الأسطورةُ وحضارةُ الإنسان

د. أحمد يحيى علي
أكاديمي وناقد مصري
مفتتح
ترتبطُ حياةُ الإنسان على الأرض ببعدين رئيسين: ذهني/وجداني، وجسدي يتصل بمكون عضلي، وهذا الثاني يعتمد في عمله وفيما يتم إنجازه بواسطته من أفعال على إشارات يتلقاها من الأول؛ انسجامًا مع خصوصية الإنسان؛ بوصفه كائنًا حيًّا يتميّز عن غيره من الكائنات الحية الأخرى ويرتقي، وفي ضوء مسير الإنسان في الزمان وفي المكان على الأرض ظهرت مفرداتٌ، كان لها حضورٌ واضحٌ ملموسٌ يتّصل اتصالاً وثيقًا بطبيعة العلاقة بين هذين البعدين سالفي الذكر وتوزيع الأدوار الحاصل فيما بينهما؛ فالبعدُ الذهني الوجداني يؤدي دور الفاعل الموجّه، والبعد الجسدي ومتعلقاته من لسان وجوارح: السمع، البصر، الشم، التذوق، اللمس تقع موقع المستقبل المتلقي تعليمات هذا الفاعل؛ ومن ثم يمكن القول: إنَّ مفردات مثل: الثقافة، والفنون، والحضارة تُعدُّ ناتجًا من نواتج هذه العلاقة بين البعدين ومُخرجًا من مخرجاتها.
وقد شهدت بداية رحلة الإنسان على الأرض ما يصحُّ أن نسميه بعلاقة متوترة، مبعثها حالة الغموض التي اكتنفت علاقة الإنسان الأول بالكون من حوله وما يقع فيه من حوادث؛ فلجأ إلى محاولة إدراكها وإيجاد تفسيرات لها بطريقة تقوم على تصورات تفتقد إلى ما عرفته البشرية بعد ذلك من نظريات ومفاهيم تتصل بمرحلة تتأسس على التجريب والمشاهدة، ووضع فروض يتم اختبار صحتها وفق إجراءات محددة؛ هنا يبدو جليًّا مصطلح الأسطورة الذي اعتمد في تبلوره على مرحلة في الإدراك ميّزت الإنسان الأول وحياته على الأرض( )؛ إنَّ الرؤى التي تم وضعها في تلك المرحلة الأولى من حياة الأسرة البشرية لظواهر الكون الواقعة في مرمى إدراك ذاك الإنسان الأول تشكّل ناتجًا من نواتج العلاقة الجامعة بين هذين المكونين الأثيرين لديه: فكره وشعوره من ناحية ومكوّنه الجسدي ومتعلقاته من لسان وجوارح وغيرها من ناحية أخرى؛ إنَّ هذه الرؤى كانت وثيقة الصلة بتصوّر خرافي يتجاوز منطقة المشاهد إلى منطقة الغيبي، ومن هذه الثانية ظهر ذلك المفهوم(الأسطورة)، وكان يُسمّى في التراث اليونانيّ القديم (ميثوس)، وفي الإنجليزية (Legend)، وصار له حقلٌ معرفيٌّ متخصّصٌ تحت مسمّى(الميثولوجيا)، ويُعد هذا المفهومُ انعكاسًا للطبيعة المميزة لمنطقة العقل والشعور لدى ذاك الإنسان في طور حياته الأول، ليس ذلك فحسب، بل إنَّ الوعي الإنساني وربطه بين المشاهد والغيبي قد شجع على ولادة ذلك الحقل الرفيع في نسق الفكر الإنسانيّ؛ ألا وهو حقلُ الفلسفة، الذي يجعل من هذين الطرفين: المشاهد/الفيزيقي، وما وراء المشاهد/الميتافيزيقي مجالاً محوريًّا في نشاطه.
