ظاهرة الحرية الداخلية (1)

تأليف: ميصْليفْشينْكو أ. غ( 2)
ترجمة: د. حسين جمعة
باحث ومترجم أردني
نواجه باستمرار على امتداد حياتنا كلها شتى الاختيارات، التي تنداح علينا من الخارج، من العالم المحيط بنا، وكذلك من الصوت الذي يجوس بداخلنا. لكن، ما الذي نمنحه الأولوية، ونفضله من هذه الإمكانيات المتنوعة، وكيف نغزو الحالة المتشكلة، وهل تكفي القوى والكفاءات المتوافرة لدينا كي نحزم أمرنا ونقوم بفعل محدّد، وهل ننجز ما هو مرغوب به فعلاً؛ أو بكلمات أخرى، أننا نواجه دوماً اقتضاء فعل الاختيار من بين إمكانيات متنوعة، تتطلب أن نتصرف بهذا الشكل أو ذاك. نحن نقف مراراً في مواجهة مفترق طرق حياتية عدة، وعلينا اختيار إحداها؛ مما يشكل لحظة مفصلية في سيرة حياتنا... اختيار المهنة، الخروج من بيت الوالدين والبدء بحياة مستقلة، اصطفاء رفيقة الدرب وتكوين أسرة، الانضمام إلى إحدى المنظمات الاجتماعية المختلفة، والالتزام بقيم سياسيّة وأخلاقيّة – هذه بعض المراحل المهمّة في دروب حياة الإنسان. من يشق هذه المراحل ويرصفها، وماذا يتمخض عن هذه الاختيارات؟
تحتلُّ الحرية من بين القوى الجوهرية الكامنة في الإنسان المكانة الأبرز، إذ من دونها لا يمكن لأي إنسان أن يحقق الأهداف المأمولة، ويستوفي قدراته وكفاءاته، وأن يتطور كشخصية ماثلة. تكمن الحاجة إلى الحرية في أعماق الإنسان، والحرية ظاهرة فطرية لأيّ شكل من النشاط، وهي منوطة بطبيعة الإنسان كمخلوق، يختار بحرية ما يشاء من المطلوبات المتنوعة المطروحة أمامه. ولا سبيل لنا لاستبعاد مبدأ الاختيار، لأنَّنا إذا تخلينا عن أحدها، فإنَّنا (أردنا أم نرد) نختار غيره، وإذا أقصينا الخيار الثاني سنختار الثالث وهكذا. لا وجود للإنسان ذاته خارج نطاق انتقاء المقاصد والاختيارات، وقد عرّف "لوكاتش" في هذا الصدد الإنسان «كمخلوق اصطفائي». وتتبلور الإنسانية في الإنسان خلال سيرورة استحواذه الواسع على الحرية الروحية، وإمكانية التحقق المستقل لاختيار الموجِّهات والمشاريع الحياتية.
يشيع نشاط الإنسان الحياتي في مجالات مختلفة من حضوره الفردي والمجتمعي: السياسي، الاقتصادي، الروحي، الأخلاقي، الجمالي، الذاتي وما شاكل ذلك. ووفق هذا المعيار من الحرية نعثر على أطر متنوعة، تتبدى في حرية الكلمة، حرية الإبداع، حرية الشخصية، حرية الاصطفاء، وحرية العبادة وغيرها. وبتعابير أخرى، فإنَّ تعدد الأبعاد وتحولات العلاقات المجتمعية منوطة بتنوع تجليات الحرية وأنماطها المختلفة.
وفي الأدبيات الماركسية جرى تحليل إشكالية الحرية، ولزمن طويل، بشكل رئيس وفق المخطط الاجتماعي/التاريخي التعميمي الواسع كتعالق بين الحرية والضرورة في حياة الجمهور العريض على امتداد فترة تاريخية طويلة. ولم يتم بشكل كافٍ تقصّي خصوصية تجلي فعل الحرية لدى الشخصية الفردية بذاتها، الماثلة دوماً أمام ضرورة اتخاذ هذا الخيار أو ذاك. هذه المقاربة النمطية المتشكلة انبثقت عن موقف عام متجذر – التفسير الدغمائي لمادة الفلسفة الاجتماعية الماركسية، بما في ذلك منهج تناغم الفردي مع الاجتماعي. ووفق هذا التفسير للمادية التاريخية يتعين أن يُنظر إلى الإنسان من منظور الشكل «الجماعي» فقط (مجمل العلاقات المجتمعية، عنصر من عناصر قوى الإنتاج، ممثل لهذه الطبقة أو تلك، نتاج أنتروبولوجي، أو ذو أصل اجتماعي). في هذه الحالة يقتصر الأمر بشكل خاص على التواشج العام والعلاقات في المجتمع، التي تبرز السنن الموضوعية للتطور المجتمعي، ومنطق التطور العالمي. أمَّا ما يخص الوعي التصوري لإشكالية الشخصية المنفردة، وحريتها الخاصة، فجرى اعتبارها، بلا أساس موضوعي، على أنَّها مفاهيم خارج إطار مادة الفلسفة الاجتماعية، ولا تنتمي لأي شكل فردي من الكينونة الاجتماعية. بينما الأصل في أنَّ الشخصية هي ذات الحرية وحاملها، ومن غير الصواب الافتراض أنَّ الإنسان في جميع أفعاله قبل أن يختار هذا التوجه أو ذاك الحل، يتعين عليه، وفق النمط النظري السائد، أن يطلع علمياً على مجمل سنن الواقع الموضوعي، وأن صيغة «الحرية كضرورة معلومة» كافية لتفسير أي تجليات لحرية الإنسان، واختياره لهذه الوسيلة أو تلك من وسائل الفعل.
مضمون الشخصية الداخلي – ليس حصيلة مبسطة للتجذر الآلي في الوعي لسنن العالم الموضوعي، وإنَّما هو نتاج العمل الداخلي للشخصية، مضمون العوامل الخارجية في السيرورة العملية لا تعتمد على الوعي، الذي «يتحوصل» ويصبح أداة نشاط الفرد. وبقول آخر، إنَّ ربط حتمية الشخصية بالملابسات الخارجية تتحقق عن طريق ذاتية الإنسان، وليست التفافاً عليها. وفي هذا الفهم تلعب منظومة القيم، وآلية التوجه القيمي للفرد ذاته دوراً مهمّاً في ذلك. تتأسس خلال سيرورة الحياة ونشاط الفرد آلية ما، يتم بفضلها ضمان ارتباطه بالبنى المجتمعية، والتغلب جذرياً على معارضة ما هو فردي ومجتمعي، ذاتي وموضوعي. المبدأ المنهجي للنظر فيما هو فردي ومجتمعي في وحدتهما له أهمية بالغة للتغلب على المحاولات الآلية لذوبان الفرد في المجتمع، وكذلك إغفال مسألة دراسة الإنسان كشخصية وفردية حرة.
