حضارةُ العرب في الأندلس

  حضارةُ العرب في الأندلس
عبد الحميد محمد الراوي
كاتب وباحث مصري
لقيت الأندلسُ من عناية الباحثين والمحقّقين والمؤرخين مالم يلقه قطرٌ آخر من أقطار الدولة العربية والإسلامية التي امتدت من حدود الصين إلى جانب مهمٍ وكبير من غرب أوروبا" الأندلس"، ووسطها" صقلية".
وكانت القرون الثمانية التي أظلت فيها الحضارة العربية تلك البلاد ذات مزايا عظيمة على الصعيد المحلي: ديار الأندلس، والعربي الإسلامي شرقًا وغربًا، والأوروبي العالمي، وما زالت الدراسات والبحوث تتوالى مبيّنةً عظمةَ حضارة الأندلس، وأثرها في الثقافة العربية من جهة وأثرها في الحضارة العالمية والإنسانية من جهة أخرى.
وقد مرّت الأندلس بمراحل تاريخية منذ أن كانت ولاية أموية تابعة لدمشق، وانتقال عبد الرحمن الداخل إليها ليعيد الدولة الأموية المروانيّة، وبعد ذلك حين تقلبت عليها الدول " الطوائف – المرابطون –الموحدون – بنو نصر – بنو الأحمر"، لقد كان سجلُ الحضارة الأندلسية حافلاً متميزًا، وكان تاريخ الأندلس ظاهرة لم تتكرر.
كانت الأندلس في العصر الأموي "ولاية تابعة لدمشق ثم إمارة أموية، ثم خلافة أموية"، وكانت في هذه المدة من (92ه- إلى 422ه)، تحت ظلال التقاليد الشامية التي نقلها عبد الرحمن بن معاوية" الداخل" ومن جاء بعده من أولاده وأحفاده. ويقرّر المؤرخون أنَّ الدولة التي انقطعت في المشرق سنة(132ه) بظهور المسودة العباسية كانت امتدادًا وإحياءً للفكر السياسيّ المشرقيّ، ولطبيعة النظم الإدارية والاقتصادية والاجتماعية، وحين ترك الأمراء والخلفاء المراونيون في الأندلس منافذ الفكر والثقافة والعلم مفتوحة على المشرق؛ وفد علماء مشارقة من علوم مختلفة على الأندلس، ورحل جمهرة عظيمة من رجال الأندلس – ونسائها – إلى المشرق للاستزادة من الرواية ولقاء العلماء، والإسهام في تشكيل النسيج الثقافيّ العربيّ. وكان من أثر ذلك انتقال الأندلس من مذهب الأوزاعي إلى مذهب مالك، وقبول حركة الأدب الجديدة في المشرق، ومحاكاتها ومساماتها، واستقبال "زرياب" الذي أثّر في حركة الموسيقى والغناء، وفي جوانب من الحياة الاجتماعية.
وصار للأندلس شخصيةٌ متميزةٌ في داخل الثقافة العربية الإسلامية في العلوم النقلية، وفي العلوم العقلية، وفي الآداب والفنون والعمران، وعزّزت الدولُ التي جاءت بعد الأمويين" الطوائف، والمرابطون والموحدون وبنو الأحمر"، تلك الشخصيّة الأندلسيّة.
وتميّزت الأندلس ببقاء اللغة العربية قويّةً سائدةً عاليةً طوال الحكم العربي في الأندلس، مرّ زمان على كنائس الأندلس كانت اللغة المستعملة فيها للوعظ والأدعية وغير ذلك؛ هي اللغة العربية.
• الأندلس وصناعةُ الثقافة
صنعت الأندلس ثقافتها وحضارتها من مجموعة من العناصر، فهي أولاً جزءٌ من البلاد العربية الإسلامية التي وصفها بعض المؤرخين بعبارة" امبراطورية" قاصداً إلى تبيّان اتساعها، وقوّتها وأثرها، واستمرارها، ولم يؤثر استقلال الأندلس السياسي منذ عبد الرحمن الداخل في اتصال الأحوال العلمية والأدبية والثقافية بالمشرق.