الأسطورةُ: اللفظُ ومرونةُ المدلول
وإذا نظرنا إلى هذا المفهوم المستمر في حضوره بين أفراد الجنس البشري نجد أنَّه كما هو معلوم قد ارتبط بمعانٍ مثل: الخرافة، الخيال، اللامعقول، الغيبي؛ إذ إنَّ الحالة الإنسانية في تلك الحقبة من عمرها على الأرض كانت تفتقر إلى قيمتين رئيستين ظهرتا وتمددتا أفقيًا ورأسيًا بعد ذلك: قيمة الدين وقيمة العلم؛ ومن ثم فإنَّ المنجز الذي تمخض عن حالة الإدراك المهيمنة على وعي الإنسان الأول يُعد ابنًا قد خرج من رحم الأسطورة التي يبدو أنَّها لم تغادر فضاء الحياة للأسرة البشرية على مدار رحلتها في الزمان وامتدادها الأفقي في المكان؛ فإذا كانت في ظهورها الأول قد أخذت منحى عقديًا يعكس خوف الإنسان ورغبته في استرضاء ما ظنّه قوى خفيّة مسؤولة عما يجري حوله من حوادث فوجد أنَّ لزامًا عليه الخضوع لها كما هداه إلى ذلك مكوّنه الفكري والوجداني بقرابين ورقصات وأماكن يذهب إليها يمارس فيها طقوسًا يتغيّا من ورائها الوصول إلى حالة رضا وسكون نفسيين؛ فإنَّها- أي الأسطورة - في مراحل لاحقة قد تخلّصت بدرجة كبيرة جدًّا من هذه النزعة ذات الصبغة العقائدية، مع انتشار الرسل الموحى إليهم من قبل الله الواحد الأحد، وترسيخ العلم بنظرياته لأقدامه على الأرض.
وبالوقوف أمام القرآن الكريم، نجد أن لفظة أسطورة تأتي في سياقاتٍ تضفي على مدلولها طابعًا سلبيًّا، ينطوي على ذم المنجز الفعلي المتصل بها؛ فإذا ما تم نعته أو وضعه في هذا القالب؛ أي الأسطورة فإنَّ ذلك يعني موقفًا يقوم على الرفض والإنكار، والانصراف: "وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ"( ).
وقوله تعالى: " وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا"( )
إنَّ اللفظة في حركتها داخل فضاء التداول تسير في مسارٍ محددٍ، منطلقه الأول وعي تكوّن بناءً على تفاعل مع الحاصل في العالم نجم عنه محاولة تفسير يعكس رغبة الذات الإنسانية في الانتقال من مرحلة النظر السلبي إلى مرحلة الوصف والتحليل وإصدار الأحكام؛ فكانت الأسطورة وليدة هذه العملية في الفكر؛ فالتسطير هاهنا إذا كان يحيل إلى فعل اليد بنقوش فوق جدران معابد أضحى فيما بعد تدوينًا وتسجيلاً بالقلم، لكنَّه يشير ويحيل إلى مجمل منطومة الإدراك لدى الإنسان التي تعتمد على هذه المعادلة الأثيرة؛ معادلة 2+5؛ أي العقل والقلب، ومعهما الجوارح الخمسة كما قلنا آنفًا.
وهذه اللفظة (أسطورة) في مسيرها وفي صحبتها للأسرة الإنسانية عبر الزمن ستتخلص بدرجة كبيرة من قيد أحادية الدلالة التي جعلتها مرهونة بما هو شعائريّ تعبديّ فحسب؛ فاتصالها بما هو غيبيّ أو بما هو كامن غير مرئي عمومًا سيفتح فضاء مدلولها؛ ليجعلها إشارةً إلى مسألة الخيال بصفة عامة ( ).
إنَّ التأريخ لهذه المفردة (الخيال) يأخذنا بدايةً إلى الأسطورة وتجليها وبداية ظهورها؛ لذا فإنَّ ثنائية (الحقيقة في مقابل الخيال) تعكس مشكلةً، البحث فيها يسير في مسار أفقي باتجاه حقول معرفية اصطنعها الإنسان في أطوارٍ لاحقة؛ مثل: الفلسفة، والأحياء، والجغرافيا، وعلم الاجتماع، والفيزياء، وغيرها من الحقول التي جعلت من الافتراض ومن المُعطى الموجود المعلوم بالحواس منطلقًا للبحث فيما وراءه؛ أي في علله وأصوله؛ أي أنَّ مسألة الوجود في مقابل العدم المترتبة على هذه العملية البحثية تمثل درجةً من درجات يقف عليها مستخدم هذه الكلمة (الخيال)؛ بوصفها حُكمًا يصدره إزاء قضية أو موضوع ما، هذا الحكم يمكن تفريعه فرعين:
الأول: المجازُ الذي يسير في نسق موازٍ على الضد من المألوف المتعارف عليه لدى شرائح الجماعة البشرية على تدرجها في الفكر وفي الإدراك، هذا التدرج الذي يُرصد في طبقتين: طبقة النخبة المستنيرة، وطبقة قليلي العلم والمعرفة.
