الاستعارة من البيان الأرسطي إلى البلاغة العربية؛ "جدلُ النشأة وأصالةُ المفهوم".

د. الخامس مفيد
أستاذ اللسانيات، جامعة شعيب الدكالي، كلية الآداب، الجديدة، المغرب.
تقديم:
مثّلت الاستعارةُ دومًا دائرة الرحى في التفكير البلاغي التقليدي، بكونها ظاهرةً لغوية، يقتصر دورها على تجميل الكلام، ورفع البيان من الباث إلى المتلقي. فهي بحسب التصوّر الكلاسيكي، لا تتردد في كل الخطابات، وإنَّما ينحصر وجودها في الخطاب الأدبي الجمالي الإبداعي سواء كان شعريًّا أم نثريًّا. وبالتالي، فهي حكرٌ على الشعراء والأدباء، وليس بمقدور العامة صياغة بنيات استعارية.
وتعود البداياتُ الأولى لنشأة هذا المفهوم إلى البيان الأرسطي، فقد عدّها نقلًا من الحقيقية إلى المجاز، وقد ساد جدلٌ طويلٌ بشأن أصالة المفهوم، بين من نسبه إلى البيئة العربية، وبين من صعد به إلى البيان الأرسطي، وبين من تبنى الحياد. ويُجمع جلُّ المهتمين بالبلاغة العربية إلى أنَّ الجاحظ أوّل من انتبه إلى ظاهرة الاستعارة في النصوص الأدبية من شعر ونثر، وقد اكتمل بناء المفهوم وصياغة المفاهيم والمبادئ مع عبد القادر الجرجاني من خلال أسراره وإعجازه، بل يمكن القول من خلال نظرية الادعاء الجرجانية.
1. الاستعارة من خلال البيان الأرسطي:
1.1. نشأة الاستعارة بين أرسطو والبيان العربيّ:
شغلت نشأة الاستعارة بال العديد من الباحثين والنقاد والبلاغيين، فلا أحد يجادل في تأثير أرسطو في البلاغة العربية، خاصة بعد ترجمة كتابيه:" الخطابة" و" فن الشعر". لكن من باب الإنصاف، وجب التنبيه إلى أنَّ هناك العديد من الباحثين، يدافعون على أن البيان نشأة عربية خالصة، تردد صداه في التراث العربي، قبل ترجمة كتابي أرسطو.
لقد دافع طه حسين وأمين الخولي عن فكرة الأثر اليوناني في البيان العربي، وأضحت أفكارهما مرجعًا لدراسات مقارنة لم تنته إلى يومنا هذا. فهذا حمادي صمود، يربط نشأة الاستعارة بوجود عناصر فكرية أجنبية في الحواضر العربية، وازدهار الترجمة، كل هذه الأسباب وغيرها، نتج عنها وصول الفكر الأرسطي البلاغي إلى البيئة العربية، خصوصًا بعد ترجمة كتابي" الخطابة" و" وفن الشعر" إلى العربية. هذا فضلاً عن وجود إشارات نصية مبثوثة في ثنايا مصادر البلاغة العربية، تحمل إحالةً واضحة على التراث اليوناني.
ويرى ضياء خضير أنَّ تطوّر المصطلح البلاغي العربي بشكلٍ سريعٍ، دفع بالعديد من الباحثين المستشرقين إلى التشكيك في أصالة البلاغة العربية، مفترضين وجود أثر أجنبي، قد يكون يونانيًّا أو فارسيًّا، وحجتهم في ذلك، أنَّ تطور العلوم البيانية في "أثينا" تطلب ردحًا طويلًا من الزمن( ).
أمَّا" أرحيلة"، فقد سلك مسلك المدافعين عن أصالة البلاغة العربية، ودليله في ذلك، أنَّ القائلين بمسألة التأثير اليوناني في الثقافة العربية القديمة، وعدَّ أرسطو شيخًا لها، ماهي سوى مسوغات الغاية منها، إقناع العرب والمسلمين بضرورة الانصهار في المدينة الغربية، وجعل الحضارة اليونانية منطلق كل الحضارات، مقرة بالتولّد الذاتي؛ أي أنَّ البلاغة والفلسفة والمنطق، إنتاجٌ يونانيٌّ صرف؛ بمعنى آخر، أنَّ تطوّرَ هذه العلوم، هو منتوج يوناني خالص، لم يطلع فيه فلاسفة "أثينا" على تراث من سبقوهم.
