الحداثةُ الغربيَّة ومرجعياتها الفلسفيَّة

 

د. فاطمة علي عبُّود

ناقدة سورية، تقيم في تركيا

لا يمكن أن نتكلَّم عن الحداثة الغربيَّة ما لم نبحث عن جذورها الفلسفيَّة؛ إذ ارتبطت مرجعيًّا بالفلسفة التي كانت توجِّه دفَّة الفكر الغربيِّ وتعزِّز جوانبه العلميَّة والمعرفيَّة، ولم يكن اهتمامنا منصبًّا على البحث عن تعريفٍ للحداثة، فالحداثة مفهومٌ يصعب الإمساك به، كما يصعب تحديده زمانًا ومكانًا، وعلى الرَّغم من أنَّ صعوبة التَّحديد تساور معظم ما كُتب عن الحداثة، فإنَّه يمكننا أن نُرجع أولى إرهاصاتها إلى عصر الإقطاعيَّات والهيمنة الكنسيَّة التي كانت معاديةً بشكلٍ شديدٍ للفكر والفلسفة اليونانيَّة، كما كانت تبتعد ما أمكن عن العلوم التي ستؤدِّي حتماً -فيما تدَّعي- إلى دمار البشريَّة، لذلك واجهت الكنيسة بالمحرقة آنذاك كلَّ ما يتنافى مع عقيدتها الوحدانيَّة، ومن المعروف أن محاكم التَّفتيش كانت تلاحق كلَّ مَن يتجرَّأ على الوقوف بوجه الكنيسة وتعاليمها، وتتَّهمه بالهرطقة والمروق، وعلى رأس هؤلاء يأتي "مارتن لوثر" Martin Luther الذي يعدُّ أوَّل من وقف في وجه النِّظام الكنسيِّ الجائر في القرن السَّادس عشر، مناديًا بالإصلاح الدِّينيِّ.

وقد وجد مفكِّرو الغرب وفلاسفتهم أنَّ العالم يشِّكل موضوعًا يستحقُّ الدِّراسة، فضبطوا قوانينه انطلاقًا من فلسفة "ديكارت"  Descartes ومبدأ التَّشكيك، والثَّورة العلميَّة بعد "غاليلي" Galilei، و"نيوتن" Newton التي عبَّرت عن نفسها في فلسفة "كانط" Kant، كما وضعوا سلَّم مقاييس جديدةٍ يقوم على فقدان الطَّابع القدسيِّ للنِّظام الإلهيِّ القديم(1)، فلا يوجد شيءٌ مقدسٌ ونهائيٌ منذ أن أعلن "ديكارت" في تأملاته رفضه لكلِّ المبادئ التي تلقَّاها منذ صغره قائلاً: "وضح لي أنَّ ما نبنيه بعد ذلك على مبادئ، تلك حالها من الاضطراب، لا يمكن أن يكون إلَّا أمرًا يُشَكُّ فيه، كثيرًا، ويُرتاب منه، لهذا قرَّرت أن أحرِّر نفسي، جديَّاً، مرةً في حياتي، من جميع الآراء التي آمنت بها قبلًا، وأن أبتدئ الأشياء من أسسٍ جديدةٍ"(2). ثمَّ جاء "كانط" ليرفض تطبيق الشَّعائر ذاتها على الأجيال الحاليَّة والَّلاحقة بوصفها ثابتةً، ولا يمكن تعديلها، بل عدَّ ذلك جريمةً ضدَّ البشريَّة، ويمكن لأيِّ فردٍ، وخاصةً العالِم، أن ينتقدها ويعدِّلها ليحقِّق تقدُّمًا في الأنوار بما ينسجم مع مصلحة الأجيال، ولا تكون تلك الاستنارة إلَّا عن طريق العقل(3)، فشاب مبدأ الشَّك كلَّ ما يحيط بالإنسان الذي لم يعد يسلِّم بالأمور الغيبيَّة التي تتحكَّم بمصيره وكأنَّه مستلَب الحريَّة والإرادة.

