"مستقبلُ الثقافة في مصر"؛ طه حسين وفكره الإصلاحيّ.

د.عباس عبد الحليم عباس
أكاديمي وباحث أردني
يؤكّد د. أحمد فتحي سرور في تقديمه لكتاب طه حسين (مستقبل الثقافة في مصر) الصادر عام 1937 بأنَّ هذا الكتاب مصدر مهم في التربية، ومصدر أساسي لإصلاح نظام التعليم في مصر من خلال استناده على فكرتين:
أولاهما: دحض مقولة تفوّق العقلية الأوروبية على سائر العقليات. وثانيهما: إنكار اقتصار التعليم على مجتمع الصفوة. وبين هذه الفكرة وتلك، يطالعنا طه حسين بمجموعة من المعطيات الإصلاحيّة التي يهدف إلى الوصول إليها من وراء هذا الكتاب النادر ضمن مؤلفات طه حسين.
• المستقبلُ والماضي:
يتساءَل طه حسين عن انتماء مصر، فهل هي تنتمي إلى (الشرق الثقافي) أم (إلى الغرب الثقافي)؟. وهما جهتان متصارعتان متحاربتان، ومع ذلك فإنَّه يؤكّد أنَّ العقل المصري قد اتصل، من جهة بأقطار الشرق القريب اتصالاً منظّماً مؤثراً في حياته، متأثراً بها، واتصل من جهة أخرى، بالعقل اليوناني منذ عصوره الأولى، اتصالَ تعاونٍ وتوافق، وتبادل مستمر منظم للمنافع، في الفن والسياسة والاقتصاد، فالعقل المصري دون شك تأثر بحضارات البحر الأبيض المتوسط.
• العقلُ المصريُّ والعقلُ اليونانيُّ (تأثرٌ وتأثيرٌ).
فمصر في رأي طه حسين مذكورة عند (هيرودوت) وفي شعر القصاصين والممثلين اليونانيين، حتى إنَّ اليونانيين يرون أنَّهم تلاميذ المصريين في الحضارة وفنونها الرفيعة، وها هي الفلسفة اليونانية في (الإسكندرية) نشأت نتيجة الاتصال الشديد بين العقل المصري والعقل اليوناني، ولا ننسى كيف خضعت مصر لسلطان الروم فظلّت ملجأ للثقافة الرومانية طوال العصر الروماني.
وبالرغم من مجيء الإسلام وانتشاره في مصر إلا أنَّ طه حسين يرى أنَّ الإسلام لم يغيّر العقل المصري، بل إنَّ الاسلام نفسه تأثر بالعقل اليونانيّ، كمصر تماماً، وما الفلسفة اليونانية في حضارة الإسلام إلا دليلٌ على ما يذهب إليه عميد الأدب العربي، ولعلّه يقصد من هذا كله أن يتخلص العقل المصري من عقدة النقص التي سببتها فكرة تفوق العقل الغربيّ ، ومركزية الغرب، بحيث لا ينبغي أن يفهم المصري أنَّ بينه وبين الإنسان الأوروبي فرقاً عقليّاً أو ثقافيّاً، قويًّا أو ضعيفاً، بل إنَّه في نظرته التحليلية لدور مصر العقلي في الحضارة الإنسانية ، يرى أنَّها، أي مصر، حمت العقل الإنساني مرتين:
حمته حين آوت فلسفة اليونان وحضارته أكثر من عشرة قرون، وحمته حين آوت الحضارة الإسلامية وحمتها في هذا العصر الحديث، بعد أن كان العرب والمسلمون أساتذة أوروبا في العصر الوسطى.
وبما أنَّنا أمام هذا الوضع، يتساءَل العميد: لمَ نحن متخلفون والآن هم متفوقون؟! وهنا يطيل طه حسين الشرح ليصل إلى نتيجه مفادها: أنَّ استقلالنا العقلي والنفسي لا يكون إلا بالاستقلال العلمي والفني والأدبي، وسبيل هذا يكمن في الحرية الداخلية وقوامها ( النظام الديمقراطي)، والخارجية وقوامها (الاستقلال والقوة)، ويرى طه حسين أنَّ هذه الحرية الداخلية، وتلك الخارجية لا تتحققان إلا في ( بناء التعليم على أساس متين )، وهنا يؤكّد أنَّ العرب المسلمين لم يتحرجوا من الأخذ بأسباب الحضارة الفارسية واليونانية، ولم يرفضوا ذلك، فلماذا لا ننهج نهجهم ونأخذ بأسباب الحضارة الأوروبية بقوة كما أخذوا هم؟ علماً بأنَّنا هذه الأيام يزداد أخذنا من هذه الحضارة يوماً إثر يوم، وليست هذه هي المشكلة إنَّما هي كامنة في: كيف نلائم بين آرائنا وأقوالنا وأعمالنا، مع عدم إنكارنا ما للحضارة الأوروبية من فضل ودور في حضارة المجتمعات؟.
