّ، مذكّرين بأنَّ حقبة (العولمة الاقتصادية) تسببت بتزايد عوامل الشكِّ، وعدم التيقن، بعد أن اتّسعت جيوب الفقر وتراكمت أعداد الباحثين عن قوت يومهم، وتأسيسًا على ذلك تبرز عوامل الحذر، الذي يتطلب بالضرورة بذل كل الجهود للارتقاء بعيش الناس، وهذا ما نتوقع أنَّه سيُثير حمية أهل الفكر لبلورة خطابهم التنويريّ الذي يستند إلى الخطوات الموضوعيّة في دقة التشخيص، ويحثُّ على الشجاعة عند اتّخاذ القرارات.  

 

        نبقى أمام الأدوات التي يُمكن الاستعانة بها عند تبني الأفكار والمشاريع التنويريّة، ونشير إلى الحقيقة التي يُركّز عليها خبراء الاتصال التي تقول: (كلما اتسعت دائرة التواصل مع الجمهور، تبلورت مقومات المعرفة) وهذا يعني أنَّ فكرة التأثير الإيجابي عند المتلقين، تتحقّق عندما يُبدع المبادِر بالحديث أو الكتابة بوضع مفرداته ضمن معادلة المصداقيّة والواقعيّة.

 

      من المفيد الإشارة إلى تباين المواقف في البيئة الاجتماعيّة، فهنالك قيمٌ وتوجّهاتٌ وأفعالٌ ندرك أنَّها تتحكم بسلوك الناس ومواقفهم، وهذا ما يُعيدنا إلى ضرورة البحث عن دور أهل الفكر الذين يمتلكون الحكمة والخبرة التي تمكّنهم من تبنّي مشاريع تنويريّة تهتمُّ بصحة مدخلات العملية التربويّة ومخرجاتها في مختلف مراحلها، وبالتالي لا بد من وجود خطط وبرامج عمليّة تنفيذيّة تهتمُّ بحركة التطور الحضاريّ لكل فئات المجتمع، بحيث تكون النتيجة أنَّ الجميع يتنافسون على إحداث الأفعال التي تنفع الناس وتمكث في الأرض، مع مراعاة التزوّد بكل أسباب المناعة التي تضاعف المنجزات ضمن مسيرة التنمية المستدامة، إلى جانب تشجيع النشىء على فنِّ التعلّم الذي يُعزز فيهم روح الدافعيّة والإيثار.

 

         نشير هنا إلى غاية التعليم؛ وهي بناء الشخصيّة التي تبحث عن المعرفة، وتحرص على التزوّد بكل المؤهلات والخبرات التي تمكّنها من مواجهة متطلبات الحياة والسعي لتحقيق نظرية المواكبة، وبالمحصلة فإنَّ مهمة التعليم هي (ترسيخ الثوابت والمعتقدات) التي تحفّزُ مجمل الكفاءات نحو الرياديّة، بكلِّ ما تغرسه في نفوس الطلبة من همةٍ وعطاءٍ نحو التجديد، وتحفّزهم نحو الابتكارات التي تبرهن على أنَّ الإنجازات المتميّزة للشعوب تتحقّق بفعل المبدعين من أبناء هذه الشعوب، وعندما تتبلور هذه المعادلة، فمن المؤكّد أنَّ منسوب النجاحات سيبرز الوجه المشرق للعلم والثقافة، ويُضفي على المسيرة الحضاريّة طابع الديمومة. 

        نسمع بين الحين والآخر، أنَّ السياساتِ التعليميّة تؤكّد على محاولة الربط بين مخرجات التعليم وحاجات سوق العمل، وهي فكرةٌ رياديّةٌ، لأنَّها تشجّع على التعلّم الذاتيّ واكتساب المهارات التي تمكّن أصحاب الكفاءات من التفاعل وقبول الفرص المتاحة، والجميل في هذه المعادلة أنَّها توفر أرضيّة صلبة لتنوّع الإنتاج والتنافس في ميادين الجودة، مثلما تحول دون حدوث التزاحم الذي يؤدي للتآكل، وربما يدفع البعض للانسحاب المبكر من ميادين الحركة الإنتاجيّة.  