لقد أدرك الفلاسفة في القرن السَّابع عشر بشكلٍ واعٍ أنَّه لا بدَّ من مخرجٍ لتلك القضيَّة، مبتعدين عن الاصطدام بالكنيسة، لينقسم المجتمع الأوروبيُّ نتيجة تلك الأفكار على نفسه؛ لأنَّ الإنسان أصبح يشعر بمشكلة وجوده، وبصعوبة تحديد موقعه في هذا الكون، فقد كانت علاقته مع الكون علاقةً قائمةً على الاستلاب والسَّيطرة، ومن هنا بدأ وعي الذَّات لوجودها، فصحيحٌ أنَّ الإنسان كان سيِّد الطَّبيعة طيلة قرونٍ عديدةٍ، ولكنَّ هذه السِّيادة امَّحت حين أدرك أنَّه قد حُكم عليه فيها بالطَّاعة والتَّبعية المطلقة.

وقد كان "هيغل" يستشرف بوعيٍ تاريخيٍّ ميلاد زمنٍ ينتقل فيه العالم إلى عصرٍ جديدٍ، حين صاغ، ولأوَّل مرةٍ، فكرة الحداثة، وأعطاها مدلولًا تاريخيًّا من خلال مفهوم (الأزمنة الحديثة) أو (الأزمنة الجديدة) التي تنطلق من الحاضر، وتتطلَّع إلى المستقبل، فيقول: "ليس من الصعب أن ندرك أنَّ زمننا هو زمن ميلادٍ، وزمن انتقالٍ إلى عصرٍ جديدٍ ... إنَّ هذا التَّشتُّت ستوقفه إشراقة الشَّمس التي ترسم بناء العالم الجديد بسرعة وميض البرق"(4).

وقد توضَّحت فلسفة العقل فيما بعد، وجعلت المعادلة مختلفةً كلَّ الاختلاف، فالعقل أكَّد وجود الإنسان ليس بوصفه فردًا؛ بل بوصفه عضوًا في الجماعة المنتظمة في المجتمع الصناعيِّ القائم على الشَّك في كلِّ شيءٍ وفق "ديكارت" في تأكيد الوجود (أنا أفكِّر إذاً أنا موجود)، وبدأ التَّفكير بطريقةٍ شموليةٍ، لإعطاء نتائج لم يكن أحدٌ يجرؤ على التَّفكير بها أو مساسها، فهي لم تترك جانباً من جوانب الحياة إلَّا وتدخَّلت به، بدءًا من أقصى المفاهيم الفلسفيَّة المجرَّدة إلى أبسط الحاجات الماديَّة الحسيَّة.

إنَّ ما حدث في أواخر القرن الثَّامن عشر وبداية القرن التَّاسع عشر يؤكِّد أنَّ عصر التَّسليم بالتَّفكير الغيبيِّ قد تحطَّم إلى غير عودةٍ، وبدأت مرحلة التَّحولات المعرفيَّة المستندة إلى المنطق والتَّجريب؛ إذ تمخَّضت عن ثورة العقل نتائج مثيرة على الأصعدة جميعها، وشعر الإنسان أنَّه يقف أمام عالمٍ متغيرٍ انتصرت فيه سلطة العقل على ميتافيزيقيا الطَّبيعة التي حاول الإنسان جاهدًا إرضاخ نواميسها لسلطة العقل وقوانينه.

وتتجلَّى الحداثة بشكلها الواضح في المظهر الاقتصاديِّ حين تحوَّل المجتمع من الاقتصاد الاكتفائيِّ اليدويِّ إلى الاقتصاد الإنتاجيِّ الآليِّ؛ بمعنى آخر، تمَّ الانتقال من القيمة الاستعماليَّة إلى القيمة التبادليَّة، ممَّا أدَّى إلى انتعاش الحياة الاقتصاديَّة التي عملت على رفع مستوى الحياة الاجتماعيَّة والفكريَّة، وبذلك يمكن القول: إنَّ المجتمع الحديث هو المجتمع الاقتصاديُّ، فالاقتصاد الحديث لا يُرضي حاجات المجتمع الرَّاهنة، بل يعمل على خلق حاجاتٍ جديدةٍ في سلسلةٍ ديناميةٍ لا تنتهي، وهذا يتطلَّب إشراك عددٍ كبيرٍ من الأفراد، إنتاجًا وتوزيعًا واستهلاكًا، ونتيجة ذلك ظهرت تكتُّلاتٌ طبقيَّةٌ لا تتبع للعرق أو الولاء، فمعيارها الوحيد هو المصلحة، إنَّ هذه التَّحولات أدَّت إلى تغيراتٍ واسعةٍ على المستوى الاجتماعيِّ؛ إذ تعرَّضت أنماط السُّلوك والعادات لهزَّةٍ قويةٍ تفكَّك فيها نظام الأسرة، وحلَّ القانون بدل الأعراف الاجتماعيَّة، وأصبحت قيمة الفرد المشيَّأ هي قيمة إنتاجه(5)، لذلك ظهرت الفلسفات الوجوديَّة التي تدافع عن الإنسان في وجوده، وفي حرِّيته المطلقة، واختياره النَّابع من إرادته، وفي مسؤوليَّته عن ذلك الاختيار، بعد أن اغترب عن العالم الماديِّ الذي يعيش فيه، ثمَّ انسحب اغترابه على العالم الرُّوحيِّ، فكان من نتائج الاستلاب في العمل عند "ماركس" Marx أن "يصير الإنسان غريباً عن بدنه ذاته، وعن العالم الخارجيِّ، وكذلك عن جوهره الروحيِّ، وعن جوهره الإنسانيِّ"(6).

