أرجوحةُ الشمس

الغربي عمران
روائي يمني
لا يعرف الكثيرون أنَّ المبدع مفكّرًا وفنانًا وأديبًا لا يموت كما يموت الآخرون، وإنَّما يرقى، ليبدأ حياةً جديدة لا تشبه حياته السابقة.
للمقالح عدة إصدارات تنوّعت بين الشعر، والدراسات النقديّة والأدبيّة، والوطنيّة، من أهمها: "كتاب المدن" "كتاب صنعاء" "كتاب الحب" "كتاب الأصدقاء" و"كتاب القرية"، وله أيضًا: "الزبيري"، و"بالقرب من حدائق طاغور"، و"الوجه الضائع"، و"الخروج من دوائر الساعات السليمانية"، و"بلقيس"، و"شعراء من اليمن"، و"شعر العامية في اليمن"، و" لا بدّ من صنعاء"، و"الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة"... وكتب أخرى.
فالمقالح ليس ذلك الجسد الذي توارى التراب، بل هو ذلك النهر المتدفّق ضوءًا متّسمًا بروح إنسانيّة فذّة، هو نبتُ أسرة ثائرة، بفكرٍ عروبيٍّ، تجلّى ذلك من خلال مواقفه مع قضايا أمته، تلك المواقف التي تتسق مع نهجه الإنسانيّ؛ شعرًا وفكرًا ونقدًا.
وقد تعلمنا نحن من اقتربنا منه، تعاملاً ومواقف، سواء من خلال رئاسته لجامعة صنعاء، التي حوّلها إلى محفلٍ عربيٍّ للفكر والثقافة والتَعَلُّم ليفد إليها عشرات المدرسين من مصر، وسورية، والعراق، السودان، وفلسطين، أساتذة دائمين أم زائرين، إضافة إلى من كانت لهم زيارات للمشاركة في مناقشات الأطروحات العلمية أو في الملتقيات الأدبية.
أو كرئيسٍ لمركز الدراسات والبحوث، وقد كان بإمكانه أن يكتفي بما يصنعه في جامعة صنعاء، لكنَّه جعل من مركز الدراسات مركزَ إشعاعٍ دائمٍ من خلال مجالسه خارج أوقات العمل الرسمي وملتقياته التي يفد إليها أدباء من مختلف الأعمار، كما يتردد عليها أدباء عرب وغير عرب، ودومًا كان لمجلسه برامج دقيقة، حيث تُدار فيه مناقشاتٌ لأعمال حديثة الصدور، أو الاستماع لنصوص جديدة، كما تُطرح قضايا أدبية وفكرية للحوار المفتوح بين كلِّ الحضور.
حين كنا نلتقي به، نسمعه يسأل عمن غاب من الأدباء، ويطلب من زوّاره أعمالهم، ليناقشها في مقالاته الأسبوعية، تلك على صفحات أكثر من مجلة وصحيفة يمنية وعربية، إضافة إلى برنامجه الإذاعيّ.
المقالح كان وما يزال وجه اليمن ومحرك مشهدها الأدبي، لذلك حين أعلنوا رحيله كانت الصدمة الكبرى لنا، مع إيماننا أنَّ الراحل جسده لا روحه، فالمفكر والأديب والمبدع الفنان لا يرحل! فهل مات المتنبي؟ وأبو فراس والبردوني والسياب ومحفوظ؟ إلى آخر نهر الخالدين، ممن جعلوا أنفسهم عصيين على الموت والنسيان.
أتذكّر أنَّ أدباء نادي القصة في صنعاء، وضعوا على صفحة "النت" مقترحًا للأدباء والأديبات بزيارة المقالح للسلام والاطمئنان عليه، على أن يحمل كلُّ أديبٍ وردةً، ليتوافد الأدباءُ على مكتبه في مركز الدراسات والبحوث منذ صباح ذات اليوم، حتى إنَّه اضطر للخروج من مكتبه إلى إحدى القاعات، ولكثرة توافدهم خرج إلى ساحة المركز، وبالكاد استوعبت الوافدين بورودهم، وظلّ توافدهم طوال النهار تعبيرًا عن المحبة والتقدير لهذه القامة، وما زال ذلك اليوم ماثلاً في أذهان الجميع رغم مرور السنوات.
