رؤية العالم في أدب الحكيم قراءة في فكرة "التعادليّة"

جلال مصطفاوي

المركز الجامعي عين تيموشنت-الجزائر

 

"التعادل هو الحقيقةُ الأولى لحياة الأرض"

توفيق الحكيم: التعادليّة، ص10

 تمهيد: 

يقولُ "كارل بوبر": "كل رجل وامرأة، هو فيلسوف، إنَّما بنسبٍ مختلفة، فهناك دائمًا رأيٌ أو موقفٌ، والفلسفةُ ليست بعيدةً جدًّا عن ذلك"، فإذا كان لكلّ إنسان رؤيته الخاصة للكون الضخم من حوله، وفهمه الخاص لمعنى الحياة والإنسان، وحتى فلسفته الخاصة في الحياة، فإنّ هذا لا يعني أنَّ في استطاعة كل إنسان التعبير عن هذه الرؤية أو الموقف، وإن كان في المستطاع ذلك، فإنَّ أشكال التعبير تختلف من حيث العمق والنضج، وباختلاف مستوى الإنسان الذي يريد أن يكشف عن فهمه للحياة، هذا الفهم الذي تصنعه التجاربُ والمشاهدات. وأشكالُ التعبير عند الفنان بصفة خاصّة، فائقةُ المستوى، إذ إنَّها تتجاوز التعبير عن المستوى السطحيّ لمظاهر الحياة بشكل شموليّ، إلى التعبير عن الوعيّ العميق في العقل الباطن، وتفجّر المفاهيم الفكريّة والشعوريّة، ولكلِّ فنان أسلوبه الخاص وصياغته الخاصة به في تقديم نظرته ورؤيته الفنيّة للحياة، عن وعيٍّ منه وعن غير وعي.. أمّا دراسة الأعمال الفنيّة واستخلاص الأفكار الجوهريّة منها وتحديد المواقف بناء على ما تقدِّمه من معطيات، واستنتاج النَّسق الذي بُنيت عليه، فيُعدّ من مهام الناقد وليس الفنان، كما يعبِّر توفيق الحكيم عن ذلك بقوله إنَّ الأدبَ ذو يدين "يمناه الخالقُ الذي يُنتج ويبتكر، ويسراه النقدُ الذي ينظِّم ويفسّر"... إلاّ إنّ الحكيم في كتابه (التعادليّة) يأخذ الأدب من يديه الاثنتين، حيث يقوم بدور الناقد والمفسِّر لإنتاجه الأدبيّ، وبهذا يعانق الأدب "الحكيم" بيديه، ويتحوّل بعدما كان أديبًا إلى ناقدٍ وأديبٍ في الوقت نفسه. ويعلّق (زكي نجيب محمود) على هذا الاجتماع الجميل في كتابه: "ثقافتنا في مواجهة العصر"، فيقول: "قليلًا ما يجتمع الأديب والناقد في رجلٍ واحد، يكون اليوم أديبًا ثم يصبح في غد ناقدًا لأدبه مستخرجًا منه أصوله ومبادئه، وقد كان الحكيم بكتابه "التعادلية" واحدًا من هؤلاء القلّة التي التقى فيها خلق الأديب وتحليل الناقد". 

 

قصّةُ الكتاب

تتلخّص قصةُ كتاب "التعادليّة" (1955) -كما يروي لنا الحكيم- أنَّ واحدًا من القرّاء الجادّين لإنتاجه الأدبي، انتهى بعدما قرأ كتب الحكيم إلى رأيٍّ مفاده أنَّ مؤلفاتِ الحكيم في مجموعها، محاولةٌ لتفسير الإنسان في وضعه العام من الكون بزمانه ومكانه، وفي وضعه الخاصِّ من المجتمع بأجياله وبيئاته، وأراد هذا القارئ أن يختبر فهمه ومستوى قراءته لأفكار الحكيم، فسأل الحكيم في رسالة عن مذهبه في الحياة والفن، ليقارن جواب الحكيم بالنتيجة التي توصّل إليها هو، فانتهز الحكيم فرصة السؤال، وقام بإعداد الإجابة للنشر على أنَّها مذهبه في الحياة والفن (التعادليّة)، هذه الإجابة التي ترمي إلى إنارة سبيل الجمهور... ونشر الحكيم كتاب "التعادليّة" عندما بلغ سبعة وخمسين عامًا، وحينما كانت مؤلفاته وعددها ثلاثون تمثّل قاعدةً ورصيدًا أدبيًّا، يحكم به كثيرٌ من الأدباء، وكان في تلك الفترة من حياته، متزوجًا وأبًا لطفلين، ووليًّا لابنتي زوجته من زوجها الأوّل، كما كان محافظًا لدار الكتب الوطنيّة وعضوًا بالمجمع العربي، وقد تُرجمت بعض أعماله إلى عدة لغات، وأصبح بارزًا في الكتب المدرسيّة، وعنوان كتابه (التعادليّة) كُتب تحته (مذهبي في الفن والحياة). 

