قراءةٌ في ديوان "دم حنظلة" للشاعر إبراهيم الخطيب

د. يوسف بكار
أكاديمي وناقد أردني
الرّاحلُ الدكتور إبراهيم الخطيب (1938-2011) أردنيٌّ من أصلٍ فلسطيني. ولد في بلدة "قومية" بفلسطين المحتّلة وتوفي في مدينة إربد بالأردن حيث أنهى دراسته الثانوية. درس الطبّ بجامعة دمشق وتخرّج عام 1973، ثم حصل على التخصص في أمراض النساء والولادة والعقم من أمريكا عام 1981. وكانت له عيادة في إربد.
عرفته طبيبًا وشاعرًا قبل أن أستمع إليه أو أقرأ شيئًا من شعره. وحين أتيح لي أن أستمع إليه في بعض المنتديات الوطنيّة والسّياسيّة والأدبيّة، وما أكثر ما كان يشارك فيها، وأن أقرأ كثيرًا من شعره في الصّحف والمجلات وفي دواوينه، عادت بي الذّاكرةُ إلى موروثنا النّقدي في بداياته المنهجيّة وإلى الأصمعي تحديدًا، لأنّ إبراهيم الخطيب واحدٌ من النّماذج الإبداعيّة المهنية المجليّة التي تُعدّ مصادرة على أطـروحـة الأصمعي النّقديّة، إذ كان هذا النّاقد لا يعدّ الشّاعر، الذي لم ينقطع للشّعر انقطاعًا كاملًا، في زمرة الشّعراء الفحول الذين ارتضاهم وَفْق مفهومه هو للفحولة الشّعرية غير مدرك، مثلًا؛ أنّ صعلكة الصّعاليك وشجاعـة الفرسان وتدّين لبيد العامريّ لا تحول، ما دام الشّعرُ موهبةً، أوّلًا وإطارًا معرفيًّا وفنيًّا بأَخَرَه، دون أن يكونوا فحولًا شعراء وفي طليعة الشّعراء.
ولقد قُيّض لي أن أشارك في الملتقى الشّعريّ الأول برابطة الكتّاب الأردنيين- فرع إربد مساء السبت 3/10/1992 للحديث عن قصائد لثلاثة شعراء من إربد، كلّهم الآن في ذمّة الله: إدوارد حدّاد (1945-1996)، ونادر هدى (1961-2016)، وإبراهيم الخطيب الذي، قدّم مقطعًا من قصيدة "وجهًا لوجه" التي عنّون بها ديوانه "وجهًا لوجه" (دار الكندي- اربد 1990)، وقصيدة "عرضة للحياة" التي عنّون بها ديوانه عرضة للحياة" (اتحاد الكّتاب العرب- دمشق 1996) من بَعْدُ.
إبراهيم الخطيب، شاعرٌ طبيبٌ وطبيبٌ شاعرٌ، تعاقد الطب والشّعر فيه على صداقة حميمة باقية. خلّف غير "دم حنظلة" هذه الدواوين: "غنّ لي غدي" (1984)، و" قنـاديـل النّهـار المـطـفـأ" (1985)، و"حظيرة الـرّيـاح" (1986)، و" عز الدّين القسّام" (1986)، و"ألوذ بالحـجـر" (1989)، و" سنـابـل الأرجـوان" (1990)، و"وجهًا لوجه" (1990)، و" أرى تقلّب حرفك في النساء" (1990)، و "عرضة للحياة"، (1996)، و" أرى قوافي قد أينعت (2002)، و" حتّى يتبيّن لك خيط الحُلم ( 2002) ، و"قاب دمٍ وانتظار" ( 2005).
وديوان "دم حنظلة" في الذكرى الثالثة لاستشهاد " الأيقونة" ناجي العلي (1937-1987) رسّام "الكاريكاتير" الفلسطينيّ المعروف؛ هذا الفنّ الذي حققّ له ريادة التعبير السّياسي في الالتزام بالقضيّة الفلسطينية التي عانى في سبيلها الهجرة والشّتات والفقر والاعتقال، ومارس الكفاح الفني إلى أن استُشهد؛ وكأنَّ الشّاعر الفلسطينيّ المناضل عبد الرحيم محمود (1913-1948) كان يعنيه بعد نفسه، دون أن يعرفه، بقوله:
سأحملُ روحي على راحتي وأُلقي بها في مهاوي الرّدى
فإمّا حياة تسّر الصّديق وإمّا ممات يغيظ العدى
لقد اتّخذ ناجي العلي "حنظلة" رمزًا للفلسطينيّ المعذّب والمناضل القويّ في آن، على الرّغم من كثرة الصّعاب والعقبات والأحداث والمضايقات التي ما زالت تترى ولا سيّما على يد المحتّل الإسرائيلي الغاصب لفلسطين مذ أربعة وسبعين (74) عامًا! إنّ حنظلة "أيقونة" أخرى هي ناجي العلي عينه، تعبّر عنه وتناضل باسمه. لقد قدّم نفسه إذ قال: "اسمي حنظلة، اسم أبي (مش) ضروري. أُمي اسمها نكبه، واُختي الصغيرة فاطمة. (نمرة رجلي ما بعرف، لأنيّ دائمًا حافي). ولدت في (5 حزيران 67) جنسيتي... أنا أنسان عربيّ وبس.