إنَّ تحرّي الجانب الأخلاقي/الذاتي لمشكلة حرية الإنسان، الحرية كفعل داخلي للفرد – من أهم واجبات علم الفلسفة المعاصر وفاعليته. وأهمية هذا الطرح ليست في ذاته ولذاته، وإنَّما في سبيل حل المشكلات النظرية والعملية الأخرى، مثل حرية الإبداع، التربية والتربية الذاتية، والكمال الذاتي، والترابط ما بين المصالح الشخصية والمجتمعية، وجدلية الداخل والخارج في نشاط الفرد الحياتي.
عندما أشار "ماركس" إلى تعدد أبعاد حرية الإنسان لم يتوقف عند الجانب الموضوعيّ، بل تعداه إلى الجانب الذاتي: «ينتمي إلى الحرية ليس فقط ما أراه، وإنَّما كيف أراه أيضًا، ليس تلك الحقيقة التي تقول إنَّني أطبّق الحرية، ولكن كيف أصنع ذلك بحرية»(1). يعني بحرية من الداخل وباستقلالية تامة، وليس بالإجبار، ولكن وفق القناعات.
تعتري حياة البشرية في العصر الحديث تبدلات واضحة ترجّ الركائز الجذرية وملابسات الوجود. برزت بكل حدّة قضايا تمس عواقب التقدم العلمي/التقني، ومجاراته لمستوى تطور الفرد الأخلاقي، والتكيف البيولوجي للإنسان مع الظروف المتغيرة للمنظومات الاقتصادية، وحتى مسألة بقاء البشرية ذاتها. إنَّ توحيد المقاييس و«بقرطتها» غير المسبوقة لكل مجالات نشاط الإنسان، وتأثير وسائل الاتصال الجماهيرية والدعاية تشي جميعها بصناعة أشكال أشباه التواصل الجماعي، و«جمهرة» الشخصية. الإحساس بالخوف يجتاح الفرد من جميع الجهات، إذ يستشعر الاغتراب أمام القوى الاجتماعية المجهولة، وعدم الثقة بوجوده، والرعب من خطر الأزمة واشتداد البطالة، وإمكانية خسارة المهنة أو الوظيفة، وكذلك «الأنا» الروحية الخاصة به.
يحظى تتبع الجوانب الذاتية والموضوعية للحرية بأهمية بالغة، حيث يجري في حالة اعتمادها وطابع تفسيرها، استدراج نتائج مختلفة بخصوص إمكانيات كل فرد، وكذلك مستقبل تطوّر البشرية كلها. إذا كانت حرية الفرد وعالمه الداخلي ترتبط بالعوامل الاجتماعية الخارجية، وبفاعلية المادة المتشكلة، فهل من المعقول أن تتماشى حالة حتمية سلوك الإنسان مع الاعتراف بحرية الإرادة؟ كيف يمكن جسر الحالات الخلافية الأخلاقية مع العالم الخارجي؟ وكيف تكون عليه حال آلية الفعل الحر؟
تتجلّى أثناء سيرورة النشاط العملي جدلية بواطن الأفعال الإنسانية وخوارجها. وللتبسيط يجري انتقال الداخلي (الواصفات الذاتية للفرد – الأهداف، المغازي، القلق والقدرات) إلى الخارج (تجسيدها في أشكال متحجرة للمادة وصفاتها) هذا من جانب، ومن جانب آخر انتقال تجسيد صفات المواد الخارجية وجدواها، بحيث يتأثر الإنسان ببعضها في دواخله، وفي مضمون فاعليته في «لحظة الفعل الحي» (ماركس).
تضافر هذه السيرورات المتقاطعة ليس جدلية (باردة) حسب، يتم إنجازها خارج مصالح الفرد الإنسانية/النقية وعالمه الحي. هذه الجدلية تشعلها العوامل الشخصية، التي تمسُّ الأهداف الحياتية للفرد وحاجاته ومصالحه وأحاسيسه وانفعالاته، وسعيه لتحقيق مخططاته ومثاله الأخلاقي، وبهذا يحقّق ذاته كشخصية ماثلة.
لا شك أنَّ العوامل الطبيعية والاجتماعية الخارجية لها دور، وتأثير تكويني على الإنسان، لكن هذا التأثير ليس آلياً، وإنَّما يلوح من خلال تذويته. وهذا يتيح لهذا الفرد أو ذاك إفساح إمكانات أكثر أو أقل للتأثير على العوامل المحتومة، والتحكم بها وإخضاعها لذاته – مستنداً إلى حجم معارفه وعمق تجاربه، وقوة إرادته، وأيضاً يعود إلى طبيعة التعالقات المجتمعية المعطاة. الإنسان الخاضع لتأثير الحاجات الداخلية وتحقيق ذاته يتصرف ويبني ويبدع في هذا السبيل، وهو بذلك يتغلب على نفسه كذاتية مغلقة ذات قيمة مؤثرة. الذاتية – مفهوم جدلي: إنَّه حدٌّ فاصل، ومغالبته وجود يومي، وفي الوقت ذاته – من تخطيط الذات وتشريعها لمستقبلها. يتعرف الفرد عن طريق التغلب على ذاتيته أنَّ قيمته تتلخص ليس في ذاته الخاصة، وفي مجال «الأنا» المستقل، بقدر ما في كينونته ذاتها، وتحقيق هذه الذات في العالم الموضوعي. أمَّا وسائل التحقق فهي العمل والفاعلية المجتمعية والحياة الأخلاقية والإبداعية. لا يعني التغلب الجدلي على الذاتية دمار أو اختفاء هذه الذاتية، وإنَّما الحفاظ عليها على حساب تلبية الوجود الناتج لوجود الفرد نفسه.
ما هي الذاتية الإنسانية، وكيف نؤطرها؟ ما دام موضوع التحديد يستضمر «مادة دقيقة» جدّاً، فمن المنطق استشرافها – وهذه مهمة صعبة للغاية. لنحاول الاقتراب من الحل من جوانب ثلاثة – وظيفي وبنيوي وتأثيلي.
يمكن تحديد المخطط كفاعلية منسقة داخلياً، تتجلى خلال سيرورة إلمام الفرد بالمضمون المعطى من الخارج، وعبر مكابداته ومحاولة مغالبة ذاتيته عن طريق التحقق الذاتي. نورد هنا على سبيل التشبيه تأويل معيار «الروح الذاتية» في فلسفة "هيغل": هذه – روح فردية، ماهية حسية للجسد تتحول أثناء عملية التطور المرحلي إلى وعي، ووعي ذاتي، وعقل ذي إرادة حرة.