الثاني: الكذبُ المرتبط بمنطلقات دينية أخلاقية وثيقة الصلة بالمعتقد وبقيم المجتمع وحزمة الثابت المتجذر فيه من قيم يتم نقلها جيلاً بعد جيل( ).
وإنّنا إذا نظرنا إلى الحضارة التي صنعتها يد الإنسان وقد اتّخذت أشكالاً متنوعة كيفًا، وهي كثيرة من ناحية الكم؛ بحكم حياة الإنسان الممتدة في الزمان والشاغلة لمساحات مكانية كبيرة جدًّا على كوكب الأرض نجد أنَّها تحمل في طياتها ظلًا للأسطورة وما علق بها من معانٍ على مدار رحلتها العمرية الطويلة؛ فالفنونُ بأنواعها المختلفة المصنوعة من اللغة ومن غير اللغة بمثابة موجود، الخيال هو المهيمن والمؤثر في مسألة حضوره، حتى إذا ما نظرنا إلى ما أخرجته يدُ الإنسان من مخترعات في حقبة ما سُمّي بالثورة الصناعية وما تلاها حتى أيامنا هذه كانت في البدء أفكارًا مجردة، سمتها الخيال الذي هو ضد الحقيقة المعلومة المدركة بالحواس، ثم أضحت شيئًا مذكورًا بعد ذلك في دنيا الناس.
إنَّ كلمة حضارة ومكوّناتها التي يمكن تقسيمها قسمين: فكري مجرد يتفرع إلى فرعين (علوم وفنون)، ومادي حسي مصنوع من عناصر يتم استقدامها من الطبيعة المحيطة، هذه الكلمة؛ أي الحضارة قد خرجت من الجذر اللغوي حضر، والحضور ضد الغياب، لكنَّه في الوقت ذاته مولود قد خرج من صلبه؛ ليس أدل على ذلك من أنَّ ما كان يظنّه الإنسان وهمًا أو خرافة، أو لنقل أسطورة في الماضي صار في مضارع لاحق شيئًا مألوفًا لا مكان في العلاقة به وفي التعامل معه لمفردات مثل الغرابة أو الدهشة أو عدم القبول وعدم التصديق.
من هنا يتبين أنَّ مفهوم الأسطورة يكتسب بعدًا مرنًا يمكن نعته بالحركي القائم على التوسع وعدم الجمود؛ إنَّه لم يقف متجمدًا عند رؤية إدراكية ذات صبغة عقائدية تعتمد على الخضوع والاسترضاء، بل تمدّد أفقيًّا ليحتفظ بمعنى عام يتمثل في مطلق الخيال أو الخرافة، الذي من عباءته خرجت الفنون قديمها وحديثها( )، ومنه خرجت منجزات تعكس ما وصل إليه الإنسان من نضج وتطور وحداثة؛ فما ينتمي إلى الفيزيقي المادي الملموس أصله إذًا الخرافة أو الوهم أو الخيال أو العدم الذي هو ضد الوجود؛ إنَّ هذه المفردات الأخيرة جميعها تمثل ملصقات دلالية لحقت بالأسطورة في سفرها المستمر عبر الزمن بين أبناء الأسرة البشرية؛ الأمر الذي يعني أنَّ التطوّر الذي لحق بهذه اللفظة/الأسطورة لم يقتصر فقط على الترادف إذا ما نظرنا إلى كلمات؛ مثل: الخيال، المجاز، الوهم، الغيبي الذي في حكم العدم، بل إنَّه امتد ليصل إلى حافة التضاد؛ فنجد أن حضارة الإنسان واتصالها بالمنجزات/المخترعات التي هي على مقياس وعي الإنسان القديم بإطلاق الكلمة، أو وعي السابقين منذ أربعة قرون مثلاً في عداد الأوهام صار حقيقةً ويقينًا يعيش معه الإنسان ويقيّم حياته وفقًا لآلية عمله( ).
تعقيبٌ
إذن يمكن القول: إنَّ الدال (الأسطورة) المعنى والأداء يتجلى في محددات دلالية عدة:
- الأسطورة: طورٌ في الإدراك يعكس المراحل الأولى في عمر الإنسان على الأرض وما تحمله من خصوصية في الفكر وفي الممارسة.
- الأسطورة: كذبُ خيالٍ ومجاز، في مرحلة الدين والشرائع، وفي مرحلة ترسيخ العلم ونظرياته.