ويبالغ كثيرٌ من الباحثين، لحظة تخليص البيان العربي من الأثر اليوناني، فهذا عبد الستار، يرفض كلَّ الآراء القائلة بتأثر البلاغة العربية بأرسطو، وهذا عبد الجبار الشرافي، يؤكّد أنَّ البلاغة العربية نشأت في بيئة عربية، لحلِّ لغز الإعجاز القرآني. وبالتالي، فالحاجة إلى فهم كتاب الله، كانت وراء نشوء البيان العربي، وهذا لا يستقيم والتأثير الأرسطي من ناحية، وإعمال الفلسفة اليونانية من ناحية أخرى.
ومن باب الإنصاف، لقد تردّد مفهوم الاستعارة في التراث اللغوي العربي قبل ترجمة كتابي:" الخطابة" و"فن الشعر"، على ألسنة ثلة من اللغويين، أمثال: الخليل، وأبو عبيدة، والأصمعي، وسيبوبه، لكن خلال هذه الفترة، لم نعثر على مصطلح الاستعارة، بالفهم الأرسطي، بل فعل" استعار" واسم المفعول" مستعار" فقط. غير أن المقصد نفسه، ستستقر عليه الأفهام لاحقًا. كما أنَّهم ميّزوا بين الاستعارة والتشبيه دون اطلاعهم على فكر أرسطو البلاغي. إنَّ الثابت من الناحية الموضوعية والعلمية، أنَّ فيلسوف "أثينا" أرسطو، لا أحد ينكر براعته وحدقه وحسن تصنيفه وتبويبه وتنظيمه لحقل الاستعارة.
وسعى كثيرٌ من الباحثين إلى تبني فكرة الحياد، واعتمدوا في ذلك على موضوعية الأدلة وصحة النتائج، فبالنسبة إليهم، التأثير ليس عيبًا، إذا ما كانت الغاية منه الاستفادة والتمثّل والإضافة والإغناء، فالتأثير المرفوض، هو ذلك، التأثير الذي يعتمد النسخ، ويغيب فيه تمثّل الموضوع، وتنعدم فيه الإضافة. فهذا التأثيرُ المفترض، ينبغي أن لا يقود إلى التشكيك فيما أنتجه العقل العربي في مجال البلاغة، ولا مصادرة العبقرية العربية/ الإسلامية، وجعله تابعًا للفكر والإنتاج اليونانيين( ). ويكاد الإجماع يكون حاصلاً بين جلِّ الباحثين والنقّاد والبلاغيين على أنَّ أرسطو أول من أرسى دعائم البلاغة الغربية وأسسها.

1.2. الاستعارةُ عند أرسطو نقلٌ واستبدال:
لا أحد يمانع في مشيخة ونسبة البلاغة الغربية إلى أرسطو، فهو أول من حدّد المبادئ والأسس التي قامت عليها الاستعارة من خلال كتابيه: "فن الشعر" و"الخطابة"، وقد تردّد صدى الفكر الأرسطي في البلاغة الغربية زمنًا طويلاً؛ أي إلى حدود تفنيذ فكرة ربط الاستعارة باللغة، التي أبدعها كل من "لايكوف" و"جونسن".
يعرف أرسطو الاستعارة بأنَّها:" إعطاء اسم يدل على شيء إلى شيء آخر، وذلك عن طريق التحويل( )". نلاحظ من خلال تعريف أرسطو للاستعارة، أنَّه ربطها بالاسم تحديدًا؛ أي:
(1) الاستعارة اسم
وفي نظر أرسطو، تتحقق الاستعارة، وفق الصيغة المنطقية الآتية:
(2) أ. الانتقال من مجال(س) إلى مجال(ص).
ب. الانتقال من معنى (حقيقي) إلى معنى (مجازي).
يستفاد من البنيتين أعلاه، أنَّ الاستعارة تخضع لمنطق الحركة؛ أي أنَّها تتطلب الانتقال من وضع(حقيقي) إلى وضع (مجازي)، مع احترام قيد المشابهة، وبإدخال هذا القيد، تأخذ الاستعارة الصيغة المنطقية الآتية:
(3) أ. الانتقال من المجال(س) إلى المجال(ص) وفق قيد المشابهة.
ب. الانتقال من المجال(الحقيقي) إلى المجال(المجازي) مع احترام قيد المشابهة.
تُقرأ البنية(3) استعاريًّا كالتالي: لكي يتم بناء الاستعارة، لا بدَّ من وجود مشابهة بين الوضعين، أي(الوضع العادي) و(الوضع المجازي). ويتأرجح هذا التحويل بين الجنس والنوع والقياس، حيث تتحقق الإعارة، وفق الإمكانات الآتية:
(4) أ. من الجنس إلى النوع، مثل: هنا تقف سفينتي.