وعند النظر في مفهوم الذاتية انطلاقاً من المخطط التأثيلي، فإنَّنا نتوصل إليها كنتاج لشكل خاص من المادة – كشكل اجتماعي، ميزته الذاتية في اختلافها عن المادة الطبيعية، وبأنَّها لا تتحقق بدون وعي، ولهذا فإنَّ الوجود المجتمعي كمجمل علاقات الناس بالطبيعة، والواحد بالآخر تتسم على خلاف الطبيعة الفعلية، بأنَّها ذات طابع ذاتي/موضوعي، وليست مقتصرة على كونها ذات طابع موضوعي فقط. الإنسان كذات ليس إعادة إنتاج ثانوي للكينونة المجتمعية، وإنَّما هو ضرورة لا يمكن من دونها أن يكون هناك وجود مجتمعي. الذاتية الإنسانية تتنامى جراء تداخل العوامل الذاتية والموضوعية، التي تستحوذ على الطابع الذاتي/الموضوعي للواقع الاجتماعي.
أمَّا في نطاق المخطط البنيوي، فإنَّ الذاتية تتمحور في الوعي، الوعي الذاتي، الحساسية والإرادة مع أنَّها لا تقتصر عليها، وتنحصر فيها. وهي تلعب دوراً تكاملياً في تطويع جميع القوى والقدرات الشخصية – الذهنية، الانفعالية، الواعية واللاواعية. كما تمثّل الذاتية كفاعلية منظمة داخلياً، مشكلة كليةً موحدة، وتوجّهاً محدّداً للشخصية. تتجلى فرادة وسيلة الوجود الذاتي – لا في محليتها المكانية، وفي سيرورتها وطاقتها، وإنَّما أيضاً في أشكال التداخل الباطني للنشاط الإنساني – في الإبداع والحرية وما شاكل ذلك(2).
توصف البنى الحكومية والإنتاجية والطبيعية والثقافية وغيرها من علاقات وبنى اجتماعية أخرى في الأدبيات الغربية، لا سيّما من منظور الوجودية كأشكال خارجية خالصة في ارتباطها بالفرد، وفي ابتعادها عن متطلباته الداخلية، ومن غايات التحقق الداخلي. بينما المطلوب ملاحظة أنَّه في حدود ظروف معينة، وخلال عملية التغلب على الاغتراب، وتحول العمل بهذا الشكل أو ذاك إلى حاجة حياتية ماسة للإنسان؛ فإنَّ هذا الخارج «يُستبطن»، ويمرّر كشخصي خاص، كما يستخدم كقوة مخصوصة لإنجاز أهداف الفرد وتلبية حاجاته. وبقدر ما يعي الإنسان ما هو خارج واستيعابه بما يتفق وأهدافه ومصالحه، ويتطابق أيضاً مع ضميره ومثله، فإنَّ ما هو خارج يصبح بالنسبة إليه داخلياً، وجزءاً مكوّناً من نشاطه الاجتماعي التكويني. الداخلي في حراكه منوط بالخارجي، والخارجي «المتحوصل» يصبح لحظة وصل مهمة في نشاط الإنسان الإبداعي وحريته.
أحدى أهم القدرات المبدئية للإنسان كمخلوق عاقل وحر – قدرته على الاختيار، وطرح الأهداف أمامه. والهدف هو مبادرة لوعي النتيجة، التي تتجه أفعال الإنسان للوصول إليها، إنَّه حافزٌ داخليٌّ للنشاط والفاعلية. يمثل الهدف ليس كنتيجة، وإنَّما كأساس للنشاط، يعني كوحدة موحِّدة. ولهذا، فهذه القدرة، وهي تعبّر عن جانب الوعي الفاعل، تخترق الممارسة كقانون داخلي، وتحدِّد وسيلة وطابع أفعال الأفراد. وعند بلوغ الإنسان الهدف الواعي، فإنَّه يُخضع بذلك إرادته. الهدف له علاقة دائماً بالحالة المستقبلية. لكن ليست كل مبادرة عقلية (مثالية) تصبو لنتيجة مستقبلية يمكن أن تسمى هدفاً، وإنَّما يقتصر الأمر على تلك التي تتطابق أولاً مع رغبات الفرد ونواياه، وثانياً التي يمكن تحقيقها بواسطة الأفعال النشطة.
ولما كانت المقاصد – وظيفة الوعي؛ فهذا يدشّن توّاً انطباعاً بأنَّ الإنسان يمكنه طرح أهدافٍ ذاتية خالصة بغض النظر عن أي عوامل موضوعية. في واقع الأمر تكون تلك الأهداف ذات الدلالات لا تتناقض وحقائق العالم الموضوعي.
المقاصد ليست فعلاً حتمياً ذا مغزى واحد، وإنَّما هي خيار واعٍ، وحل على أساس الإمكانيات المتوافرة في الواقع. وعليه، فإنَّ المقاصد مرتبطة بقوة بالحرية والإبداع. اختيار الهدف/فعل إبداعي يُنجز فيه وبه الإنسان حرية الاختيار من بين إمكانات فعلية عدّة، كي يتمكن من إنجاز إحداها في الواقع. الهدف المصطفى من قبل الإنسان بوعي يصبح بالنسبة إليه ضرورة، قانوناً يحدّد وسيلة الأفعال وطبيعتها. وهكذا، تعثر جدلية الحرية والضرورة على تجلياتها.
وفي سيرورة النشاط العملي لبلوغ الغايات تتمحور حرية الفرد في جوانب مختلفة، وتمر بمراحل عدة – من إدراك الذاتي (الداخل) لحريته وإمكانياته، يتصرف الفرد بهذا الشكل أو ذاك، إلى أن يتم التحقق الموضوعي (إذا وجدت الظروف المناسبة). يحظى الإنسان بإمكانيات مبدئية للانتقاء المسبق فكرياً لأهداف نشاطه. إنَّه يملك حرية الاختيار، في شتى الأهداف العشوائية والخيالية، لكن في هذه الحالات تتسم الحرية بطابع وهمي. ويمكن القول إنَّ الأهداف – كقاعدة – تولدها الملابسات الموضوعية في حياة الإنسان، ومقتضيات تحقّقها الذاتي. ولهذا؛ فإنَّ نشاط الفرد المقصود (ذاتي، داخلي) هو في النهاية شكلٌ من أشكال انعكاس العملية الموضوعية في الطبيعة والمجتمع، وفي الفرد ذاته.
في أدبنا الفلسفي نشأ تقليد يحدّد الحرية (كضرورة واعية). ويعود هذا التقليد إلى "سبينوزا" و"هيغل"، ومع أنَّ مؤسسي الماركسية استعملوا الصيغة السابقة، إلا أنَّهم لم يتوقفوا عندها، مشدّدين على أنَّ اللحظة التجديدية لفهم جوهر الحرية، هي مبدأ النشاط العملي وإنجاز الضرورة المعلومة. ومن دون اعتبار هذا المبدأ، فإنَّ تعريف الحرية (كضرورة عالمة) يمكن تفسيرها بروح التصور التأملي. لأنَّه إذا كان الفرد يعي فقط، و«لا يفعل»، فهو في النتيجة يخضع للضرورة ولو بوعي. إنَّه يغدو بالضرورة محكوماً عليه بالسلبية واللاحريّة.