وكان هناك تواصلٌ مباشرٌ بين الأندلس والمشرق من جهتين رئيسيتين هما: الوافدون المشارقة إلى الأندلس، والراحلون - رحلات علمية يعود أصحابها عادة – وهم أندلسيون حفزتهم الحوافز العلمية، إضافة إلى العوامل الأساسية الأخرى وأولها أداء الحج والعمرة وزيارة بيت المقدس.
ولم تنقطع الحركة التجارية بين الأندلس وأقطار الشمال الأفريقي والمغرب العربي، ومع التجارة حركة الكتب العلمية التي تصل إلى راغبيها في سرعة قياسيّة، وكان أمام الأندلسيين في حركتهم الحضارية تحديّان كبيران أحدهما: مسامتة المشرق" أي مجاراة المشارقة" بما ينتجه ويخرجه من الكتب ومن تطبيقات العلوم، ومن ثم مساماتهم" التفوق عليهم" كلما أمكن ذلك.
والثاني: تقديم صورة حضارية لمن يجاور الأندلس أو يتصل بها من الأمم الغربية" داخل الجزيرة الأيبيرية وخارجها". وقد استطاع الأندلسيون أن يكوّنوا الأنموذج العالي الذي يطمح الأوربيون من الوصول إليه؛ ومن هنا نشأت مراكز الترجمة من العربية إلى عددٍ كبيرٍ من اللغات الأوروبية، وكانت" طليطلة" من أكبر مراكز الترجمة آنذاك.
كانت الحركة العلميّة والأدبيّة في المشرق في العصر العباسي الأول ترتقي ذاتيًّا لمتابعة ما أسسته الدولة الأموية في مناحي الفكر والآداب والعلوم، وكان اهتمام أبي جعفر المنصور بالعلوم قليلاً لانشغاله بهموم السياسة والخارجين على الدولة، والتفت الرشيد إلى الشعر والموسيقى والغناء. وكان للمأمون عنايةٌ أكبر كما هو مشهور، ولكن الأندلس سلكت طريقًا آخر يعتمد على نقل التقاليد الشامية في الإدارة وفي الحركة العلمية المرعية، وفي العادات الاجتماعية، وفي العناية بالزراعة، وأنواع الصناعات، وبإحياء العمران الذي ازدهر في المشرق على أيدي الخلفاء المتابعين، وما لبثت الأندلس أن استكملت هُويتها الذاتية وتجدّدت شخصيتها.
ولفت عبد الرحمن الداخل انتباه مؤرخي الحضارة العربية والعالمية فبيّنوا أثر عبد الرحمن ومن جاء بعده في تأسيس حضارة عربية أندلسية لم تقف آثارها عند حدود شبه جزيرة إيبرية، ولكنَّها تجاوزت إلى الأقطار الأوروبية المختلفة.
وكان الوجه الحضاري العربي الإسلامي الذي تبلور في قرطبة عاصمة الأندلس الأولى، وفي سائر البلاد قد استمر بعد الفترة الأموية، وبعد التغيّر السياسيّ الخطير؛ لأنَّ تلك الحضارة بُنيت على أسسٍ علميّة متوارثة، وتركت في أهل البلاد حوافز مختلفة المناحي للاستمرار في الإبداع والاختراع، وفصل الحركة العلمية والأدبية والثقافية عن صراعات السلطة، وخلافات التنازع على المكاسب الدنيوية.
لقد عاصر الأندلسيون في القرن الخامس عددًا من التحوّلات الخطيرة: الفتنة في قرطبة أو الفتنة البربرية، (399-422ه)، ونشوء مراكز قوّة لبعض الطامعين من المغرب( الأدارسة)، ونشوء دويلات الطوائف، ودخول المرابطين الأندلس، وإنهاء حكم دول الطوائف، وكان بعض هذه التحوّلات داميًا، ولكن حركة العلم والبناء والإبداع لم تتأثر.
وكان هذا القرن بيئة أخرجت عددًا كبيرًا من علماء الأدب واللغة والتاريخ والفقه وسائر العلوم الشرعية، والحديث والجغرافيا والطب، والفلسفة والمنطق.. وما تزال كتب عدد منهم باقية شاهدة يستفاد منها.