ب. من النوع إلى الجنس، من قبيل: لا ريب أنَّ "أدوسيبوس" قد قام بعمل نبيل.
ج. من النوع إلى النوع، مثل: فليستل حياته بسيف من البرنز.
د. عن طريق القياس، مثل: عشية الحياة، مغرب الحياة.
نستنتج من كلام أرسطو عن الاستعارة، النتائج الآتية:
• قيام الاستعارة على الاسم فقط؛ أي أنَّ الاستعارة، لم تصل إلى الجملة أو الخطاب. وقد ساد هذا الاعتقاد لقرون عديدة، حيث أضحى همُّ البلاغيين هو الاعتناءُ بالمحسنات البلاغية التي لا تتجاوز الكلمة، وقد أدى هذا إلى انحصار البلاغة وموتها.
• ربط الاستعارة بالنقل؛ نقل الكلمة من موقعها الأصلي إلى موقع غريب عنها.
• الاستعارة انزياحٌ عن معانٍ مألوفة: يرى أرسطو أنَّ الاستعارة انزياحٌ عن الكلمة العادية التي يتداولها الناس في بلد معين؛ بمعنى الانتقال من مجال حقيقي إلى مجال مجازي( ).
تأسيسًا على ما سبق، يبدو أنَّ الاستعارة الأرسطية، عبارة عن زخرف بلاغي، يتصل بالخيال الشعري والاستعمالات اللغوية غير العادية، معنى هذا أنَّ القدرة على تشكيل الاستعارة، هي من نصيب الشعراء وأهل البلاغة فقط. وسنتتبع مبحث الاستعارة، وفق خط زمني دياكروني، يتعقب جميع مراحل تطور المفهوم، أقصد هنا، حال الاستعارة في التراث اللغوي والبلاغي العربي القديم( ).
2. الاستعارةُ في التراث البلاغيّ العربيّ القديم
2.1. الاستعارةُ عند الجاحظ: فهمٌ وإفهامٌ
يُعدُّ الجاحظ من المفكّرين البلاغيين الأوائل الذين انتبهوا إلى ظاهرة الاستعارة في النصوص الأدبية من الشعر والنثر، ويعرفها بقوله بأنَّها:" تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه( )"؛ أي إذا كانت بينهما علاقة مشتركة، تشكل جسرًا لانتقال الدوال بين الأشياء. وإذا قارنا مفهوم الاستعارة عند الجاحظ، بمفهومها عند أرسطو، نرى أنَّ الاستعارة عند هذا الأخير أعمُّ من الاستعارة عند الجاحظ، فهي عند أرسطو إحالة على المجاز بكل أنواعه وعلاقاته، أمَّا عند الجاحظ، فهي نوعٌ مخصوص من المجاز علاقته المشابهة الخارجية أو التناظر الوظيفي( )".
وبنى الجاحظ تعريفه للاستعارة على المشابهة؛ بمعنى لكي تكون عملية النقل سليمة، لا بدَّ من وجود علاقة المشابهة. وهي بذلك أخص من المجاز الذي يشمل جميع أنواع التجوّز الدلالي. ومن ثم، تكون الاستعارة، تجوزًا لغويًّا، يتم فيه نقل الألفاظ من مكانها الأصلي إلى مكان قريب منه اعتمادًا على علاقة المشابهة. وفي نظر الجاحظ الاستعارة في القرآن الكريم، لا تخرج عن أفق انتظار العرب، بل تمتح عناصر المشابهة من المتخيل العربي، وأنماط إدراكه للوجود والعلاقات الناظمة له.
وأسّس الجاحظُ نظريته البيانية على عنصري الفهم والإفهام اللذين يختصّان بالمرسل والمتلقي، فلكي يتحقق الإفهام، ينبغي أن يحترم أحوال السامع وعاداته ومعتقداته. ففي نظره التأويل محكوم بقوانين لغوية وثقافية ودينية، على المرسل أن يستحضرها في خطابه إن هو أراد إفهام السامع. فالمجاز جزءٌ من الكفاية اللغوية المشتركة بين المرسل والمتلقي.
وبذلك، لا يجوز للفرد أن يبتدع مجازاتٍ جديدة، لم يألفها الذوق العربي، فهذا الابتداع، يؤدي إلى عدم تحقق الإفهام بالنسبة للسامع، ولكي يتحقق الفهم، لا بدَّ من معرفة طرائق العرب في إخراج القول وبناء الدلالة. وبالتالي، يكون الانتقال من مجال إلى مجال محكومًا بالحدود التي رسمها الشعراء القدماء، شريطة عدم القياس على ما أبدعوه من مجازات، فما على المتكلم سوى الإقدام على ما أقدموا عليه، والإحجام عن ما أحجموا عنه( ).