في حالة التفكير في مقولة «الحرية – ضرورة عالمة»، يمكن الاستنتاج أن هذه المقولة لا تستبين جوهر إبراز الحرية، وإنما تثبت فرضيته، يعني أحد شروط «الضرورة العالمة». في الواقع فإن المبادئ المحددة لفهم جوهر الفعل الحر، هي أولاً الاختيار المستقل اللا إجباري وفق القناعات الداخلية ومصالح الفرد، وثانياً – تجنيد الجهود الإرادية الموجهة إلى إنجاز الاختيار المتّخذ.
معرفة الضرورة – إحدى شروط الحرية، ولكنها غير كافية إطلاقاً. في واقع الحياة كثيراً ما يواجه الإنسان حالات يكون فيها الاختيار (حتى ولو ارتكز إلى أساس معرفي، ولاعتبار الضرورة الموضوعية)، لكنه في واقع الأمر، وعند التدقيق يظهر أنه غير حر، وذلك لأنه كان قد اتخذ على مضض، يعني رغم القناعات الداخلية للفرد وضميره ومصالحه الشخصية. حقاً، إن الاختيار الحر – هو اختيار ذو مضمون داخلي، وليس شيئاً خارجاً عن الإنسان وغريباً عنه، وإنما هو يتفق ورغباته الداخلية.
يتلمس الفرد الحرية، قبل كل شيء، كإحساس شخصي، كظاهرة ذاتية، تتلخص في إمكانية اتخاذ القرار المستقل. وفي المراحل التالية تنتقل حرية الاختيار إلى حرية الحلول، ومن ثم إلى حرية الفعل، وحرية الإبداع والتعبير الذاتي. والإنسان عند الانتقاء من بين الإمكانيات المطروحة، والتصرف بهذا الشكل أو ذاك، فإنه ينطلق من داخله، ويحدد مجال نشاطه النظري والعملي وتوجيهه.
يلفت الانتباه في هذا الصدد رأي للينين ذو علاقة مباشرة بموضوعنا. فقد كتب على هامش قراءة له في كتاب "هيغل" (علم المنطق) ما ملخصه: «NB الحرية = الذاتية («أو») الهدف، الوعي، السعي. NB». ما كان يهم "لينين" في هذه الحالة، هو الجانب الذاتي للحرية، الذي يتمظهر في الغايات (التذييت). يعني تلك المرحلة من توسيع نطاق الحرية، التي تتجلى في المقاصد، وفي السعي الواعي للإنسان (الهدف، الوعي، السعي). وقد اعتبر هذه الفكرة في غاية الأهمية، حيث وسمها بإشارة (nota bene)، يعني (مهمة جدّاً وللغاية).
الحديث هنا يدور حول الجانب الأخلاقي الذاتي والنشاط الذاتي للحرية، الحرية كفعل فردي داخلي، كإمكانية للاختيار المستقل لهدف محدد، ووسائل بلوغه، والسعي الواعي لتحقيقه.
الحرية الداخلية – هي اختيار إنساني مخصوص، فاعلية إبداعية للوعي، والحدس واللاوعي، والإرادة، وللقوى الأخلاقية، التي تتجسّد جراء الصراع الداخلي للحوافز لتحقيق الاختيار المستقل، واتخاذ القرار وإنجازه.
المهم هنا ملاحظة أنَّ العالم الداخلي للإنسان، وإمكانية الاختيار الحر والتعبير الذاتي لا تتأدى بالمعرفة المنطقية/العقلانية حسب، وإنَّما بلا عقلانية أيضاً (بشكل صوري/انفعالي وتراسلي وحدسي وما شابه). الحرية ليست دوماً نتيجة للاختيار الموزون عقلياً والمدروس تحليلياً. الحرية في النشاط الحياتي الفعلي هي تجلّ لطيف واسع من ذاتية الإنسان، وفعل كليتّه.. يعني استيعاب للعالم، وجلاء حسي/انفعالي للإرادة.
إحدى صفات حرية الإنسان مقدرته على إدارة ذاته. التعبير عن السيطرة على ذواتنا أنفسنا (انجلز) يجري تفسيره من جانب واحد، من روح اسبينوزا، يعني انطلاقاً من هيمنة العقل على الأحاسيس، كقدرة على كبح الأحاسيس والعواطف، مع أنَّ المهمة ليست في كبح الأحاسيس، وإنَّما في كيفية جعل أحاسيس الإنسان إنسانية حقاً، بما يتماشى وبشكل أوسع، مع طبيعته الاجتماعية الفاعلة، وبما يمكّن الإنسان من أن يحظى على قوة إيجابية لإظهار فرادته الحقيقية، وهو بذلك يحقق حريته أيضاً.
لكن، بأي وجه نستطيع تفعيل طاقات الإنسان الإبداعيّة، ونحرّر قدراته وأحاسيسه؟ الجواب عند الكثيرين جاهز: هذا يتطلب وجود ظروف ملائمة للإنسان، تجعله إنساناً فعلاً. بشكل عام هذا صحيح، إلا أنَّ الحياة تعتاص، وتظهر أنَّ ليس ثمة من ظروف خارجية، مهما كانت مناسبة للإنسان، لا تتمكن بذاتها من تحقيق كفاءاته. هذا الأمر يتطلب السعي الشخصي، والإرادة والانفكاك الداخلي، والحرية الروحية للفرد المتعيِّن. إنَّ التأثير السلبي على الحرية الروحية لكثير من الناس له عواقب خانقة على وعيهم بشتى ضروب تعقيدات الإحساس بالنقص، والتلفيق والأباطيل، وعدم الرغبة في التفكير والفعل المستقل، وأخذ المسؤولية على عاتقه، والسعي إلى إلقائها على عاتق الإدارة أو القيادة أو الجماعة وغيرها. هذه التصورات – بلا شك – تحدّ من إمكانات العلاقة الإبداعية الواعية بالمسألة المطروحة، وبفاعلية الإنسان الروحية وحريته. إنَّ التغلب على اللامبالاة الاجتماعية، والعلاقة السلبية الهشة، والتعويل على الآخرين في الحياة يمكن عن طريق ولوج الإنسان في النشاط المجتمعي الذي يهمّه، وإبراز صفاته الفردية، وتطوير استقلاليته وفرادته. في يقظة الفرد وجرأة المواطن وانتزاع قيوده تكمن أهم كنوز تطوره الأخلاقي، وهذا يصيب المجتمع بأسره ولا يقتصر على الفرد. يجب أن نتعلم تطويع مصادر تطوير الشخصية الاجتماعية والأخلاقية، التي لا تنفد كعوامل ضخمة لتطوير جميع مجالات الكينونة المجتمعية، بما في ذلك الاقتصاد. ويلعب دوراً مهماً في ذلك التدريب الخارجي، وسبل التنظيم الذاتي – النفسي الواعي ووسائل الكمال الجسدي والروحي وغيرها. فبواسطة الانتظام الذاتي النفسي والفيزيولوجي المبرمج، بما في ذلك اللجوء إلى إحدى الحالات الخاصة من حالات الرجيم المنتظم يمكن تقليل عملية تكوين أي عادة. لكن والحق يقال، إنَّه في سبيل البدء بعملية الكمال الذاتي ينبغي التسلح بالإرادة. مع الأسف، لا يوجد لدى الكثير من الناس حاجة إلى تدريب الإرادة، بما في ذلك العمل على مساعدة أنفسهم، مع علمهم بأنَّهم قادرون على ذلك.
