اسمي لا أحد

هاشم غرايبة
روائي أردني
(الحياة بلا اسم، بلا ذاكرة، كانت وحيدة.
ولأنَّها واحدة فهي لا أحد
كان لها فم ولم يكن هناك من تكلمه
شقها الشوق لأن تتكلم إلى اثنين
نظر أحدهما للآخر، وضحكا) " مرايا/ إدواردو غوليانو "
لعلَّ الواحد، بلا آخر يشير إليه.. لا أحد. صارت الحياة مليئة بالآخرين، وصرنا لا نرى أنفسنا إلا حين نراهم.. الآن أرى رجلاً اسمه "نيمو"، أقابله في سن التاسعة من عمره عندما انفصل أبواه. وأتابع "سيناريوهات" حياته عبر فيلم رائع اسمه (السيد لا أحد) أو (السيد نكرة)، الفيلم عُرض عام 2009، ويتميز بسيناريو فائق الإمتاع، لكنَّه كذلك شديد التعقيد، – قام ببطولته الممثل جاريد لوتو – البطل يحكي قصة حياة محرّر صحفي يدلي بشهادته عام 2092، يحكي عن مسارات حياته وتبدلاتها حسب القرارت المتّخذة عند نقاط التفرع المهمّة في حياته.
الفيلم يحتفي بالاحتمالات والمصائر ويثير في وجهنا الأسئلة: ماذا لو عاش "نيمو" مع أمّه وزوجها، وانغمس في قصة حب غير مشروعة مع ابنة زوج أمّه...؟ ماذا لو عاش مع أبيه؟ مع ملاحظة أنَّ أباه سيصاب بالفالج، ويكون على الفتى أن يرعاه... ماذا عن المنعطفات الخطرة مع ثلاث قصص حب مختلفة مع ثلاث فتيات عرفهن في مراهقته. نقطة التفرع الثالثة في حياة "نيمو" عند سن الرابعة والثلاثين حينما يتزوج من "أليس". الفتاة المكتئبة التي ما زالت تحبُّ رفيق مراهقتها. وهي تطلب من نيمو أن ينثر رمادها عندما تموت فوق القمر. في سيناريو موازي يتزوج "نيمو" فتاة تدعى "جوان"، ويعيشان حياة رغدة رخوة لكنَّها مملة. وتظلُّ علاقة الحب المضطربة العاصفة مع ابنة زوج أمّه، معلقة هناك عند سن السادسة عشر.
هل حقًا نعيش في مسارات قراراتنا؟
ماذا لو اختلف مصير هذا الرجل في كل مرة؟
ما هي الحياة الحقيقية؟
من هو "نيمو" حقًا؟
هنا تكمن صعوبة فكرة الفيلم الهيكلية ولذته.
البطل يلخّص مأساته عندما يقول: عندما كنت أجهل المستقبل، لم أكن أستطيع اتخاذ قرار صحيح. اليوم وأنا أعرف المستقبل لم أعد أستطيع اتخاذ أي قرار نهائيًا!
الأمور تزداد تعقيدًا عندما نعرف أنَّ "نيمو" الذي يحكي القصة عام 2092 هو بطل في قصة خيال علمي كتبها "نيمو" الشاب! هكذا تتداخل في الفيلم نظرية الفوضى مع تأثير الفراشة. كل اختيار مهما صغر يمكن أن يضعنا في كون آخر مختلف تمامًا. الحرية الحقيقية هي أن تعيش حياة لا ترغم فيها على الاختيار!