• سمات الحضارة الأندلسية
اتّسمت الحضارة الأندلسية بما تتسم به الحضارة العربية الإسلامية عامة:
- فهي غائيّةٌ: غايتها الإنسان وتوفير حياة طيبة لأفراد المجتمع، تحت ظلال غائيّة فكريّة من صلاح الدين والدنيا.
- وهي شموليّةٌ تصل إلى نواحي الحياة المختلفة من المادي والمعنوي، والضروري والكمالي.
- وهي غير عنيفة: تقبل الآخر؛ ومن هنا لم يحطم الفاتحون معالم البلاد المفتوحة، ولو كانت أصنامًا وأوثانًا قديمة، تركوا المعابد للأديان المختلفة، ولم يمسّوها بسوء.
- وهي منفتحةٌ على العالم من دون عقد أو معوقات، ومن هنا سرعان ما اطّلع العرب والمسلمون على حضارات الأمم السابقة، وتعاملوا معها، وترجموا من تراثها، وأعطوها من دون بخل.
- وهي حضارةٌ عالميةٌ إنسانية.
وقد تلوّنت حضارة الأندلس بألوان أخرى إضافية:
- اتساع مساحة الحرية في دولة الأندلس، لقد حمى الأمراء الأمويون، ومن ثم الخلفاء بعدهم، " الرأي الآخر"، ومنعوا بعض المتشددين من الفقهاء والعلماء من ممارسة الحجر الفكري والعقدي.
- احترام القانون وعدم تدخل السلطة" الأمير أو الوالي" في الأمور التي مجراها الأحكام الشرعية أو الأمور القانونية، جاء رجلٌ من بني أمية إلى الأمير هشام المعروف ب"هشام الرضي" وشكا له قاضيًا حكم عليه في قضية تخصّه، وسأله مراجعة القاضي حتى لا تضيع هيبة بني أمية كما زعم، فلما عرف هشام وجه القضية قال لقريبه الشاكي الأموي: "والله لو حكم عليّ القاضي بالتخلي عن كرسيّ الإمارة هذا لأطعته."
- الاستفادة من عناصر المجتمع المختلفة من دون تردد في قبول الجيد والحسن، وقد نشأ الموشح الأندلسي ومعه فن الزجل من التزاوج الثقافي بين الأغنية الشعبية المحلية، وبين موسيقى الشعر العربي.
- التسامح العظيم الذي لفت نظر عدد من الباحثين المنصفين الذين عالجوا تاريخ الأندلس، وهو تسامحٌ كان أعلى ما يكون في القرون الأولى التي أعطت أوروبا مفتاح نهضتها، فأسستها على حضارة الأندلس العريقة.
إنَّ إلقاء نظرة سريعة إلى منجزات العرب والمسلمين في مجالات العلوم والآداب والفنون، وسائر ما يدخل في الاختراع والإبداع يبين مكانة القطر الأندلسي فيها، لقد عاصرت النهضة الأندلسية العلمية ما كان سائداً في المشرق العربي، وظهر في كلِّ علمٍ وفنٍ ومنشطٍ موصولٍ بالحضارة رجالٌ ونساء تركوا أثراً وخصوصيّة وإبداعًا وتطويرًا.
وكُتبُ تاريخ العلوم والفنون والآداب الأجنبية والعربية سجّلت أسماء علماء الأندلس ومبدعيها في الطب والصيدلة وعلم النبات والعقاقير والفلك والكيمياء والفيزياء والرياضيات، وفي الفلسفة والمنطق والعلوم الدينية ومقارنة الأديان، والتاريخ والجغرافيا وعلوم البحار واستصلاح الأراضي، وهندسة الحدائق ورفع المياه إلى الحدائق المعلقة، والتفنن في العمران والخصوصية فيه..
حضارةٌ عظيمةٌ ازدهرت وعلا شأنها حين كانت أوروبا في ظلام، وهي عينها التي فتحت لأوروبا معالم حضارتها المعروفة ونقلتها من الجهالة إلى نور الحياة.