نشّطت منجزات العلم المعاصر، لا سيّما الفيزياء والكيمياء وعلم الجينيات والعقاقير الطبية، جهود العلماء لتحرّي ظاهرة حرية إرادة الإنسان بطرق تجاربية، بحيث تتعمق صعوبة دراسة هذا الأمر لأنَّ هذه الظاهرة مرتبطة بشدة بمشكلة الوعي، كما أنَّ أي اجتياح لعالم الشخص الخاضع للتجربة بالاختبار لا يمر بلا تغيير، وإنَّما يستثير لديه حالات نفسية وفيزيائية جديدة.
ولحلِّ مسألة إمكانية التقصي العلمي لحرية إرادة الإنسان، واستخدام مناهج العلم الحديث للتأثير المباشر على الحرية الداخلية ينتشر في أوساط علماء الغرب تصوران، أحدهما يرتكز إلى مبادئ الحتمية الداخلية، والثاني يقوم على مبادئ تفسير الحتمية آلياً. وفق الأول ينبغي استثناء أفعال الإنسان الحرة من مجال الرابطة السببية، بما أنَّها تخضع في اختلافها عن الظواهر الفيزيائية للقوانين السببية والإحصائية، ولا تتأدى ولا تستوفى بالوصف بمساعدة المناهج العلمية.
كما لقيت انتشاراً واسعاً بعض النظريات التي يدرج واضعوها الأفعال الإرادية، واختيار الإنسان لهذا الفعل أو ذاك في علاقة سببية/تحفيزية، لكنَّهم يفسرون هذه العلاقة بشكل آلي، وهم بذلك يتخلون عن إمكانية الانتقاء الحر ذاتها. والمثال النمطي لهذا التفسير مبدأ السلوكية – وهو اتجاه مسيطر في علم النفس الأمريكي المعاصر، الذي لا يعتبر علم النفس وعياً، وإنَّما سلوكاً، كردات فعل على المحفزات. ووفق رأي السلوكيين يستجيب الإنسان آلياً «لإرهاصات» مختلفة من قبل البيئة الاجتماعية؛ لهذا، فإنَّ اختياره المنجز – ليس سوى ردة فعل آلية على تأثير البيئة وفق المخطط المبسّط «حافز – ردة فعل».
بينما شدّد "روبنشتاين" وبحق على أنَّ «التمثل الآلي حول اعتماد أفعال الإنسان على الظروف الخارجية التي بموجبها تتحدّد أفعال الإنسان مباشرة، تفترض خفيةً أن اعتماد الأفعال على الظروف الخارجية تمرُّ عبر الإنسان، هذه الأفعال ذاتها، كما لو أنَّها تمر عبر الفراغ، ما يعني أنَّ الذات تسقط من سلسلة الأحداث، ولا تشاركه في حتميتها»(3). في الواقع أنَّ الإنسان، وبفضل وعيه، يندمج في مجرى الأحداث، ويحدّد بوعي علاقته بالمحيط، ويمكنه أن يتأمل ويطرح مسبقاً أمامه عواقب هذه الأفعال. يُستخلص من هذا الأمر مسؤوليته عن هذا الاختيار أو ذاك، وعن الفعل المكتمل بدون وعي، وبدون كفاءة في اتخاذ موقف محدّد بوعي مع استبعاد وجود الشخصية الإنسانية.
ويرجع للنظريات الآلية التي تحتضن في أساسها فكرة الحتمية الموجهة، محاولة استخدام آخر منجزات علم جينات الإنسان، وبإمكانيات التدخل في آلية الوراثة لتأسيس فكرة لا إنسانية حول الزراعة الاصطناعية لشتى «أجناس» البشر المتماثلين المطيعين – إنَّهم ينتجون بلا حرية داخلية أو أنفة إنسانية، وينفذون رغبات وأوامر أربابهم بعماء.
تجري في أساس مثل هذه التصوّرات محاولات لا شرعية، لإرجاع جميع سيرورات العالم، بما في ذلك الروحية (مثل الوعي والحرية وغيرهما) إلى حتمية الأشياء في الفيزياء المصّغرة. أو كما يقول أتباع هذا التصور إنَّ جهاز الإنسان يتكوّن في نهاية المطاف من ذرات وإلكترونات ونوى ذرية وغيرها من الجزيئيات المصغرة، وهذه تغزو حركاتها وآلياتها أفعال الإنسان، ومجمل تجليات حريته، يعني من حيث المبدأ إمكانية تخليق بشر بتصرفات مناسبة مسبقة عن طريق تغيير مكونات الجينات ووظائفها.
وهكذا، ووفق وجهة النظر هذه، فإنَّ حرية إرادة الإنسان تعتمد على السيرورات الفيزيائية والبيولوجية والمادية الأخرى. وبناءً عليه يمكن وبمساعدة منجزات العلم الحديث كبت إرادة الآخر بهدف خلق منفذين لإرادة أسيادهم بلا تردد. انفتاح مناهج التأثير البيولوجية على حرية الإنسان ووعيه يعني عدم تقييم حوافز النظام الأعلى، ودور ما هو اجتماعي وأخلاقي في بنية الإنسان التي تترسخ استثنائياً في العلاقة بمناهج التأثير الفيزيائي والكيماوي وما شابه على جسم الإنسان. وبقول آخر، إنَّ حرية الإرادة لا تتحدد بالعوامل الطبيعية حسب، بقدر ما تحددها العوامل الاجتماعية والأخلاقية والنفسية وما شابهها.
ظهرت في الآونة الأخيرة في الصحافة أنباء حول استخدام المختصين الناتويين شتى أنواع الأجهزة النفسية لتصنيع وسائل الإدمان لضحايا الخطف بهدف حرمانهم من الذاكرة وإرادة المقاومة، وتحويلهم إلى "روبتات" بلا إرادة، مطيعين بلا احتجاج أثناء الاستجواب. من هذه الوسائل التلاعب بالأعصاب، وتهدئتها بالمنشطات ومخدرات كشف الحقائق وغيرها(4).
