وقفةٌ متجدّدة عند جنس الرواية الراهنة

وقفةٌ متجدّدة عند جنس الرواية الراهنة
د. أماني سليمان داود


عضو هيئة تحرير مجلة أفكار.
يتّسع حضورُ الرواية منذ عقود في الشرق والغرب، ويتزايد عدد كتّابها وقرائها، مثلما تتنوع طرائق إبداعها وإنتاجها مستفيدة من طبيعتها المنفتحة، ومن ميلها الأصيل إلى أن تكون جنسًا مفتوحًا لا يقف إزاء تطوّره وتغيّره مانعٌ أو حدّ. ولكنَّها مثل أيّ صنعة فنّية لها أصولها ولها تربيتها الخاصة التي يمكن التماسها في بعض أنماط دروس الكتابة الروائيّة وفي المَظانّ النقديّة الكثيرة، ولذلك فلا ينبغي أن يُفهم أمر "انفتاح الرواية" على أنَّه تسيّب وانعتاق مطلق من الحدود والشروط، ولا بدَّ لمن يرغب بإتقان هذه الصنعة، أن يواصل جهوده للاقتراب من إبداع روايات تمنح عوالم من الجمال والفن والمتعة، ولكن إلى أيّ حدٍّ يمكن للروائيّ أن يحقّق هذا الثالوث المركّب والمتمنّع في كثير من الأحيان!!
من المعروف أنَّ الرواية هي أحد أكثر الأشكال الأدبيّة انسيابيّة ومرونة وقدرة على استيعاب تقنيات وأساليب جديدة يعمد كاتبها باستمرار إلى تطويرها، ومن ثم إعادة تخليقها بما يتواءم مع شكلها السرديّ، وقد تنزاح وتتمرد على القوانين التي نمّطتها والحدود التي وضعت لها، كما تفيد وتتراسل وتتداخل مع كثير من الفنون المختلفةِ في منابعها وأشكالها ما بين فنون أدبيّة قوليّة كالشعر والقصة القصيرة، وفنون درامية وسينمائيّة، وفنون تشكيليّة، وموسيقيّة وغيرها.
وقد نتفق بأنَّ تحقيق المتعة الجماليّة هو شرط العمل الإبداعيّ الأوّل وغايته الكبرى؛ فقد تُكتب رواية ملتزمة بحدود النوع أو الجنس الروائيّ في أعرافه المتداولة وتحقّق هذا الشرط (أي المتعة الجماليّة)، وقد يعمد روائيّ إلى استثمار أقصى أشكال التجريب وتداخل الفنون، إلا إنَّ الرواية تغدو طاردة لا متعة فيها، فالمعوَّل عليه إبداعُ الروائيّ ونجاحُه في بناء عالمٍ سرديٍّ مقنعٍ للقارئ المحترف، وممتع للقارئ العاديّ، ومحل جدل إيجابيّ لدى الناقد.
ولعلَّ انفتاح الرواية على فنِّ الشعر مما يحتاج إلى عناية خاصة؛ ذلك أنَّ للشعر مكانته التاريخيّة، وله قوانينه وسماته وخصائصه الفنيّة والبنيويّة والموسيقيّة التي جعلته مستقلًا عن غيره من الأنواع الأدبيّة الأخرى، ولأنَّ ظاهرةَ تداخل الرواية والشعر موضعُ جدلٍ كبيرٍ وسجالٍ مفتوح، تنهض في الذهن تساؤلاتٌ تحتاج إلى فَضْل تأمل لتجليتها، ومن هذه التساؤلات: ما أهمية استثمار الشعر في الرواية وأشكال حضوره فيها؟، وما الوظيفة التي تتحقق بهذا الاستثمار وما آلياتها؟ وهل ثمة غاية دلاليّة لهذا التداخل والتراسل تدفع الروائيّ لاستحضاره في روايته؟. أين يمكن أن تقف حدود التداخل بين جنسيّ الرواية والشعر بما لا يُخرج الرواية عن نوعها الأساسيّ، ويورّطها في نوعٍ هجينٍ بلا ملامح؟. ألا يُعدّ هذا التداخل شكلًا من أشكال التمثيل لحياتنا المعاصرة التي اختلّت فيها كثيرٌ من الحدود على مستوى الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والجغرافيّ والاقتصاديّ والفكريّ، ما يجعل الرواية معادلًا موضوعيًّا لهذا الاختلال؟. وهل الشعرُ في السرد مظهر من مظاهر الارتداد إلى الذات المفردة في خصيصتها الغنائيّة؟ أو شكل من أشكال الانطواء والتقوقع ثانيةً على هذه الذات في ظلِّ عالم مفتوح على آفاق لا حدود لها؟ هل جاء توظيف الشعر في الرواية تعبيرًا عن أحد أشكال التجربة على مستوى اللغة والرؤيّة، فكان نتاج وعيٍّ وقصديّة، مع إمكانيات، وثقافة عالية، وقدرة على السرد؟ أم نتاج ضعف الأدوات السرديّة وعدم القدرة على بناء عالمٍ روائيٍّ متماسكٍ متعددِ الأصواتِ والطبقات؟.
قد لا يكون ثمة إجابات حاسمة نهائيّة لهذه التساؤلات، ذلك أنَّنا نتحدث عن عملٍ إبداعيٍّ في نهاية المطاف، وسَمْتُ الإبداع التجدد والتطوّر والانزياح باستمرار، ولعلنا نحاول أن نطمئن أنفسنا أو نتواطأ مع فكرة ترى بأنَّ التغيير والتطوّر التكنولوجيّ والتداخل في مختلف المناحي في العالم والحياة المعاصرة قد شكّل انعطافةً في كلِّ مجال، فمن حقّ الروائيّ أن يستجيب لهذه الانعطافة، ويحاول تمثّلها باجتراح تقاليد إبداعيّة مغايرة للأعراف التقليديّةِ ولِما بات مألوفًا ومستقرًا في الكتابة الروائيّة، حيث يحاول التراسلَ مع أجناس إبداعيّة أخرى يُنتِج من خلال تراسله هذا رموزًا وأفكارًا وصورًا مُنزاحةً عن الواقع الإبداعيّ المعهود أحيانًا؛ انزياحًا يقتربُ أو يبتعدُ اعتمادًا على رؤية الروائيّ وأدواته الفنيّة وثقافته..