- الأسطورة وثيقةُ الصلة بافتراضات في مرحلة الاختبار قبل أن يتأكد بالتجريب وبالدليل وجودها.
- الأسطورة وثيقةُ الصلة بالمنجز الحضاري الإنساني في شقه الذهني والوجداني المجرد (حقل العلم وحقل الفن بأنماطه اللغوية وغير اللغوية).
- الأسطورة وثيقة ُالصلة بالمنجز الحضاري الإنساني في شقه المادي المصنوع من مكوّنات الطبيعة المحيطة بالإنسان (جانب المخترعات التي أحدثت طفرةً وتغيّرًا نوعيًّا في نمط حياة الإنسان على الأرض وطريقته في الفكر وفي السلوك، وفرضت تقسيمًا داخله إلى طبقات قد لا يخلو من نزعة عنصرية ليست مبرأة من تجبّر وتنمر؛ فهناك شعوبٌ متقدمة (دول عالم أول)، وغيرها دونها يأتي في مرتبة ثانية، وثالثة/دول عالم ثالث.
- الأسطورة نسقٌ يتفرع فرعين؛ الأول يتصل بما هو شعائري جذروه تعود إلى وعي الإنسان الأول إزاء العالم من حوله في مرحلة غياب المنقول من نصوص السماء (الدين والشرائع)، الثاني: فلسفيٌّ يرتبط بحركة أو لنقل بآلية تكوين المعرفة من خلال الربط بين المشاهد/المعلول/المفعول، والعلة التي تقف وراءه، ولا يمكن الوصول إليها بالحواس، لكن يمكن الوصول إلى عتبة إدراك واقتناع بوجودها بالعقل؛ الأمر الذي يبرر علة احتمال الدال، وفي معنى رأى. ورأى لها أكثر من معنى؛ الأول: الرؤية المرتبطة بحاسة الإبصار؛ أي رأى بمعنى أبصر، الثاني: الرؤية المؤسسة على الإدراك الذهني؛ أي الرؤية المرتبطة بالعقل، حينها يكون الفعل رأى بمعنى عرف وعلم. ويكون لمنطوق سقراط لتلميذه عندما قال له: "تكلّم حتى أراك" وجاهته؛ إنَّه يقصد بالطبع رأى بمعنى علِم وعرف.
- الأسطورة إذًا لفظٌ يمكن بقدرٍ من التوسع وصفه بأنَّه من ألفاظ الأضداد؛ فهي تحمل المعنى وضده بالنظر إلى طبيعتها الحركية المرنة مع اقترانها برحلة العنصر البشري عبر الزمن.


- انظر:كارين أرمسترونج، تاريخ الأسطورة، ترجمة: د. وجيه قانصو، الدار العربية للعلوم ناشرون، ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008م، من ص9 إلى ص15.
- سورة الأنفال: الآية: 31.
- سورة الفرقان: الآية: 5.
- انظر: فراس السواح، الأسطورة والمعنى، دار علاء الدين للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الثانية، 2001م، من ص24 إلى ص32.
- انظر: د. علي صبيح التميمي، أنثروبولوجيا الأسطورة والدين، دار أمجد للنشر والتوزيع، عمان، طبعة 2016م، ص55.
- انظر: د. عز الدين إسماعيل، الفن والإنسان، دار القلم، دمشق، طبعة 1974م، من ص34، إلى ص39.
- انظر: د.أحمد يحيى علي، بين التعبير الإنساني والمحاكاة، مجلة الرافد الإلكتروني، دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، فبراير 2022م.
 

مصادر المقال ومراجعه:
- القرآن الكريم
1- د.أحمد يحيى علي، بين التعبير الإنساني والمحاكاة، مجلة الرافد، الإصدار الرقمي، دائرة الثقافة الإعلام، الشارقة.
2- د. عز الدين إسماعيل، الفن والإنسان، دار القلم، دمشق، طبعة 1974م.
3- د. علي صبيح التميمي، أنثروبولوجيا الأسطورة والدين، دار أمجد للنشر والتوزيع، عمان، طبعة 2016م.
4- فراس السواح، الأسطورة والمعنى، دار علاء الدين للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الثانية، 2001م.
5- كارين أرمسترونج، تاريخ الأسطورة، ترجمة: د. وجيه قانصو، الدار العربية للعلوم ناشرون، ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، الطبعة الأولى، 1429هـ، 2008