"جابر عصفور"؛ والسفرُ عبر دلالاتٍ خارجَ النص.

عمر إبراهيم محمد
ناقد وباحث مصري
الواقع أنَّ المفكّرَ المصريَّ الراحل الدكتور جابر عصفور(1944 ـ 2021م ) كان مفكّراً من طرازٍ فريدٍ يستعصى على التصنيف، وأي محاولة تضعه في خانة غُلاة اليسار أو غُلاة اليمين لن تجد لها سندًا مؤكّدًا وسوف تعبر عن قراءة ناقصة ومبتورة لإنتاجه الفكري الغزير.
والباحث في نشأة هذا المفكّر الراحل وتكوينه، يجد أنَّ أفكاره الثقافية الأساسية تستمد أصولها من جذور ممتدة في أغوار التاريخ الثقافي لمصر، كما تستمد جذوتها المتقدة دومًا من نبض حركة التنوير العقلانية التي بدأها الشيخ(رفاعة الطهطاوي) وتلاميذه في حياة مصر عن طريق التعليم والترجمة والنشر في بداية القرن الفائت، وأنَّ أكثر الكُتّاب تأثيرًا في تكوين جابر عصفور العقلي والأدبي هم العقاد وسلامة موسى وطه حسين.
وعندما أنصعتُ لإلحاح الرغبة في الكتابة عنه والدخول لعالمه الثري، ومن ثم التغلغل في أفكاره وأطروحاته التي جذبتني لعالمه المُترع بالعلم والثقافة والتنوير عبر جُلِّ أعماله التي نادت بحُرية العقل والعقيدة، كان ولا بدَّ من تسليط الضوء على نقاط مهمّة عبر مشواره التنويري الكبير، وقناديل الوهج التي أشعلها لإنارة دروب الباحثين عن الحُرية والحقيقة والأمل.
ففي الواقع أنَّ جابر عصفور مفكّرٌ إنساني النزعة، صاحب منهج عقلاني في النظر إلى أمور الفكر ومشكلات الواقع والحياة ككُل.
فقد كان بحكم نشأته وثقافته يؤمن بعلاقة الأدب والفكر بالأوضاع الاجتماعية، وقد أكّد مرارًا أنَّ سبب تخلفنا ورجعيتنا يعود لتدخل رجال الدين في السياسة؛ وبالتالي العمل على تغييب سُلطة( العقل) من خلال الخلط بين المفاهيم وتأويل الآيات والأحاديث حسب الأهواء.
والقريبون من جابر عصفور يعون تمامًا أنَّه لم يكن لديه أثرٌ للتعصّب الديني أو التحيز الطائفي، وبحُكم عَلمانيته فهو كثيراً ما كان يعترف في أكثر من مكان وزمان بدور( الإسلام) في تحرير العقل البشري من الكهانة ومن سُلطة رجال الدين، وإسقاط أي وساطة بين الإنسان وربه.
كما كان يشهد في كثير من اللقاءات للفكر الإسلامي بأثره في حركة الإصلاح الديني وظهور البروتستانتية في أوربا، وأيضًا يشهد للفكر الإسلامي بانفتاحه على الديانات الأخرى كالمسيحية واليهودية ومساواته لجميع البشر دون تفرقة بسبب الدين أو الجنس أو اللون؛ مما أتاح للعرب المسلمين الإطلاع والتفتح على الثقافات الأخرى؛ وبالتالي بناء صرح الحضارة العربية الإسلامية.
كذلك جاءت كتاباته وآراؤه على شكل صدمات مفاجئة أقلقت الرجعيين والتقليديين فأخذوا يناصبونه العداء، لكن هذه الصدمات قد أثمرت ثمارًا عظيمة وحركت مُناخ الحياة الثقافية الراكد.
فما يُقال بأنَّه كان يُعادي الإسلام والمسلمين كما كان يروّج دُعاة الفتنة الطائفية وقتها؛ ما هو إلا ليًّا للحقائق، فجابر عصفور كان يُعادي الدولة الدينية سواء كانت باسم الخلافة الإسلامية أو باسم البابوية، فالدولة الدينية عنده تقوم على نظامٍ شموليٍّ يجلس على قمته حاكم مُطلق يجمع بين يديه سُلطة الدين والدنيا معًا، يتحكّم في رقاب العباد وأمور دنياهم بما يضفي على نفسه من سُلطة دينية، أو كما وصف السُلطان الظاهر نفسه في رسالته إلى سُلطان تونس بأنَّه" ظلُّ الله في أرضه القائم على سنته وفرضه "( ابن خلدون) .
وهذا معناه أنَّه يحكم بالحق الإلهي، وليس من حق المحكومين محاسبته. هذا من جهة اشكاليّاته مع التيار الديني أو الإسلام السياسي عبر آرائه وأعماله.
والمتأمل لمشوار الدكتور جابر عصفور، كناقدٍ أدبي مُتمكن من أدواته، يجده أنَّه دائمًا ما كان يلجأ إلى أطر دلالة خارج النصِّ الأدبي الذي كان يدرسه، فإذا كان يقوم مثلاً بتدريس نصٍّ مسرحي، تجده يبحث فيه عن الأساطير التي يمكن أن يتكلم عنها من وجهة نظر( أنثروبولوجية أو أنثروبولوجية ثقافية)، وإذا كانت قصة نثرية فإنَّه كان يُفسرها تفسيرًا نفسيًّا، وقد استطاع في فترة قصيرة أثناء وجوده بالجامعة المصرية من تدريسه لغة جديدة لطُلبةٍ قادمين إلى الجامعة وهم على درجة من البراءة الثقافية وغير متعمقين في أي من الثقافتين، ومن ثم أوجد لغة عامة خارج النص، واستطاع بذلك أن يثير خيالهم وأن يُلهمهم في الأدب والنقد.