طبعًا هناك أفلام كثيرة ناقشت المصائر المختلفة للإنسان، ومنها مثلاً (اركضي يا لولا)، و(الأبواب المنزلقة)، وحتمًا توجد أفلام أخرى في هذا الحقل لم أشاهدها، لكن لا أعرف لماذا قُدّر لهذا الفيلم أن يتربع على صدر هذا المقال. فكل القرارات/ الخيارات/ المسارات / السيناريوهات/ التي قادت قلمي للكتابة عن هذه الفكرة عبر هذا الفيلم غامضة. ماذا لو حدّد لي رئيس التحرير موضوع الافتتاحية؟ كيف سيكون محتوى وشكل هذا المقال لو كتبته في سياق مشروع آخر؟ ماذا لو أنَّني لم أقرأ "مرايا غوليانو"؟
ماذا لو أنَّني لم أشاهد هذا الفيلم قبيل مكالمة الدكتور غسان عبد الخالق، وواكب حضور أحداثه في ذاكرتي حادثة تكليفي بكتابة حرّة لهذه المساحة من مجلة أفكار؟
حتمًا هناك مقال ما، مختلف شكلًا ومضمونًا كتبه "هاشم" آخر في طرف من هذا العالم، ولا سبيل لمعرفته!
كل ما أستطيعه الآن هو تركيب سيناريوهات متوازية حدثت ولم تحدث في آن معًا.
السيد "نيمو" البالغِ من العمر 117 عامًا والذي يتأمل في احتمالات الحياةِ التي كان من الممكن أن يعيشَها والتي عاشها بالفعل، يروي لنا قصة حياته من خلال ثلاث سيناريوهات وثلاث أعمار وثلاث حيوات مختلفة!
تنشأ تلك السيناريوهات نتيجة قرار والد ووالدة "نيمو" الانفصال وهو في التاسعة من عمره عندما يقع تحت وطأة اختياراته الخاصة..هل يبقى مع والده، ويعيش الحياة معه، أو يرحل مع والدته ويعيش حياة أخرى، وفي ظلِّ هذه الحيرة تبدأ تلك الحيوات بالانبثاق في مشاهد مختلفة وبعض المشاهد يظهر فيها "نيمو" كعجوز طاعن في السن يروي أحداثًا من هذه الحيوات. تلك الحيوات في الحقيقة هي ناشئة عن احتمالات غامضة في عقل "نيمو" الطفل الذي امتلك القدرة على معرفة المستقبل! (عندما كنت أجهل المستقبل، لم أكن أستطيع اتخاذ قرار صحيح. اليوم وأنا أعرف المستقبل لم أعد أستطيع اتخاذ أي قرار نهائيًا!)
يدخلنا الفيلم في الحياة التي سيعيشها هذا اللا أحد مع أمّه لو ارتحل معها وفي تلك الحياة نفسها يدخلنا أيضًا في قصص واحتمالات سيعيشها "نيمو"، وتارة أخرى يدخلنا في الحياة التي سيعيشها مع والده لو بقي معه، ويشتمل هذا أيضاً على قصص واحتمالات أخرى كقصة حبّه وزواجه من الفتاة (إليز) وقصة حبه وزواجه من الفتاة (جين).
كل/ القرارات/ الخيارات/ المسارات / السيناريوهات/ حدثت. ولكنّنَا لا نعرف القصة الحقيقية للسيد "نيمو"! لا نعرف هل قطة "شرويدر" حيّة أم ميتة! هل عاش "نيمو" مع أبيه، أم مع أمّه، وهل تزوج الفتيات الثلاث، أم هو مجرد بطل قصة الخيال العلمي التي رأيناها؟ لا نعرف حقًا أيّ قصة هي الأصل وأيّها الصورة، فالتفاصيل كلها حدثت ولم تحدث في آن معًا!
الحياةُ حشدٌ من الاختيارات الطفيفة في كل مرحلة، بل في كل لحظة، وكل اختيار يقودنا لمنعطفٍ جديد، ويشقُّ طريقًا إلى حياة أخرى.. وفي الختام يظلُّ السؤالُ المحيّر معلّقًا في الفراغ:
-أين كنتُ سأكون لو اتخذتُ قرارات مختلفة واخترتُ أشياء أخرى؟.