إنَّ التَّفكير العلميَّ خلَّف وراءه أزمةً كبرى، تمثَّلت في شعور إنسان الغرب بالعدميَّة، فصحيحٌ أنَّ العقل حقَّق إنجازاتٍ واسعةً، كان ديدنها تحقيق الرَّفاهيَّة للإنسان، ولكنَّه أيضًا وضع الإنسان داخل مشكلة الوجود، فحين سقطت القيم العليا التي كان يؤمن بها فَقَد العالم معناه، وأصبح الإنسان يشعر بعبث وجوده، إلا أنَّ نيتشه Nietzsche   كان يصفِّق لموت تلك القيم، ويدعو إلى الإجهاز على ما بقي منها، شريطة تقديم قيمٍ جديدٍة تتناسب مع الإنسان الجديد الحداثيِّ الذي سمَّاه (الإنسان الأعلى) الذي أُصيب رغمًا عنه بمرض العدميَّة، فكان عليه أن يتجاوز مراحلها الثَّلاث؛ إذ تتمثَّل المرحلة الأولى بالعدميَّة التَّشاؤميَّة، وتقوم على مبدأ الألم والتَّسليم بأفضلية العدم على الوجود، من دون أن تطرح قيمًا جديدةً، بدل القيم القديمة التي أُسقطت، أمَّا المرحلة الثَّانية فهي العدميَّة المتبرِّمة، وهي لا تقاوم فقدان القيم لمدلولاتها، ولا فقدان الحياة لأسسها، بل تسلِّم كلَّ شيءٍ للقدر، مع عجزٍ يشبه الموت، وثالث تلك المراحل، العدميَّة النَّشطة الفعَّالة التي تجد أنَّ فقدان القيم لمدلولاتها لا يمنع من البحث عن قيمٍ جديدةٍ، وهي بحاجةٍ إلى رجالٍ أقوياء، يتجاوزون التَّوتُّر النَّاتج عن العدميَّة، ويعلنون ميلاد الإنسان الجديد(7)، وهنا نتساءل هل وُلِد هذا الإنسان الجديد (الأعلى) في عالم فَقَدَ فيه إنسانيَّته، وتشيَّأ وفقًا للمجتمع الذي أصبح المثل الأعلى فيه هو المصنع، وغدت العلاقات الإنسانيَّة قائمةً على التَّبادل الماديِّ في مجتمع السُّوق والآلة؟ ... لقد انفجرت على الحداثة تياراتٌ فلسفيَّةٌ وفكريَّةٌ، دعت إلى إعادة النَّظر بالحداثة التي بدأت تستهلك نفسها، وطرحت مفهوم (ما بعد الحداثة).