ومن أقواله المعروفة، كذلك:
- "اللّي بدو يكتب لفلسطين، واللّي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت".
- "الطّريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة. إنّها بمسافة الثّورة".
- "أنْ نكون أو لا نكون. التّحدي قائم، والمسؤوليّة تاريخيّة".
ولقد حقّق إبراهيم الخطيب وبعض الشعراء العرب كالشّاعر التّونسي المنصف المزغني، مثلًا، في ديوانه "حنظلة العلي" (1982), ورهط من الصّحافيين الأحرار الذين أصرّوا على أن يظلّ ناجي الميْت حيًّا، حقّق هؤلاء جميعًا للفنّان في مماته ما كان يهجس به في حياته حين قال عن حنظلة: "هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي بالتأكيد... وربما لا أبالغ إذا قلت إنّني قد أستمر به بعد موتي".
 يضمّ الديوان قصيدتين متلاحمتين متلازمتين دون عنوان لكلّ منهما. إخال أنّ مضمون عنوان الديوان ينداح فيهما اندياحًا شاملًا مدعّمًا بعدد من رسوم ناجي العلي المتوائمة مع ما يعنيه الشّاعر ومسيرة حنظلة ذاته.
القصيدة الأولى شطريّة "جيميّة" من بحر الخفيف تعدّ عشرة (10) أبيات، يؤكد بيتاها الأوّلان، وهما من الرّباعي "الأعرج"، ضرورة النّضال ومواجهة الملمّات دون خوف ووجل من الموت الذي لا مناص منه، ولو كُنّا في بروجٍ مشيّدة:
"لا رثاء ولا احتفاء بناجي/ أيّ حيٍّ من الممات ناجي؟!
أينما كنت لا مفرّ من الموتِ / ولو كنت خلف برجٍ عاجي"
فأمّا القصيدة الأخرى الأطول فمنظومة من عدّة مقاطع تفعيليّة من بحر المتقارب، الذي عضّد الشاعر موسيقاه بالرّكن الآخِر من الموسيقى الخارجيّة هي القافية، التي احتفظ برنينها الموسيقيّ متقاربًا ومتباعدًا في جلّ مقاطعها. يقول في المقطع الأوّل (ص15)، مثلًا:
"حَنظلةْ!/لا تكذبُ البوصلةْ/تُهمتي خيمةْ/وجْهتي غيمةْ/ودمي مرحلةْ"
وإن لا تخلو سطور بعض المقاطع من "التّدوير" التفعيلي لا اللّفظي كما في الشّعر الشّطريّ. يقول مثلًا (22):
"لقد كنتُ أبحث عن قاتلٍ عاقلٍ/يُضمر السّيف والعَصْفَ/والقنبلةْ"
شعرُ إبراهيم عامةً وفي ديوانه هذا خاصةً ذو سمات شعريّة واضحة في الموضوع والفنّ. ففي الموضوع تشغله في هذا الزّمن المهزلة، كما يصفه هو، قضايا أمته الوطنيّة والسّياسيّة وقضيتها المركزيّة القضيّة الفلسطينية بأبعادها الشموليّة والجزئيّة. وما استشهاد "ناجي العلي"، الذي يوقف عليه هذا الديوان والذي مزّقت ريشته عيشته كما يقول الشّاعر نفسه، إلّا بعد من أبعاد هذه القضيّة، يقول (58):
"حنظلة/يا وقوفي على عتبات الوكالهْ/بطاقة تموينْ/وكيس طحينْ/وعلبة سردينْ/وسرب من اللاجئين/وذكرى فلسطين/وآمين.. آمين.. آمين.."