في المخطط التصوري يمكن أن تحل مسألة حرية الإرادة على المستوى الفلسفي، ولا تقتصر على المستوى التجريبي الإمبيري. إضافة إلى ذلك فإنَّ دراسة هذه المشكلة بوسائل العلوم الخاصة تقدم مادة للتعميمات الفلسفية. وهكذا، فإنَّ الأبحاث الاختبارية (مناهج الفيزيولوجيا والفيزيولوجيا العصبية) تغرس دوافع اختيار هذا النموذج أو ذاك من السلوك، وهذا يتحدّد في الدرجة الأولى، بالمواصفات الذهنية أو الشخصية للفرد، وليس بالخواص الطبيعية للمنظومة العصبية. ففي اختيار هذا الضرب أو ذاك من التصرف يكون للوعي دورٌ مهمٌّ جداً. ومع ذلك، فإنَّ استقصاء الخواص الطبيعية، والاستجابة الاختيارية للمنظومة العصبية الاحتياجية تقدم مادة اختبارية مهمة لوضع «خريطة» توصيفية للفرد.
وعليه؛ فإنَّ دراسة الجانب البيولوجي لمشكلة إرادة الحرية لها المستقبل. وبهذا الخصوص اكتسبت شهرة واسعة أبحاث الفاعلية البيولوجية، التي أجراها علماء الفيزيولوجيا السوفييت "بيرنشتاين وأنوخين" وغيرهما.
إنَّ إمكانية اتخاذ قرار مستقل، والتصرف وفق ذهنية الفرد يؤدي حتماً إلى مسألة الأسس الأخلاقية لأفعال الإنسان. هل كل شيء مباح للإنسان الذي يملك إرادة الحرية؟ وهل ثمة علاقة ما بين بروز الإرادة الحرة وسلّم القيم الأخلاقية؟
ما يستحق الاهتمام بهذا الخصوص الأفكار التي طرحها "ياسبرز وهايدغر وسارتر"، التي إذا قورنت بتصورات ممثلي الاتجاهات الفلسفية الأخرى، فإنَّها كنزٌ مهمٌ في صياغة إشكالية الحرية الداخلية. لقد طرح الوجوديون مبدأ ينصرف إلى القول بأنَّ حرية الاختيار الحقيقية – الاختيار المنتقى بالتطابق التام مع المصداقية الداخلية للفرد، لا يتناقض والقناعات الداخلية والضمير والنزاهة. هذا المبدأ، لا شكّ، مهم وضروري في تحديد حرية الإنسان الداخلية. إلا أنَّ الوجوديين لم يطرحوا مسألة المعايير الموضوعية للمصداقية الفردية، ويروا أنَّ الاستشهاد بها – حسب رأيهم – يضر بهذه «المصداقية»، كما أنَّ تفسير المصداقية الفردية، كشيء مكثف في ذاته يتناقض مع «الثابت الخارجي».
المعروف أنَّ الاختيار الحر وأفعال الإنسان لها طابع إيجابي أو سلبي مرتبط بمحاولات بلوغ الأهداف بأي ثمن، حتى ولو كان على حساب الآخرين ومصالحهم ودوس كرامتهم والإساءة إليهم. ومن هنا تتكشف مسألة التقييم الأخلاقي لهذا الاختيار أو ذاك. يخدم معيار هذا التقييم في ذاته حقيقة استقلالية الاختيار، والمضمون الموضوعي لهذه التقييمات (سواء الإيجابية أو السلبية) التي تكمن في أساس هذا الاختيار. وبكلمات أخرى، عدم اقتصار درجة مسؤولية الفرد أمام نفسه، وإنَّما أمام الناس الآخرين أيضاً.
إنَّ ظروف الاغتراب، والاضطهاد الاجتماعي وخلخلة شخصية الإنسان تولّد التناقض بين المثل الأخلاقية والواقع، وتتنامى «خبايا السرية» وتكميم الناس، وتتضاعف شتى ألوان تشويه حرية الإنسان الداخلية، وضروب الوهم والاشتباه في «اختيار الذات»، والأشكال المزيفة من تأكيد الذات. النمط الوهمي من الاختيار منوط، في نهاية المطاف، ليس بنزوة الفرد، وإنَّما بملابسات اجتماعية معينة، تحدُّ من عالمه الداخلي غالباً، وتضع حريته في أطر ضيقة من الانعكاسات الذاتية والأوهام على حسابه الخاص. يشعر الإنسان نفسه، وكأنَّه حرٌّ حقاً في تميزه عن وضعه الفعلي في المجتمع، فليس لشخصيته إمكانية للتعبير عن ذاتها. مثل هذا الفرد يحاول العثور على برهان لإمكاناته الإبداعية، في مجال الانعكاس الذاتي. والنتيجة تتشكل شخصية تميز ذاتها عن وضعها الفعلي الحقيقي في الوعي فقط، وتستمتع بفكرة استقلالها الداخلي، والبحث عن علامات ثابتة خادعة لتقييمه لذاته داخل ذاته نفسها.
يتبدى الإنسان غالباً في تعالقاته مع الآخرين («البنية الخارجية») أمام ضرورة حلِّ الإشكاليات الأخلاقية الخلافية الحادة. يعني أنَّه يواجه معضلة: إمَّا أن «يختار ذاته»، أي يدافع عن وجهة نظره، وقناعته وصدقيته، ويدخل في نزاع مع الرأي الخاطئ، وتصرفات الناس الآخرين (وحتى الجماعة)، أو يتكيف مع رأي الآخرين وأفعالهم، ويذوب في الجماعة. من الواضح أنَّ الاختيار الأول يكون تجلياً فعلياً للحرية الروحية، أمَّا الثاني – فهو تجلّ للتكيف والامتثال الذي يكبل فرادة الإنسان، وأصالته وحريته الداخلية.
فهم الحرية كقدرة التفاف على كل ما هو «خارجي»، كإمكانية القول «كلاّ» المؤدية إلى موقف سلبي من «الحرية عن.. »، بينما جدوى الإنسان – السعي إلى تأكيد ذاته الحقيقية، «الحرية لأجل..»؛ فالإنسانُ حرٌّ ليس جراء قوة الرفض والإنكار لهذا أو ذاك، وإنَّما بفعل القوة الإيجابية في إظهار فرادته الحقيقية. هذه «القوة الإيجابية» هي السبب المحرّك لحرية الإنسان الداخلية، حيث «يتدفق التحقّق الذاتي الخاص كضرورة داخلية»(5) - ماركس.
الحرية – قيمة إنسانية عظمى، إلى جانب كونها عبئاً ثقيلاً.. صلباً، وذلك لأنَّ حرية الاختيار، واتخاذ القرارات مرتبطة حتماً بمجازفة مستمرة وبمسؤولية شخصية. أنَّ تكون حراً، يعني أقسى من أن تكون عبداً، متماثلاً ومطيعاً ولا أبالياً. ولهذا، فليس الجميع يصبو أن يكون حراً حقّاً وحقيقة، الجميع يود أن يظهر بأنَّه حر، مفضلاً تقليد وسم الحرية والذوبان في الجمهور.. في الجماعة، كي يحمّل عبء المسؤولية الشخصية على الآخرين. يسجل لياسبرز القول: «الملمح الرئيس لعصرنا، هو أنَّ الجميع متعطشون للحرية، مع أنَّ معظم الناس لا يطيقون الحرية. إنَّهم يسعون إلى الهناك، الذي يتحررون فيه من الحرية، وذلك باسم الحرية»(6).