إنَّ الرَّأسماليَّة الغربيَّة استبدلت كليَّة الإنسان بتجزئته، حين حوَّلته إلى لحظاتٍ مفتَّتةٍ في حسِّه وعاطفته وإبداعه، فهيمنَ العالم الذي تحوَّل إلى أعدادٍ وأرقامٍ عليه، وطبع حياته الإنسانيَّة بطابعٍ صنميٍّ جامدٍ، محوِّلاً ظواهر الواقع ووعي الإنسان لها إلى أشياء متفرقةٍ، لا يجمع بينها شيءٌ، وبعد أن كان يسعى إلى تغيير الطَّبيعة لتَّتفق مع حاجاته، أصبح يسعى إلى التَّكيف مع الأشياء التي بدأت تصوغ حياته(8)؛ بمعنى أنَّ الإنسان تحوَّل إلى (شيءٍ) حين قضت تلك الحداثة على إنسانيَّته، وقد رأينا أنَّ الإنسان بوصفه فردًا ضمن المجموع يشكِّل أساسًا من أسس الحداثة، ومن هنا كان انتقاد الحداثة ينبع من داخلها؛ لأنَّها لا تعطي أيَّ قداسةٍ للأفكار التي تنجزها، فلا تقدِّمها على أنَّها مسلماتٌ، بل هي فرضياتٌ قابلةٌ للنَّقد والنَّقض الدَّائمين.

إذاً، إنَّ انتقادات ما بعد الحداثة كانت ردَّة فعلٍ ضدَّ عصر الحداثة؛ أي ضدَّ تمجيد النَّزعات الوضعيَّة والتَّقنيَّة والعقلانيَّة والإعلاء من شأن التَّقدُّم الأحادي الجانب، والإقرار بالحقائق المطلقة، والتَّخطيط العقلانيِّ للأنظمة الاجتماعيَّة، وتوحيد أنماط إنتاج المعرفة، مقابل ذلك، أخذت تصف عصر ما بعد الحداثة بكونه عصر التَّنوع والاختلاف والتَّشظِّي والتَّفتت"(9)، وقد أشار" آلان تورين" ATouraine في كتابه (نقد الحداثة) إلى أهمِّ عاملٍ من عوامل تفكُّك الحداثة، وهو نفاد فكرة الحداثة التي تحوَّلت إلى فعلٍ تكنيكيٍّ محضٍ لخدمة المستهلك أو الدِّيكتاتور، وهذا القلق يؤدي إلى التَّغير في النَّظرة المستقبليَّة(10)، ويصف المفكر إيهاب حسن مرحلة ما بعد الحداثة بالسِّمات التَّالية: 

- رفض الشُّموليَّة في التَّفكير، ولا سيَّما النَّظريات الكبرى، مثل نظريَّة كارل ماركس، ونظريَّة هيغل، ووضعيَّة كونت، ونظريَّة التَّحليل النَّفسي...إلخ. والتَّركيز على الجزئيَّات والرُّؤى المجهريَّة للكون والوجود.

- رفض اليقين المعرفيِّ المطلق، ورفض المنطق التِّقليديِّ الذي يقوم على تطابق الدَّال والمدلول؛ أي تطابق الأشياء والكلمات.

- الإلحاح على إسقاط نظام السُّلطة الفكريَّة في المجتمع والجامعة، في الأدب والفنِّ، والإطاحة بمشروعيَّة القيم المفروضة من فوق؛ في الأنظمة والمؤسَّسات الاجتماعيَّة كافَّة"(11).

الهوامش:

(1) محمد الشيخ، ياسر الطائري، مَقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة، حوارات منتقاة من الفكر الألماني المعاصر، دار الطليعة، بيروت- لبنان، ط1، 1996م، ص13 بتصرف. 

(2) رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت، ط4، 1988م، ص23.

(3) أمانويل كانط، ثلاثة نصوص، ترجمة محمود بن جماعة، دار محمد علي للنشر، تونس، ط1، 2005م، ص90-91-92 بتصرف.

(4) يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة جيوشي، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995م، ص14-15.

(5) محمد سبيلا، مدارات الحداثة، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2009م ، ص124..128 بتصرف.

(6)  الطاهر لبيب، سوسيولوجية الثقافة، دار ابن رشد، ط3، الأردن، 1986م، ص16.

(7) محمد الشيخ، ياسر الطائري، مَقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة، ‏ص181-182 بتصرف.

(8) فؤاد المرعي، بحوث نظرية في الأدب والفن، وزارة الثقافة-منشورات الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2008م، ص94 بتصرف.

(9) محمد الشيخ، ياسر الطائري، مَقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة، ‏ص11.

(10) آلان تورين، نقد الحداثة، تر: أنور مغيث، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995م، ص131 بتصرف.

(11) علي وطفة: مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، فكر ونقد- مجلة ثقافية فكرية، العدد 43، 12نوفمبر، 2001م.