ويقول بلسان حنظلة (23):
"أنا منْ تحمّل عِبءَ اغترابٍ وعبء انتسابٍ/أنا منْ تحمّل عبء هواهُ وطيشهْ/فما قتلوني وما صلبوني/تشبّهْتُ طيرًا ومِتُّ بطعنة ريشةْ؟"
فأمّا في الفن، فيراوح الشّاعر – أو يزاوج – بين القالبين الشّطريّ والتّفعيليّ دون أن ينحاز إلى أحدهما أو يطغى أيّ واحد منهما على الآخر قصدًا؛ لأنّ التّجربة هي التي تختار اللّبوس الموائم لها والقالب الذي تختال فيه. لعلّ هذه العفويّة الفنيّة تكون وراء باقة ظواهره الشعريّة الأخرى التي توشّح شعره توشيحًا لافتًا مدهشًا.
إنّه يجمع بين الأسلوبين التقريري والتعبيري جمعًا فنيًّا. فالتقريريّ بعيد عن المباشرة الممّلة؛ لأنّه يردفه- أحيانًا- بالتكرير المدثّر بقوافٍ دالة، كقوله (46):
"أنا طائر الخِصب والحّبْ/هوايَ على شفتي بسملهْ/أُهلّلُ للرّبْ/أُهلّل للنّار/للحربْ/فليست دموعي وقوعي/وليس فمي كفنًا لدمي"
فأمّا التعبيري فما أكثر ما يتكئ فيه الشّاعر على أدوات الاستفهام وصيغ التّعجب الموحية جميعًا بالمعاناة بضروبها كافّة، كقوله (62):
"حنظلةْ/ما الذي يمكن أنْ أعلمهْ/ويحرقني وهجُهُ في كهوف هواجسي المعتمةْ؟/وأيُّ جحيم يوازي جموحي/ويحملني قبل أن أحملهْ؟/فما أوسع الأمسَ يا حنظلةْ!/وما أضيق الهمسَ يا شاهد الزّمن المهزلةْ!/وما أبخلَ العمر ما أطولَهْ!/وما أقرب الموتَ ما أسهلهْ!"
اللّغة في الديوان بسيطة واضحة ومفعمة بالدّلالات الموحية والصّور النّابضة، التي قد يكون ناجي العلي فيها قناعًا لإبراهيم الخطيب ورفاق سربه من مناضلين ومبدعين ومتلقين وفقراء مسحوقين كان فنان الكاريكاتير يرسم بكلماتهم وأصواتهم.
تتجلّى براعته اللغويّة في توظيف "حركات الإعراب" وبعض مصطلحات النّحو. فمن الأوّل (19):
"تدخلتُ في السّطرِ/في الضمِّ/في الفتحِ/في الكسرِ/في الفاصلةْ"
وما أدّل توظيفه لنائب الفاعل في قوله (25):
"وأنّي اشتعلت لأفضح كلّ ملامحي المخجلةْ"،"وما كنت أيّ انتظار جليدي/يذوب رويدًا/رويدًا/كأيّ مقاوِلْ/ونائب فاعلْ"
وتوظيفه للرّفع والجرّ (55):
"... وحطّم كوب المِدادِ/وراح يسرّح أهدابُه المسبلةْ/فيا أيّهذا الذي يملك الأرضَ/والقبرَ/الذي يملك الرَّفْعَ/والجرَّ/الذي يملك الظّل/والأصلَ/الذي يملك القتلَ/ماذا يظلّ إلينا من الأرض؟/ماذا يظلّ من القبرِ له؟"
ويبدع الشّاعر في الاقتباس من القرآن الكريم اقتباسًا اختلاسيًّا جزئيًّا دالًّا لا كليًّا، كما كان شأن ابن أبي كبّار اليمني في "رسائله" قديمًا، وشأن بعض الشعراء المحدثين من مثل عطاف جانم وعمر أبو الهيجاء، وهما اربديّان؛ والاختلاس لغةً الأخذ في نُهْزة. إنّه لم يقتبس الآية الكريمة "وما قتلوه وما صلبوه ولكنْ شُبّه لهم" (النّساء 157) كلّها، بل اكتفى بالقتل والصّلب اللّذين حوّلهما إلى صيغة "المتكلم" في مقطعين اثنين ووظّفهما توظيفًا فنيًّا دقيقًا:
الأول (20):
"بيني وبيني كلّ الصّلةْ/فما قتلوني/وما صلبوني"
والآخِر (22):
"وأدركتُ أنّي وحدي أُتْقن نسخ دمي/فما قتلوني/وما صلبوني"