في ظلِّ ملابسات استمرار الأزمة الاجتماعية والروحية، والبقرطة ووحدة المعايير في جميع مجالات الحياة، واستشعار تطور العواقب الوخيمة للتقدم التقني، يتنامى تهديد جمهرة الثقافة، و«جمهرة» الإنسان، وإفراغ شخصيته والذوبان في الجماعة، وفقدان الاستقلالية الفردية. عندما يجد الفرد نفسه في الجمهور، يتصرف غالباً بما لا يقدم عليه منفرداً، تختطفه حالة النشوة مثل الآخرين. وعليه، تغدو مهمة دراسة «سيكولوجيا الجمهور»، و«تصرف الجماعة» ذات أهمية بالغة.
وفيما يخصُّ هذا الشأن، فإنَّ التوجّه إلى التجربة الوجودية في دراسة ظاهرة الجمهور، وما هو لا شخصي ولا معلوم تحتوي على موعظة ذات أثر واضح، يلاحظ "ياسبرز" وهو يتابع ملامح الجمهور ومواصفاته اندفاعه وتعصبه وتبعيته وعدم ثباته. لا يمكن الإمساك برأيه، مخادع وقصير المدى. يمكن للجمهور أن يدوس على كل شيء لا يطيق الظهور، ويميل إلى تربية الناس كي يتحولوا إلى نمل(7). كما أنَّه يرتبط بالتسويات العامة، وسيطرة البين بين (الوسطية).
يقترب "هايدغر" من هذه المسألة بجذرية أكبر، إذ يعتبر أنَّ التوجه إلى الوسطية والتساهل لا يستكنه في «الجمهور» حسب، وإنَّما في كلِّ حضور مشترك للبشر، وفي الوجود اليومي للإنسان، وهو يتشارك مع الآخرين، وفي سبيل وسم هذه الظاهرة يستخدم "هايدغر" كلمة «Man»، محوّلاً الضمير الألماني «man» مباشرة إلى اسم علم بالحرف الكبير، ويمنحه دلالة «أنطولوجية جذرية». ويقول إنَّ «تواجد الواحد بجانب الآخر يذيب بشكل كامل الوجود المخصوص في وسيلة كينونة الآخرين»(8)، بحيث أنَّ الآخرين يتلاشون في تباينهم وتعيُّنهم. وفي هذا التباين واللاتعيين يوسِّع إل «man» ديكتاتوريته الحقيقية. فنحن نتلذذ ونستمتع كما يستمتع الآخرون، ونقرأ ونتفرج ونطلق الأحكام في الأدب والفن، كما يفعل الآخرون، كما نمتعض كما يمتعض الآخرون». وجراء هيمنة إل «man» في الحياة اليومية يسود الهباء وحب الاستطلاع والمواربة والاشتباه. التعايش مع ال «man» لا يعني كينونة مغلقة لا مبالية للواحد من الآخر، وإنَّما هو ترصد متوتر ومشتبه به للواحد تلو الآخر، الامتثال للسرية المتبادلة. وتحت ستار الواحد للآخر يتخفى الواحد ضد الآخر»(9).
في العهد الستاليني وجمود الوعي الجماهيري تجذرت، ولوقت طويل، فكرة التوازن العام، التي طرحت كأساس للمجتمع الاشتراكي. وقد استحكمت الرقابة الغيورة كي لا يتمكن أحد من الانفلات، وجرى زرع الفكرة الواحدة والمصلحة العبودية، وكبت أصالة الشخصية في كل مكان. جرى حصر الحرية الداخلية في حنايا الروح الغائرة، حتى أنَّ مفهوم الحرية الداخلية اعتبر مشاكسة، ولم يسمح به على صفحات إصدارات الصحف.
وتشقّق عن ذلك نموذج «للإنسان البسيط»(كبرغي) في الآلة المهولة للمنظومة الإدارية البروقراطية.
والآن ونحن في مرحلة إعادة البناء في شتى مجالات الحياة المجتمعية، والتطور الشمولي للعلنية والديمقراطية أضحى العالم الروحي للإنسان في شكل مختلف. نشأ طلب مجتمعي على الشخصية الحرة المبدعة، المبادرة والمجازفة، ونحن لا نحتاج الآن للفرد «ذي البعد الواحد»، وإنما نحن أحوج ما نكون لفرادات منفتحة.
أي إعادة بناء تشرع من إعادة بناء الوعي، والتخلي عن أنماط التفكير الجامدة والممارسة الراكدة، واستنطاق أساليب تفكير جديدة واستخدامها. تطوير ديمقراطية التفكير يعني إجراء الحوارات المكشوفة والشفافة (وليس الموضوعة) للمسائل، وطرح الحلول الجماعية (وليس المغامرة المتسلطة والإدارية المفروضة). وأثناء سيرورة النقاشات والمنافسات الفكرية تتجلّى المبادرات الفردية، حيث تُولّى أهمية خاصة لمسلكية التفكير وأخلاقياته، وللعلاقات البينية في المجتمع – على أساس المبادئ الإنسانية، والأخلاقية والاحترام العام لقيم الإنسان وكرامته، ولأسس العدالة الاجتماعية وأصول الشرف والاستقامة. هذه العلميات كلها، لا شك فيها – وهي تساعد على خلاص الإنسان، وانطلاق حريته الداخلية.
ومع ذلك، فإنَّ الحياة تكشف إلى أي مدى تتجلى صعوبة التخلي عن الأنماط السائرة والمعتقدات المتجذرة، والتحرر من كل أنماط التعقيدات المختلفة. وأفصح عن هذا الأمر اعتراف مذيع «قبل منتصف الليل وبعده» - "مولتشانوف". فقد أجاب على أحد تساؤلات الصحفيين بقوله: «أنا حر بقدر ما أفعل اليوم – من وجهة نظر إدارة المحطة فأنا حر مئة في المئة، أمَّا من وجهة نظري؛ فأنا حر في نطاق 10 – 15 في المئة. لأنَّني سليل مدرسة بريجنيف الصحفية – لدي كابح في دمي وفؤادي وفي كبدي، - وهذا من الصعوبة تطهيره». كما أجاب عن سؤال: هل ثمة من عقد لديه: «بلى، كما هو حال المواطنين الآخرين، عقدة العجز والنقص». «وماذا بعد، دعونا نتخلص من هذه العقد.. » - أشار الصحافيون. دعنا نفكر سويّاً (10).