ويعدّد الجاحظ وظائف الاستعارة، فهي آلية بسط الشجاعة والإقدام، كما أنَّها تُجنب المتكلم عدم المس بالحياء العام من حيث الجانب الأخلاقي والاجتماعي، هذا بالإضافة إلى العلاقة الاجتماعية بين الدال والمدلول( ).
2.3. الاستعارةُ عند الجرجاني: من النقلِ إلى الادعاء
لعب الجرجاني دورًا كبيرًا في تأسيس البيان العربي، فرغم أنَّ الجاحظ سبقه إلى التعريف، لكنَّه هو من أسّس هذا العلم بالمعنى الدقيق، حيث صنّف الاستعارة، وحدّد المبادئ والقيود المفروضة على كلِّ صنفٍ من أصنافها. متكئًا في ذلك على سليقة عربية سليمة، وعلى معرفة وثيقة باللغة وأسرارها، وقد سمّاه الحافظ الذهبي بإمام النحاة.
إنَّ تذوّق تراث الجرجاني البلاغي واستيعابه، يتطلب الاطلاع على كتابيه:" أسرار البلاغة" و" دلائل الإعجاز". وما يهمنا من تراثه، هو مبحثُ الاستعارة، من حيث تعريفها وأقسامها، ومسوغات الانتقال من مقولة النقل إلى مقول الادعاء.
2.3.1. حدُّ الاستعارة
عرف الجرجاني الاستعارة من خلال أسراره بأنَّها:" أن يكون للفظ أصل في الوضع اللغوي معروفًا، تدلُّ الشواهدُ أنَّه اختصّ به حين وضع، ثم يستعمله الشاعر وغير الشاعر في غير ذلك الأصل، وينقله إليه نقلًا غير لازم فيكون كالعارية( )".
2.3.2. أقسامُ الاستعارة عند الجرجاني
أ. الاستعارة المفيدة:
يقصد بالاستعارة المفيدة، كل استعارة فيها فائدة، ومعنى من المعاني، وغرض من الأغراض، وتظهر الإفادة في معان جديدة، لم تكن موجودة من قبل، ونماذج هذا النوع كثير، نقتصر على البعض، كما في(14):
(14) أ. رأيت أسدًا فائدة جديدة الشجاعة.
ب. رأيت بحرًا فائدة جديدة الجود.
فلولا الاستعارة لن نحصل على إفادة الشجاعة والجود والجمال، فهي معاني جديدة، تم توليديها لحظة الانتقال من مجال الحقيقة إلى مجال المجاز. وبفعلها تتولد في نفس السامع مبالغة في وصف شجاعة زيد، وكأنَّه نسخةٌ من الأسد في بطشه وبأسه وإقدامه. وفي استعارة البحر، تم إضافة معنى جديد، لم يكن في البحر الحقيقي، إنَّها فائدة الجود والكرم. أمَّا استعارة الشمس، فقد مدتنا بفائدة جديدة، تجلّت في الجمال والبهاء.
ويبدو أنَّ الاستعارة المفيدة، تهمُّ المشترك البشري، وما جرى به العرف في جميع اللغات، ويستوي في هذا العربي والعجمي. فالمبالغة في تشبيه(زيد) بالأسد من حيث شجاعته، ينبغي أن يدركها العربي والعجمي على حدٍّ سواء ( ).
ب‌. الاستعارةُ غير المفيدة
صنّف الجرجاني هذا النوع من الاستعارة بأنَّه قصيرُ الباع، قليلُ الاتساع. لأنَّ التوسع فيه، يهمُّ الألفاظ لا المعاني، كوضع أسامٍ كثيرة للشيء الواحد، كما في(19):
(19) أ. الشفة للإنسان.
ب. المشفر للبعير.
وإذا استعمل الشاعر هذه المرادفات في غير الجنس الذي وضع له، فقد استعار منه، ونقله عن أصله، وجاز به موضعه، كقول العجاج:
(20) وفاحمًا ومرسنًا مسرجا.
وفي السياق نفسه، يقول أحدُ الشعراء:
(21) فبتنا جلوسًا لدى مهرنا ننزّعُ من شفتيه الصَّفارا.