وأتذكّر أنّه كان حريصًا على الوقت، يحضر إلى مكتبه بمركز الدراسات في ساعة محدّده صباحًا، يقضي ساعات لاستقبال زواره، ثم ينصرف إلى طاولة مخصّصة له خلف رفوف مكتبة مركز البحوث، إذ يجلس إليها للقراءة والكتابة لساعات محددة، وفي المساء يخصّص وقتًا لتلقي المكالمات، ويغلق الهاتف بعد ذلك متفرّغًا لأسرته أو مراجعة ما تبقى من برنامجه اليومي، إذ تتدفق عليه أعمال الشباب بُغية الكتابة عنها، ولا ينسى أيّ عمل قدم له بالنصح والإشادة والإرشاد في مقالاته عنها.
وحين ترجّل جسده، خرجت صنعاء في وداعه، وداعًا لم تر مثله، إذ غصّت الشوارع بمودّعيه من جميع طبقات المجتمع.
وها نحن اليوم نستقبله في حياة جديدة ومختلفة، فحضور المبدع أبديّ، وسيظلُّ إلى ما شاء الله، من خلال أعماله شعرًا وفكرًا جيلًا بعد جيل، يتذكره القراء وطلبة العلم.
كثيرون من سيتحدثون عن ذكرياتهم معه، وأنا أتحدّث عما سنعيشه معه، فقيمته الإنسانية التي تجلّت فكرًا وإبداعًا ستبقى ممتدّة، فلم تكن موجهة ضدّ أحد أو تنتصر لأحد، بل حملت روح التسامح والحريّة والعدالة الإنسانيّة. ولذلك نتمنى أن نقلِّده، كما كان، فهذا المفكّر له رؤاه التي تعيش بيننا وجدانًا وطنيًا وجهدًا أدبيًّا.
المبدع حين يترجل يُبعث من جديد، لحياة لا تشبه حياته التي عاشها مكابدًا ومناضلًا ومبدعًا. حياة ترحل فينا من جيل إلى جيل كما يرحل فينا الزبيري والشوكاني، والسيّاب، والماغوط، والعجيلي. ويرحل فينا محمد عبد الولي، ولطفي جعفر أمان، والبردوني، وعظماء الفكر والأدب.
ولذلك عانى المقالح من دعاة الجمود، فقد كفّروه، وشُنّت الحملاتُ بتسفيه نتاجه الشعري والفكري، ليس لشيء إلا لأنَّه دعا إلى الحريّة والمساواة والتنوير..
وعلينا أن نعيش مع المقالح ويعيش معنا، بالبحث عمّا لم يطبع من أعماله، أن ننظّم الجوائز والملتقيات والجماعات والمراكز الثقافية باسمه تخليدًا للقيم العظيمة التي نادى بها. وأن نحيا مع عظمة قامة ننتمي إليها وتنتمي إلينا.
أشفق على من يحزن لرقي هذا العظيم، أو أيّ عظيم، فكم أنا سعيد أن تشرق شمس غد وبعد غد والمقالح حيٌّ بيننا، جيلًا بعد جيل، فها هو أبو القاسم الشابي ودرويش والحكيم وآلاف من عرب وأفارقة وأوربيين وآسيويين ... يعيشون فينا وسيعيشون بعدنا.
لروحه السلام، ولنا أن نستنيرَ بضوء شمسه، وأن ننعمَ بعظيم فكره، ونستدل بتوهّج نجمٍ يسكنُ السماء دومًا وأبدًا، أن نرتشف منه لنحيا ونضاعف حيواتنا. أن نتزوّد، ونتأسّى ونتمثّل بمسيرته لنحيا حياةً مضاعفةً من خلال السير على خطاه، ملهمًا نغني وننشد ونكتب ونرسم ونبدع، كأنّه حيٌّ بيننا.