صفوة القول: إنَّ كتاب التعادليّة بمثابة وثيقةً تحملُ عصارة فكر الحكيم وترسم المنحنى البيانيّ لتطوّره الفكريّ في حياته الطويلة ولأهم نقاط التمفصل فيه، وقد كان الحكيمُ يحبُّ الظهور دومًا بمظهر المفكِّر ويحبُّ أن يوصفَ بصفة المفكِّر "...وإنَّما أنا مفكِّر مختلفٌ في شيء أساسيّ هو الشموليّة، مفكِّرٌ، هذا هو اللقبُ الذي أُحبُّ أن يطلقوه عليَّ أو ينادوني به". 

في مفهوم التعادليّة: 

 يمثِّلُ كتابُ التعادليّة رسمًا للدائرة الفكريّة التي كانت تدور حولها مسرحياته ورواياته وحتى مقالاته، ويطالعنا الحكيم في مقدمة كتابه، بقولٍ يحدّد فيه معنى التعادليّة: "التعادليّة تفسّر الحياة الإيجابية بأنَّها ضرورة وجود جملة قوى تتقابل وتتوازن، مناهضة بعضها بعضًا في الكون والمجتمع" (التعادليّة-ص03). 

وفي الكتاب نماذج من الثنائيات المتزاوجة، يستعملها الحكيم للتأكيد على حقيقة النظرية التعادليّة في المادة والروح، ويبلغ عدد الثنائيات تسع عشرة ثنائية أو تعادليّة، في هذا الكتاب، ويبدأ الكاتبُ بتدرجٍ بسيطٍ ليصل إلى أفكاره الكبيرة، فيبدأ بصفة الإنسان الرئيسة وهي أنَّه الكائنُ المعروف لنا جميعًا، الذي يعيش على هذه الأرض، ثم يتساءل عن الأرض، ماذا تمثّل؟ ليسحب منها صفتها المتعادلة "وهي أنَّها-الأرض-كرة وتعيش بالتوازن أو التعادل بينها وبين كرة أضخم.. هي الشمس.. فإذا اختلّ هذا التعادل ابتلعتها الشمس، أو ضاعت في الفضاء" (التعادليّة-ص10)، ثم ينتقل إلى الإنسان الذي يعيش على هذه الأرض التي قانون عيشها، التعادل، ليتساءل: هل صفةُ التعادل هذه تقتصر على الأرض فقط، أم أنَّ الإنسانَ أيضًا يحكمه قانونُ التعادل هذا؟. إنَّ الحقيقة الأوليَّة في حياة الإنسان أنَّ حياته تحكمها عمليةُ التنفّس، والتنفّس هو ذلك التعادل بين حركتي الشهيق والزفير، وإذا اختلّ هذا التوازن بين الحركتين تعطلت عملية التنفس، وبالتالي ينتهي الإنسان، فالتركيب الماديّ لعملية الحياة يخضع خضوعًا جبريًّا للتعادل، ثم ينتقل الحكيم إلى التركيب الروحيّ في الإنسان، ليصل إلى الفكرة ذاتها، فالحياة الروحيّة في الإنسان تحكمها قوتان هما: الفكّر (يمثّله العقل) والشعور (يمثّله القلب)، ومعيار السلامة هذه هو التعادلُ بين هاتين القوّتين، وغيابُ التعادل هو سببُ الأمراض العقليّة والعصبيّة، وكأنَّه يريد أن يقول: مادام قانون الحياة الذي خلقه الله تعالى (=تعادل الأرض، التعادل على مستوى المادة، الجاذبيّة، تعادل حركتي التنفّس، الليل والنهار.. ) والذي ليس لنا اختيار فيه (ماديّ)، مبني على تعادل القوى المتضادة، فمن المستحيل أن تجد قوة أسمى من هذا القانون، لأنَّه المثال أو النموذج المطلق العام، فإذا أردت أن تعيش حياة روحيّة سليمة، فعليك أن تحقّق التعادل بين قطبيها، والنتيجة في نهاية المطاف أن"الإنسان كائن متعادل ماديًّا وروحيًّا" (التعادليّة-ص11). 