         من المفيد التذكير أنَّ أهل الفكر الذين سيهتمون بنشر ثقافة التنوير، سيحتاجون للوقوف في حالة دفاع مرن أمام سلسلة من النوايا المبيّتة والسيناريوهات التي لا تتسم بالبراءة، بخاصة إذا حاولوا البحث عن هُوية الجهات التي تقف خلف الكواليس، بدءًا بجائحة كورونا، وما سيتبعها من صراعات نقرأ في مقدماتها ومخرجاتها أنَّها تهدف للعبث بعوامل الاستقرار وتبحث عن مسوّغات لخلق النزاعات على مستوى الدول والجماعات، وكل ذلك يجيء بحكم الرغبة بتحقيق المصالح الاقتصاديّة من قبل الذين يطمحون للهيمنة، وما ينتج عن ذلك من  نهب الثروات والتدخلات الخارجيّة التي تبدأ بشعارات عن حقوق الإنسان، لكنها بالمحصلة تؤسّس للمزيد من غياب فرص المساواة بين بني البشر.

         في مجمل الأحوال، لا بد من انخراط المتنورين من أبناء العروبة بحوارٍ ثقافيٍّ يقود إلى تغليب الأمل على مبدأ اليأس، وهذا ما تقتضيه طبيعة الردِّ الحضاريّ على أساليب الاحتواء التي يتمُّ تصديرها للعالم العربيّ من قبل الدول التي تسعى للهيمنة، أمَّا آليات العمل، فهي تبدأ بتنشيط مؤسسات المجتمع المدنيّ وإحداث نقلة نوعيّة في المناهج التربويّة والتعليميّة، آخذين بعين الاعتبار أنَّ الثقافة الكونيّة تتسم بطابع إنسانيّ، ومن الحكمة التعامل مع ما يبرز من أحداث من زاوية المشاركة بصناعة الأفعال، ومحاولة التثبّت عند فكرة الاعتماد على الذات بكل ما في هذه العبارة من مدلولات.

       نذكِّر أنَّ الثقافة العربيّة تمتاز بخصائص استمدتها من روح الأمة العربيّة وتجاربها، والجميل هو أنَّ هذه الخصائص تعزّز الدور الاجتماعيّ في الاستجابة لمتطلبات الحياة ومقتضيات الحضارة، لأنَّها توثق أبرز سمات الانطلاق في الفكر العربيّ، وفي هذا السياق نشير إلى أنَّنا نتعامل مع كمٍ هائل من المعلومات المصاحبة للتطورات التكنولوجيّة والمعرفيّة؛ الأمر الذي يتطلب إتقان مهارات الاتصال من حيث المفاهيم والأهداف ومحاولة استخلاص الدروس والعبر التي تخدم المسيرة الحضارية لهذه الأمة.

    أحدثت التطورات الهائلة في تقنية المعلومات، تغيرات جذرية على المستويين الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وهذا ما يستدعي أهميّة تفعيل دور الفعل الثقافيّ في سبيل التكيّف مع هذه المتغيرات واستيعابها، وتكثيف الجهود سعيًا للمحافظة على مقوّمات صون الهُوية الثقافيّة وديمومتها، باعتبار ذلك من الأدوات التي تنعش الآمال نحو مواصلة البناء، ولأنَّنا نتوق إلى الديمومة ومضاعفة الإنجازات، فلا بد من الإشارة للهدف الأسمى للثقافة؛ وهو الحرص على توفير مقومات (التحصن الفكريّ) الذي يقود بالمحصلة للتماسك الاجتماعيّ.    