واقتبس من الآية الكريمة "وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفْس بالنّفْس والعين بالعين والأنف بالأنف والسِّن بالسِّن والجروح قصاص..." (المائدة 45) اقتباسًا اختلاسيًّا غير حرفي ذا دلالة خاصة؛ وهو "السّن بالعين"!، فقال بتعبيريّة فنيّة مؤثرة (26 و 27):
"اسألوا حنظلةْ: لماذا ابتسامةُ طفلكَ مختزلةْ؟/لماذا الدّموع بوجنة أُمّكَ مرتجلةْ؟/هل السّن بالعين؟/هل النّطق بالشّنق؟/هل السّطر بالقبر؟"
وما أحسن اقتباسه التوظيفي للآية الكريمة "وأنّهم يقولون ما لا يفعلون" (الشعراء 226) كاملة إذ قال (34):
"فكيف أَعِدُّ الضحايا/وأُسْقِطُ منها الذين يقولون/ولا يفعلون؟"
ومثل هذا توظيفه الآية الكريمة "والسّلام عليّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعث حيًّا" (مريم 33) بعد أن كرّر لفظه "سلام" ثلاث مرّات قبلها ومرتين بعدها تكريرًا يشي بالتهاون، والدّعوة إلى الإقدام والمناداة بحريّة التعبير ووقف الرّقابة (48):
"سلامٌ على من تمطّى/سلامٌ على من تخطّى/سلام على شارة النّصر/شاهدة القبرِ/سلامٌ عليّ/أموت وأُبعثُ حيًّا/سلام إلى أن يصير بريد الهوى دون ختمْ/سلام إلى أن يصير حصانُ الكلام بدون لِجامْ"
فأمّا "النّكات البديعيّة"، باصطلاح القدماء، من جناس وطباق فوظّفها إبراهيم توظيفًا خروجيًّا إلى المعنى والحال الشّعريين بعيدًا عن إسار "الزّينة" الذي فشا في أدبنا في غير مرحلة من مراحل مسيرته واتخذته زمر من النّقاد عيارًا فنيًّا نقديًّا، ولو أنّ ناقدنا الفذّ القديم عبد القاهر الجرجاني أدرك وظيفة طوائف البديع المعنويّة (من المعنى) الدّلاليّة منذ ذلك التاريخ.
تأمل، مثلًا، دقة "الجناس" ودلالته في "بناجي" و "ناجِ" والطّباق في "الحلال" و "حرام" (9):
"لا رثاء ولا احتفاء بناجي/أيّ حيّ من اللمّات ناجِ"
"لماذا الحلال عليّ حرام؟/أنا طائر الخصب والحب"
وتأمل، أيضًا، براعة الجمع بين الصور التشخيصيّة وطباق الإيجاب والسلب والتكرار (30):
"اسألوا شمس تموزَ/ليل حزيرانَ!/عمّا يجوز ولا يجوزْ/سئمت الوضوحَ سئمت الرموزْ/اسألوا سارق القمحْ والصّيفِ/اسألوا دمعةً لا تَكِف/وغنّوا على سَعَةِ الدّم والحرفْ/لم يَمُت حنظلة"
ولله درّه باستدعاء مجزرة "صبرا وشاتيلا" مندّدًا بالمواقف المتخاذلة، ومؤكّدًا بالجناس "قمح وقمع" و "رمح وجرح" حتميّة سيرورة النّضال على الرّغم من كلّ العوائق والمصائب والصّعاب والعقبات (40):
"وللشاطئ العربيّْ/ما ظلّ من زوْرقٍ وحبالِ/وحصّةُ من شاتيلا وصبرا/مُعبّأةٍ لكلّ فمٍ أوّلَهْ/أُعلمهم كيف يُشتّق قمحٌ من القمْعِ/رُمحٌ من الجرْحِ"
ناهيك بجمعه بين الجناس والتّشخيص الفائق (42):
"إذنْ فاسْألوني: لماذا أقمتُ قليلًا؟/وكنتُ أُقبِّلُ/ما لستُ أقْبَلُ/أمسح نعْلًا/تثاءَب أيامُه الخالياتُ/أُغنّى له وعليهِ"
وكذا الحال في (52):
"و يا قبرُ... يا قَفْرُ/يا رَحِمَ الموتْ/يا حاملَ المضغةِ الذّابلة"
هذه هي سماتُ ديوان "دم حنظلة" في الموضوع والفنّ. سلامٌ على إبراهيم الخطيب الإنسان والطّبيب والشّاعر، والرّحمة والخلود لناجي العلي، الذي تحمّل، كما يقول إبراهيم "عبء اغترابٍ وعبء انتساب".