تطوير الفرادات والشخوص المتحررة داخلياً، وغير معقدة – أحد الشروط الحاسمة في تقدم المجتمع. غالباً ما نستمع لرأي يقول إنَّ أقوى تأثير على الشخصية يأتي من جانب الجماعة، وأنَّ الجماعة على حق دائماً. يتعين علينا أن نتحفظ هنا على أن المقدمات لتطور المواهب الشخصية، والكفاءات تنشأ في نطاق ملابسات جماعية حقيقية. وتشهد الممارسة على أن ليس كل جماعة تكون فعلاً حقيقية. الجماعة تتكون في ظلِّ ظروف معينة، ويرتبط أعضاؤها بالتكافل والتضامن، وهم ليسوا معنيين بإظهار النواقص والعيوب. ونتيجةً لذلك تتشكل أشباه جماعات، وتزدهر مختلف أشكال الذاتية: الرشوة والعلاقة اللاموضوعية للفرد بالآخر، والحسد والديماغوجيا والمحسوبية، والكبرياء الزائفة، وعقدة الذنب وغيرها. الحرية الداخلية تحتاج إلى عقول منفتحة للتعبير، والدفاع عن وجهة النظر، وإبداء المبادرة – كل هذا يُحاك في نطاق الامتثال والتكيف والمداجاة والخنوع لآلية منطق الجماعة.
يهيمن في الجماعة غالباً التوجه إلى المؤشرات الوسطية، ونمط التفكير الوسطي، والفرد الوسطي، وتتهيكل آلية التسويات الوسطية، والواسطات واللامبالاة، التي تجمد تطور منافسة المواهب والعقول، وكبح الحفز والإنجاز. إنَّ مهمة تطوير كفاءات كل عضو في الجماعة غالباً ما تكون من فعله الخاص. ولهذا، تتفتق مسألة الأهمية المبدئية: إلى أي مدى يبلغ اهتمام الجماعة اليوم بالتطور الشمولي للشخصية، وفي اكتشاف قدرات كل واحد وقواه الإبداعيّة؟
وأخطر أشكال أشباه الجماعة – ظاهرة الجمهور فاقد السمات، الذي يخضع فيه العقل للانفعالات والعدوانية العمياء.
في ظلِّ ظروف إعادة البناء المعقدة المعاصرة، فإنَّ التخلي عن النمطية، ووضع أسلوب جديد للتفكير، يضاعف بشكل غير عادي، من أهمية الحاجة إلى «الاختيار الذاتي»، وتعمير المبدأ الخاص المستقل، الذي لا يعتمد على الضغط الخارجي – عن طريق المعرفة الذاتية والتربية الذاتية، والكمال الذاتي والتثبيت الذاتي. تتعرض الشخصية للاحتقان، إذا اكتفت بما ستحصل عليه من معارف وطرق سلوك في المدارس والمعاهد والجمعيات العامة. ماذا تتقبل وكيف تتصرف وتتخذ القرار. فالإنسان يستخدم تجارب الآخرين، ويصنع تجربته الخاصة، وهو مدعو كل يوم أن يقوم بتربية ذاته وتهذيبها، كما أنَّه يكافح الميول والعادات السيئة، ونحن أنفسنا نحتاج إلى الاعتناء بشمولية طبيعتنا، وأن نطرح أمامنا مطلوبات بدون حلول وسط، وبلا صفقات داخلية مع الضمير. وفي سبيل العيش الصحيح، ينبغي تربية الأحاسيس، وتفعيل مبدئية التفكير. علّمنا "تولستوي" بقوله: فكّر جيداً فإنَّ أفكارك تنضج وتتحول إلى أفعال خيّرة. وحول الأهمية الاستثنائية لتربية الحرية الداخلية، وفي الوقت ذاته تربية الإنسان ذي الأخلاق الحميدة، كتب "دوستوييفْسكي": جدْ نفسك في ذاتك، وأخْضع نفسك لنفسك وامتلك ذاتك.
تتشكل في القاموس السياسي المعاصر تحت راية التفكير الجديد، وجراء استخدام كلمة «شفافية»، التي تعني ضرورة ترسيخ علاقات علنية واثقة غير خافية بين الدول. ويمكن القول إنَّ مثل هذه المهمة ليست بأقل أهمية من التطور الداخلي لأي مجتمع تتنامى الحاجة إلى تدشين ظروف ملائمة للتغلب على «السرية» الواعية وغير الواعية، وتكتّم الناس لقيام تعالقات متبادلة، وليقف الناس بجانب بعضهم بعضاً بقلوب منفتحة، وإنجاز أفعال حرة، تختلف عن القواعد «الخارجية» القائمة الآن، وتتفق تماماً بما يرضي الضمير الخاص. في حالة المحافظة على المواصفات الاجتماعية والأخلاقية يتعين أن تكون منوطة ليس فقط بوعي الواجب المجتمعي، أو الخوف من العقاب والإكراه، وإنَّما كحاجة داخلية وقناعة لكل فرد.
وبتعابير أخرى، فإنَّ الحديث يدور حول صياغة علاقات شفافة، تسهّل جلاء حرية الإنسان الداخلية بلا عوائق، وكما أفعاله الحرة، التي لا تتبدى حرة في الظاهرة، وإنَّما تتطابق كلياً مع القناعات الداخلية والضمير، يعني أن تكون- فعلاً- حرة. ففي الصراع مع أشكال الشر متعددة الوجوه يتخلّق ما هو إنساني في الإنسان. عندما ما يستيقظ في الذات وعي «الأنا»، والحس بكرامة الإنسان يبدأ بالتأمل في الهدف من العيش والحياة. «اختيار الإنسان لذاته» بالمعنى الحقيقي – يعني تحديد مغزى حياته بدقة. الحرية الداخلية – وسيلة ذات أهمية قصوى في تحقيق حياة الإنسان الحقيقية.

مراجع البحث:
(1) ماركس، انجلز- المؤلفات الكاملة، المجلد الأول، ص68، (الطبعة الروسية).
(2) باتين إي. ف: «الذاتية الإنسانية» - رستوف – 1984 (بالروسية).
(3) روبنشتاين اس. ل: «الكينونة والوعي»، موسكو – 1957، ص 284 (بالروسية).
(4) انظر: بيتوف أو«المهرجان السينمائي»، الجريدة الأدبية، 1984، اكتوبر.
(5) ماركس، انجلز – المؤلفات، المجلد 42، ص125 (الطبعة الروسية).
(6) Jaspers K. – Freiheit und Autoritat. Luzern, 1951.5.12.
(7) Jaspers K. Die geistige situation der zeit. Berlin, 1947. S. 31 – 33.
(8) Heidegger M. sein und zeit, Halle. 1929.s.126 -127
(9) Pd Ibid.s. 174 – 175.
(10) كومسومولسكايا برافدا، 1989 – 2 ديسمبر.