ومن هذا يتضح أنَّ اهتمامه كان بتكوين العقلية الشابة الماثلة أمامه على التفكير الحُر، فهو يحاول أن يخرجها من عالم الأدب أو على الأصح من قيود النصِّ الأدبيّ إلى عالم الأنثروبولوجيا، أو علم النفس، أو الأدب المقارن كنوع من الصدمات الكهربائية.
فقد كان جابر عصفور في مُقدمة النقّاد العرب المعاصرين الذين لا يختلف اثنان حول مكانتهم وإمكانياتهم النقدية وبراعتهم الفذّة في التحليل والكشف والاستجلاء، ولم يكن تميّزه النقدي محصورًا في جنسٍ أدبيٍّ أو منهج نقدي أو نظرية بعينها؛ فقد اتّسعت مساحة نقده لتشمل مُختلف أشكال النقد بنظرياته ومناهجه ومدارسه.
وكان أيضًا على دراية تامة في علم الخطابات والتمييز بين المُصطلح النقدي بمفهومه المعرفي( الفلسفي)، حيث لا من موضوع محظور، ولا معرفة غير قابلة للفحص والاختبار، بما فيها أداة التنقيب عن المعرفة( العقل)؛ وهو ما أدى إلى ظهور المذهب النقدي عند( كانط) خاصة، حيث فكّك نقده العقل باعتباره مَلَكَة الحُكم، إلى العقل الخالص بكونه أداةَ الحقيقة، والعقل العملي بكونه أداةَ تدبير العمل.
أمَّا الخطاب النقدي( الأدبي) لديه فهو نقدٌ يتّجه إلى بحث المُهيمنات الفكرية، والأبعاد المعرفية، والترسبات الميثيولوجية والمثيو دينية، أي البحث في العلامات النصية لا بوصفها مستودعات جمالية؛ بل بما تؤديه من وظائف سيميائية تُدرس الخطابات بها عبر ما يُعرف بلسانيات الخطاب.
ففي كتابه (أفاق العصر1997م) والذي ضمَّ سلسلةً من المباحث مُتعددة المذاهب؛ تمتد بنا من الصورة إلى الخيال، إلى الوعي بالكتابة، إلى مفهوم النص، إلى قضية الترجمة، ثم عنوان يطرح تساؤلًا يعود بنا إلى أصولنا الأولى: هل فضيلة الشعر مقصورة على العرب؟. ليعود بنا في عنوان آخر إلى: فضاء النقد الأدبي في القرن العشرين، إلى غير ذلك من عناوين تدور حول المعرفة الأدبية.
كما يعرض جابر في كتابه هذا لمفهوم(الخطاب)، مُنطلقًا من الخطاب الواصف لخطابه، أو على تسميته خطاب الخطاب، حيث يتم تحليل لغة الخطاب باللغة ذاتها، مرادِفًا ذلك بعنوانين؛ هما: دلالات الخطاب ولغويات الخطاب.
يفتتح جابر عصفور عنوانه الأول(خطاب الخطاب) بمناقشة قضية التسمية، تسمية خطاب فينسبها من جهة دلالتها المحدثة إلى ثقافتنا المعاصرة؛ ليقطع صلتها بالشكل اللغوي( كلمة خطاب) التي أنتجتها اللغة العربية منذ عهد قديم.( المعجم الفلسفي: ص48) .
فتلك الكلمة القديمة من حيث أصولها العربية تجمدت في معناها المعجمي عند اقترانها بالنطق، في حين تمدّدت تلك الكلمة بإفادة جديدة في عصرنا الراهن لتنتقل إلى رأس قائمة المصطلحات ذوات الرواج الكبير، وهكذا لم تعد كلمة خطاب المعاصرة سوى ترجمة لمصطلح مُتعدد الثقافات، هو DISCOURSE، واعتبر جابر عصفور أنَّ مصطلح الخطاب في المعرفة العربية المعاصرة ينتمي إلى دائرة المُعرب أو الدخيل الذي يعود بجذره إلى أصله اللاتيني، حيث يعني جذره الاشتقاقي " الجري هنا أو هناك " أو " الجري ذهابًا وإيابًا " ويستنتج أنَّه " فعل يتضمن معنى التدافع الذي يقترن بالتلفظ العفوي، وإرسال الكلام والمحادثة الحُرة والارتجال " ( آفاق العصر: ص47) .
وفي أكثر من مناسبة يؤكد جابر عصفور: " أنَّ النقد الأدبي لن يقدم شيئًا ذا بال للقارئ إذ لم يكن هذا القارئ -أصلاً- راغبًا في تأمل الكيفية التي يقرأ بها.. وإذا أردنا أن نكون مغامرين مكتشفين في قراءاتنا للأدب؛ فإنَّ علينا أن نكون مغامرين بالقدر نفسه في تفكيرنا عن الأدب".
ومن خلال ما سبق نؤكد أنَّ الدكتور جابر عصفور لم يكن الناقد الأدبي التقنيّ المُتخصّص في مجال الأدب فحسب؛ بل صار في المجال ذاته وغيره مُفكّرًا ورائدًا وكاتبًا وقنديلًا من قناديل التنوير، وحارسه الأمين.