ويتابع طه حسين هذه الفكرة الجوهرية، بأنَّ معرفتنا لتاريخنا وإحساسنا بأنفسنا، ويقيننا بأنَّ ما من فرق بيننا وبين الأوروبيين هو المعوّل عليه في مسيرتنا الحضارية، ويشير طه حسين إلى أنَّ أمماً قويّة أغارت على مصر وبسطت سلطانها عليها قروناً متصلة وأزمانا طوالاً فلم تستطع أن تهضمها ولا أن تفني شخصيتها، أفتستطيع الآن أمة مهما كانت أن تمحو شخصيتها المصرية أو تعرضها للخطر؟
• ( مادية الحضارة ) وروحية الشرق وحضارتة
بالرغم مما يعرف عن الحضارة الغربية بأنَّها حضارة مادية، إلا أنَّ طه حسين ينبّه إلى مسألة مهمّة، وهي أنَّ هذه الحضارة لم تصدر عن المادة الخالصة، بل هي (نتيجة العقل ) و (نتيجة الخيال) ( ونتيجة الروح الخصب المنتج) وهذا ما يثبته تاريخ الفلاسفة الأوروبيين. وهنا يشير طه حسين إلى خرافة ( الشرق الروحي)-حسب تعبيره-فحضارة الروح ليست حضارة العرب والمصريين، إنَّها حضارة الصين والهند، وهي حضارات لم تقم على العقل، وعلى هذا الأساس، يدعو طه حسين إلى الأخذ بأسباب العقل التي أخذ بها الأوروبيون.
• التعليمُ وخطورته
ويمضي طه حسين في هذا الكتاب بشروح مطولة عن أهمية التعليم كأساس لأيّ نظامٍ ديموقراطي، وهو يركّز جلَّ اهتمامه على التعليم الأولي، وأنَّه يجب أن يسند إلى صفوة الأمة وخلاصة النابهين من علمائها وقادة الرأي فيها، وهذا يذكرنا بحوار صحفي مع الأديب الكاتب المسرحي "صموئيل بيكت"، حين سُئل : " لماذا لا تكتب للأطفال؟ فأجاب: لأنَّي لم أكبر بعد ". وفي هذا دلالة واضحة على ضرورة أن يتولى تعليم الأطفال والكتابة لهم أشخاص تم تأهيلهم وإعدادهم على أعلى المستويات، وهذا يتفق مع ما أشار إليه طه حسين هنا.
ويتابع العميد وجهة نظره في مراحل التعليم الثانوي والجامعي، ويعرض في هذا الكتاب إلى مشكلات التعليم، ويدعو إلى القضاء على الجهل والأمية بكل ما نملك من طاقات ؛ لأنَّ طه حسين يؤمن بأنَّه لا ديمقراطية مع الجهل!
ومن القضايا الخطيرة التي يتناولها في هذا الكتاب (حقوق المعلم والثقه به) ولا شكَّ أنَّ العناية بهذا الجانب من أهم وجوه إصلاح التعليم التي أطال العميد في الحديث عنها، التي من أهم أسسها أيضاً، تحقيق الصلة المتينة بين الجامعة والتعليم الثانوي، بحث تقوم المدرسة بإعداد الطلبة علميًّا ووجدانيًّا للمرحلة الجامعية...فلا بأس أن يبدأ النظام التعليمي في المرحلة الثانوية بتوجيه الطالب للتخصّص الذي يرغب فيه حين يلج أبواب الجامعة، وأنَّ على الجامعة أن تختار أكثر الطلبة كفاءَة في مجال التخصص الذي ينوون الالتحاق به، من خلال اختبارات تُعدُّ خصيصاً لهذه الغاية، في حين يجب توجيه الطلبة الذين لا رغبة لديهم لمتابعة تعليمهم الجامعي ، أو ممن هم أدنى من مستويات بعض التخصصات الجامعية نحو مجالات أخرى من المهن والأعمال التي يحتاجها المجتمع. ومع عناية العميد بأمر التعليم ونظامه العام، إلا أنَّه يحثُّ على القراءَة الحرة وينتقد إعراض التلاميذ والمعلمين عنها، وقد بيّن حديثه عن (الكتب المقررة) أنَّها لا تفي بالغرض من تثقيف الطالب ورفع كفاءَته مهما كانت مستوياتها العلميّة، ومهما بلغت جودة الموضوعات المتضمنة فيها.