استعمل الشاعر الشفة في الفرس، وهي موضوعة للإنسان، فحتى وإن وظف جحفلتيه، فلا فرق بين الاسمين، لغياب الفائدة. لكن إذا جاءت الشفة في سياق ذكر الإنسان والفرس، دخل على السامع بعض الشبه لتجويزه، كأن نستعير الاسم للفرس. وبعد أن تبنى الجرجاني في أسراره مقولة النقل، انتقل في إعجازه إلى تفنيذ فكرة النقل، والدفاع عن مقولة الادعاء.
2.3.3. الاستعارةُ عند الجرجاني ادعاءٌ
ساق الجرجاني عددًا من الأدلة والحجج، لنفي صفة النقل عن الاستعارة، وتبني الادعاء، حيث يرى أنَّ الاستعارة" ما لا يتصور تقدير النقل فيه البتة( )"، مثل قول لبيد:
(22) وغداة ريحٍ قد وزعتُ وَقَرّةٍ إذ أصبحت بيدِ الشمالِ زمامُها.
لا جدالَ في أنَّ" اليد" استعارةٌ، لكن لا يمكن أن نتصور لفظ "اليد"، نُقل عن شيء إلى شيء، ومرد ذلك، أنَّه ليس هو تشبيه الشيء باليد، بل يسعى إلى أن يثبت للشمال في تصريفها على طبيعتها، تشبه الإنسان، وقد أخذ الشيء بيده يقلبه كيف يريد.
ويقولُ المتنبي:
(23) خميسٌ بشرق الأرض والغرب زحفه وفي أُذن الجوزاء منه زمازمُ.
إنَّه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نزعم أنَّ المشي، استعار لفظ(الأُذن)، لأنَّه ينبغي أن يكون في الجوزاء شيء قد أراد تشبيهه بالأذن، وهذا من المحال. وبعد أن عرض الجرجاني حزمةً من الأمثلة متبوعة بالشرح والتحليل، اقتنع بفكرة تجاوز مقولة النقل، وتبنّى مقولة الادعاء، ويتعزّز هذا الكلام بقوله:" الاستعارة ادعاءٌ معنى الاسم للشيء، لا نقل الاسم عن الشيء( )".
خلاصة:
خلاصةُ القول، لقد ساد اعتقادٌ لدى عدد كثير من الباحثين أنَّ الاستعارة، ترتبط بالخيال الشعري والزخرف البلاغي، إنَّها في نظرهم، لا تخصُّ سوى الاستعمالاتِ اللغوية غير العادية التي تكون حكرًا على الشعراء، ولا ينتجها إلا من ملك ناصية نظم القريض، أمَّا الاستعمالات اللغوية العادية، فلا يمكن في نظرهم أن تكون استعارية.
زيادة على ذلك، يعتقد جلُّ الباحثين في البلاغة الكلاسيكيّة أنَّ الاستعارة خاصية لغوية، تهم الألفاظ، ولا يصل مفعولها إلى الفكر والأعمال التي ينجزها البشر. ومع تطوّر العلم المعرفي، أضحت الاستعارةُ مسألةً فكرية، بل الأكثر من هذا، فنسقُنا التصوّريُّ مبنيٌّ بطريقة استعارية؛ أي أنَّنا نفكّر ونتواصل وننجز أعمالاً عن طريق الاستعارة.
لائحةُ المصادر والمراجع
 أرسطو، فن الشعر، ترجمة: إبراهيم حمادة، مكتبة الأنجلو المصرية، مصر.
 الحويديق، عبد العزيز(2015)، نظرية الاستعارة في البلاغة الغربية-من أرسطو إلى لايكوف ومارك جونسن، دار كنوز المعرفة، عمان، الأردن.
 الجرجاني، عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق: محمد الفاضلي، المكتبة العصرية، بيروت، لبنان، 2014.
 الجرجاني، عبد القاهر، دلائل الإعجاز، دار الغد الجديد، ط1، القاهرة، مصر،2017.
 محمد شوكت، الأحمد(2021)، "أثر أرسطو في مفهوم الاستعارة عند العرب"، مجلة عالم الفكر، العدد:183، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت.


( ). محمد شوكت الأحمد(2021)، ص.8.
( ). المرجع نفسه، ص.9.10.
( ). أرسطو، فن الشعر، ص.187.
( ). الحويدق(2016)، ص.17.
( ). المرجع نفسه، ص.27.
( ). الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص.153.
( ). محمد شوكت، الأحمد(2021)، ص.27.
( ). الحويدق(2016)، ص. 67.69.71.
( ). المرجع نفسه، ص.59.60.
( ). الجرجاني، عبد القادر، أسرار البلاغة، ص.27.
( ). الجرجاني، عبد القادر، أسرار البلاغة، ص.29.36.38.
( ). الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص.296.
( ). الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص.297.