    يأخذ المنتج الثقافيّ بعدًا تنمويًّا كونه يرتبط بإبراز الصورة الحضاريّة للأمة، ومن المعلوم أنَّ الحضارة تمثّل في جوهرها مجمل النجاحات في حقول الفكر والمعرفة والصناعات المتطورة وفن العمارة، وكثيرًا ما يأخذ الفعل الثقافي دورًا مؤثرًا في تنظيم السلوك الاجتماعيّ بالاتجاه الذي يلتقي مع حركة التطور الاقتصاديّ ويُسهم ببلورة الاستراتيجيات العلميّة والثقافيّة.

    تستند مهمة الثقافة على جملة معطيات، أهمها مستوى التحدّي الذي يحسُّ به الناس وقدرتهم أفرادًا وجماعات على التفاعل أو المواجهة بالأسلوب الذي يؤكد وجودهم والمحافظة على هويتهم، وهنا لا بد من التأكيد على أنَّ الشعوب التي تجسّد حرصها على مكتسباتها، تضع ضمن خطابها الثقافي ضرورة توفير أرقى مقومات الحوار الذي يُسهم بإزالة الشكوك وتبرز من خلاله الحقيقة. 

    تؤكِّد الدراسات المستقبليّة أن نسبةً كبيرةً من الشباب العرب يعيشون ضمن ظروف صعبة ومعقدة، ومنهم من يُحس بالاغتراب أو التهميش بسبب محدودية فرص العمل، وتكمن الخشية من تعطّل دورهم في الحركة الإنتاجيّة باحتماليّة أن يكونوا عبئًا على مجتمعاتهم، ولأنَّ أسلوب معالجة قضاياهم ينحصر بتوجه الجهات المعنية نحو مفهوم الاحتواء، فلا بد من التفكير الجاد بوضع كل السياسات والقرارات بحيث يكون لهؤلاء دورٌ فاعلٌ في بناء نهضة شعوبهم وضمن المعادلة التي تهدف لتحقيق موازين العدالة والمساواة.   

               في محاولة الربط بين الخطاب التنويريّ والفعل الثقافيّ نميل لتوثيق جملة مقاربات على النحو التالي:

 

      أولاً: نحتاج لتوطين ثقافة الحوار أكثر من ذي قبل، والهدف المنشود هو تجنّب المزيد من تراكم القضايا المؤرقة والمربكة، التي نخشى أن تؤدي مع الزمن لمواجهة الكثير من التحديات والمنغصات، علمًا أنَّ جلّ ما يتوق إليه أهل الثقافة هو (إشاعة الروح المعنويّة ونبذ السلوك الذي يُحاول فيه البعض، احتكار المعرفة، وإقصاء الجهة التي تختلف معه بالرأي). 

  ثانيًا: أمَّا التنمية، فإنَّ عناصر قوتها تكمن بالحرص على جودة مخرجات التعليم وبناء الفكر المعاصر، وتبعًا لذلك تأتي أهمية البحث عن منابع الغنى في الميادين التقنيّة والتعدديّة الثقافيّة، وفي مجالات التصويب، فمن الحكمة بالنسبة لمن يتبنّى أية مُبادرات إصلاحيّة، أن يضع بحساباته الدقيقة أن يكون جزءًا من الحلِّ وليس سببًا بإذكاء الصراعات.

 ثالثًا: بالنسبة للإعلام، فإنَّ التساؤلات المشروعة هي: كيف يُمكن للقائمين على الرسالة الإعلامية الربط بين متطلبات المهنة واستحقاقات المرحلة؟ وإلى أيِّ مدى يُمكن التغلّب على المحدّدات والمعوّقات التي فرضتها تجارب الماضي ومن ضمنها شحُّ الموارد الماليّة؟ علمًا أنَّ النظرة الاستشرافيّة لدور وسائل الإعلام تطرح سؤالين:

  الأول: يتعلق بكيفية المواكبة في ظلِّ ثورة الاتصالات والتقنيات المتطورة التي أزالت الحواجز أمام الثقافات والأفكار، وجعلت العالم المعاصر يرقب مستجدات الأحداث من شرفة السياسة بعد أن أصبح المال والاقتصاد من أهم أدوات التأثير في الميادين الاجتماعية.