 

التعادلُ في المسألة الميتافيزيقية والأخلاق: 

يتساءلُ الحكيمُ في المسألة الميتافيزيقيّة (وضع الإنسان العام في الكون)، فيقسّم المسألة إلى قسمين: أولها يسأل عن الإنسان إذا كان وحيدًا في هذا الكون؟. وثانيها يسأل عن حرية الإنسان في هذا الكون، هل هو حرٌّ أم تحدّه قيود؟. وقبل أن يفسّر الحكيم المسألة من وجهة نظره التعادليّة، يعرض وجهة النظر السائدة باحثًا في علّتها، ثم يحاول أن يبيّن سلامة رأيه باستبدال حالة الفوضى بالتعادل... ثم يقدّم الحكيم تعليلًا ل(تأليه الإنسان) فيقول: "إنَّ التعادلَ الذي كان قائمًا حتى مطلع القرن التاسع عشر بين قوّة العقل وقوّة القلب، أي بين نشاط التفكير ونشاط الإيمان، قد اختلَّ منذ ذلك الوقت بتوالي انتصارات العلم العقليّ، واستمرار جمود الجانب الدينيّ" (ص17) ويضيف الحكيم أنَّ القلق ما هو إلا نتيجة لاختلال التوازن بين العقل (التفكير) والقلب (الإيمان). وأنَّ فكرة الاختلال هذه قد تجسّدت في مسرحية "أهل الكهف" (1933)، عندما وضعت علاقة العقل والقلب في إطار مشكلة الزمن، كما كان لمسرحية "شهرزاد" (1934) الموضوع نفسه، لكن في إطار مشكلة المكان.. وينتهي الحكيمُ إلى التفسير التعادليّ للمسألتين السابقتين، وهو أنَّ الإنسان ليس إلهًا يعيش وحيدًا في هذا الكون، وبيده السيطرة المطلقة، بل هناك في الكون قوى غير ماديّة تصارع قوى روحية يتم إدراكها بنور الإيمان أي مركز إدراكها القلب، أمَّا فكرة الرجل فوق الإنسان أو الأرقى، التي تتطلب الكفاح فمركز إدراكها عند الإنسان هو العقل، والقانون يتلخّص في وجوب توفّر إيمانٍ وعقلٍ معًا، يعملان في تعادل".. إنَّي أومن بأنَّي لستُ وحدي، لأني أشعر بذلك ولم أفقد إيماني، لأنني رجلٌ متعادل، ولكنَّني من جهة أخرى أفكِّر بعقلي لا لكي أدعم إيماني بأنَّي لست وحدي، بل لأعرض المسألة أمام تفكيري بعيدًا عن الإيمان" (التعادلية-ص22). 