السؤال الثاني: يرتبط بدور القائمين على الرسالة الإعلاميّة في كيفية نقل الخطاب الفكريّ القادر على تقريب وجهات النظر بين صفوف الرأي العام، في مرحلة نلمح فيها العديد من المحاولات التي تعزف على موروث الخلافات، وقد تعود بين الحين والآخر لمواقف تاريخيَّة نعلم أنَّ شعوب الدول الصناعيّة والمتطورة تجاوزتها بحكم التصميم على السير في ركب التطور والحداثة.

توصّل معظم خبراء العلوم الاجتماعيّة منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى قناعة مفادها أنّنا إذا امتلكنا أدوات المعرفة والأسباب المادية التي تولد النتائج المنشودة، نكون قد عرفنا استحقاقات المستقبل، أي أنَّ المعرفة الكاملة بالأحداث، تتيح استخلاص نتائجها، وهذه هي أبرز العناوين التي نتوقع أن تكون موضع اهتمام أهل الفكر الذين سينشغلون بالخطاب التنويريّ والفعل الثقافي.

   بين مبدأ السببية ونظرية الأنساق أو المنظومات تبدأ مهمة البحث عن المعرفة، ولأنَّ الحياة الاجتماعية ليست متجانسة في تركيباتها، فإنَّ أيّةَ معرفة مهما كان حقلها، لا تستطيع الإحاطة بمقومات الكمال المطلق، ولن تستطيع أن تنفرد بأنظمتها الاستدلاليّة عن أيِّ تعاطٍ أو أدنى انفعال أو اتصال مع الجمهور أو البيئة المحيطة والعالم الخارجي، وهذا ما يستدعي التذكير بأهمية الانفتاح بمفهومه الذي يخدم مسيرة الخطاب التنويريّ ويعزّز مصادر المعرفة.

يؤدي الإنتاج المعرفيّ الذي يرتبط بمجتمع محدّد إلى وجود منظومة ثقافيّة تتأسس عادة على نظام قيم مركزيّ، تتجلى فيه حالةُ التنافس الذي يضع مصادر المعرفة بمتناول المبدعين كلٍّ في مجال قدراته ومواهبه، وهذه أهم المداخل في الخطاب التنويريّ، الذي يستند على المرونة والقدرة على التحليل سعيًا لاستخلاص أفضل النتائج. 

   نخلص إلى القول إنَّ الحقيقة التي نؤمن بها عن طبيعة الحياة العربيّة عبر الزمن، هي أنَّ هذه الأمة استطاعت أن تتجاوز المحن بفعل الحكماء من أبنائها، ذلك لأنَّ أراضيها خصبة، ولا جفاف يُعرقل مسيرتها الحضاريّة، ومن هنا تتأكّد الحاجة للخطاب التنويريّ الذي يرتكز على الحكمة ويعتمد على فنِّ الحوار الثقافيّ ضمن مفهوم ثلاثية المعرفة ( البيان والبرهان والعرفان).

     وفي هذا الاتّجاه، تجدر الإشارة إلى أنَّ تقديرات خبراء العلوم الاجتماعيّة تؤكّد أنَّ استمرار (حالة عدم الاستقرار في المجالين الاقتصاديّ والاجتماعيّ) تعني المزيد من استنزاف مقدرات الشعوب، وتحول دون الاستغلال الأمثل لدور الكفاءات التي تتفانى في بذل جهودها من أجل مضاعفة الإنجازات، وتلك هي أبرز الأدوات التي تتطلب مواجهة استحقاقات المرحلة سعيًا لتجاوز(المأزق الحضاريّ) وما يتسبب به من منغصات.