أمَّا عن مسألة الحرية الإنسانيّة فيرى الحكيم أنَّ الجانب العقليّ في الإنسان يشهد بحريته، دون الحيوان، والعقل هنا ما هو إلا مشاهدات واستدلال من المشاهدات، أمَّا المشاهدات فتقدّم المعطيات التي تنصّ على أنَّ الحيوان تسيّره غرائزه، وهي قوّةٌ تحكم تصرفاته، فلا يحتاج الحيوان إلى تعليم أو تدريب، في حين أن الإنسان يولد عاجزًا عن المشي والكلام، ولا يختزن حضارته في جوفه كالنمل والنحل مثلًا، لذلك يكتسب ويتعلم، ويصنع حضارته بنفسه وبإرادته، هذه هي المشاهدات، ونستدل منها أنَّ الحيوان مجبرٌ في سلوكه، لا اختيار له في تصرفاته، أمَّا الإنسانُ فهو حرٌ يتصرّف بمحض إرادته واختياره، ويرى الحكيم بأنَّ هذه الحرية التي يمتلكها الإنسان ليست مطلقةً، بل هي مقيدةٌ بقوى خارجية "الإنسانُ عندي حرٌّ في اتّجاهه حتى تتدخل في أمره قوى خارجيّة أسمّيها أحيانًا القوى الإلهيّة، حريّةُ الإرادة في الإنسان عندي مقيّدة، شأنها في ذلك شأن حرية الحركة في المادة" (ص31). وهذه هي النتيجةُ الحاصلة باستعمال الاستدلال العقليّ، وينظر الحكيم إلى المسألة بعين القلب، فيجد النتيجة نفسها، وهي أنَّ الإنسانَ حرُّ الإرادة، حرية قد تتدخل فيها القوى الكونيّة المجهولة. فالعقلُ والإيمانُ يؤديان إلى النتيجة نفسها، وبناءً على هذه الفكرة يبني الحكيم مسرحياته، ويلخّص النتيجة بعين التعادل فيقولُ: "إرادةُ الإنسان في كفّتها تعادلها الإرادة الإلهية في كفّة أخرى، والعقل البشري في كفّة يعادله الإيمان في الكفّة الأخرى" (التعادليّة-ص32). وهذا القانونُ التعادليُّ بين القوى يعيش الإنسان، ويسوق الحكيم أمثلةً ليدعم هذا القانون من (أهل الكهف1933)، و (شهرزاد1934) و (سليمان الحكيم1943) وغيرها. 

هذا عن موقف الحكيم (التفسير التعادليّ) من المسألة الميتافيزيقيّة، ونظرته لوضع الإنسان في الكون، أو حريته إزاء هذا الكون، ومسألة حرية الإنسان تترتب عنها المسألة الأخلاقيّة، فما هو إذن موقف الحكيم من المسألة الأخلاقية؟. يرى الحكيم أنَّ الإنسان مسؤولٌ عن عمله لأنَّه حرٌّ فيه ولم يخلق به، حرية محدودة، ومفهوم المسؤولية يستدعي مفهومي الخير والشر، هذان المفهومان لا وجود لهما إلا في المجتمع-في رأي الحكيم-، فالخيرُ وهو الفعل الإراديّ الذي يؤدي إلى نفع الغير، والشر هو الفعل الإراديّ الذي يؤدي إلى ضرر الغير، لا يوجدان إلا بوجود الغير، وعلى أساس هذا التعريف يصنّف زكي نجيب محمود، توفيق الحكيم في إحدى المدارس الأخلاقيّة "أي أنَّ أديبنا الحكيم ينتمي إلى مدرسة المنفعة، التي تقيس الفعل بنتائجه لا بشيء في طبيعة الفعل نفسه". ويرى الحكيم أنَّ الحياة الخلقيّة السليمة تكمن في ضرورة التعادل بين قوى الخير وقوى الشر، ويدعم رأيه هذا بتفسيره لفكرة العقاب، حيث يقول بأنَّ فعل الشر ينبغي أن يقابله فعل الخير، وليس السجن، لأنَّ التعادل لا يكون بين الشر والحريّة، وإنَّما بين الشر والخير.. إنَّ الذي يضرُّ الناس يحتاج إلى أن ينفع الناس، ليتعادل نفعه وضره للناس، ليرضي الضمير الذي يحدّده الحكيم بقوله: "الضميرُ هو شعورُ الذات بشر لحق الغير لم يقدم عنه حساب" (ص51). ثم يتطرق إلى مسألة العدل وهو في نظره ذلك التعادل بين الخير والشر أو النفع والضرر، فالعدلُ هو المظهر الأخلاقي للتعادل، والضمير هو الشعور بالعدل، ثم يعمّم مفهوم العدل، فكما أنَّ للفرد الواحد ضميرًا، كذلك للمجتمع ضمير، يعمل إذا ما ألحق الضرر بمجتمع آخر، بدون حساب، أو إذا ظُلم فيه أفراد على حساب أفراد آخرين، أي، على الضمير الجماعي أن يكون متوازنًا حرصًا على سلامة المجتمع واجتنابًا للثورات الاجتماعية. 

 

التعادل في ميدان الأدب والفن: 

يمضي الحكيم بتعادليّته، يشقُّ طريقه إلى مجال الأدب والفن، ليرى أنَّ عملية تقييم الأثر الأدبيّ والفنيّ تتوقف على شكل العلاقة القائمة بين قوتين أساسيتين هما القوة المعبّرة من جهة والقوة المفسّرة من جهة أخرى، وأنَّ التعادل بين القوتين يحفظ للأثر الأدبيّ قيمته الفنيّة وقيمته المفيدة "فالأثرُ الأدبيُّ أو الفنيُّ لا يكتمل خلقه ولا ينهض بمهمته إلا إذا تمَّ فيه التوازنُ بين القوة المعبّرة والقوة المفسّرة" (ص70). والتعبيرُ عنده ليس مجرد شكل، بل هو الشكل والموضوع الذي سيق فيه، أو هو الأسلوب مملوء بالمعنى الناجم عنه.. وبهذا المظهر الثنائي الذي يتجلّى به التعبير، نستطيع أن نحدّد جودة التعبير على أنَّها التعادلُ الحاصلُ بين طرفي الثنائيّة (الأسلوب، الموضوع). فإذا كان التعبيرُ-يقول الحكيم- هو كلُّ شيء في نظر الفن للفن، فهو في نظر التعادلية ليس كذلك، فلا بدَّ أن يقترن بقوة التفسير، باعتباره الضوء الذي سيُلقى على موضوع الإنسان في الكون والمجتمع، أي ما وراء العمل الفنيّ من غاية وهدف... فالمطلوبُ من الأديب أو الفنان من وجهة نظر التعادليّة هو أن يُحدث المتعة والمنفعة في آن واحد، أن يُلبس رسالته ثوبًا جميلًا، فقوام التعادليّة في الأدب والفن هو التعادلُ بين خصائص الشكل الأدبيّ والفنيّ ومضمون الرسالة المراد نشرها والتعبير عنها، ويرى الحكيم في قضية التزام الأديب، أنَّ الأديب يتوجّب عليه أن يلتزمَ شريطة أن يكون مصدر التزامه ذاته، أن يواكب التزامه هذا ذاته بتطوّراتها. 

خاتمة: 

 تتمحور فكرةُ التعادليّة في الحياة الإيجابيّة التي تبدأ مع الاثنين، فإذا ما توّفر شيئان وُجدت الحياة والحركة، فالله وحده هو الكامل الأوحد، ومع ذلك خلق الشيطان لتكون الحياة على بعض التلوّن، وكان سيدنا آدم عليه السلام وحيدًا، ولكن مع حواء بدأ الوجود حركته الإيجابيّة، وانقسمت الشمسُ إلى كواكب نتج عنها نظام الدوران، فالحركةُ تتوقف من دون تلك المقابلة على الرغم من أنَّ كلَّ عنصرٍ يحتفظ بقوّته الخاصة، ويذكر الحكيم في كتابه التعادليّة عددًا كبيرًا من المفاهيم التي تتقابل في تعادل بعضها بالبعض الآخر، قصد تنزيل الإنسان منزلته من الكون: الأرض والسماء، الشهيق والزفير، الفكر والشعور (شهرزاد)، العقل والقلب (أهل الكهف)، القوة والحكمة (سليمان الحكيم).. وهو يستشهد في كل الحالات بالعالم الغربيّ، وبمحاولات تبرير وجود الإنسان والكون بذاته، ولئن اجتهد في تقديم نظرية التعادليّة فإنَّ علينا الإشارة إلى أنَّ الكلمة الأخيرة للقلب وللإيمان، أي الله. 

والجدير بالذكر أنَّ كتاب التعادليّة قد أضاف لأدب الحكيم وفنّه قيمةً نقديّةً، وقلّ ما تجتمع القيمتان في شخص واحد، وقد أثّرت فكرة التعادليّة الساحة الأدبيّة العربيّة باعتبارها فلسفةً جديدةً تدعو إلى وحدة إنتاج الأديب أو الفنان، كما أنَّها تخلق للنسق الفلسفي حيّزًا في الميدان الأدبيّ والفنيّ.