المثقّفُ.. روحُ عصره!

د. محمّد السعودي
أكاديمي وباحث أردني/ أمين عام مجمع اللغة العربية

لم نكن ندرك ونحن على مقاعد الدراسة الجامعيّة الأولى شيئًا من معنى المسؤولية الثقافيّة حتى دخلنا في عوالم العمل العام، وأدْركنا ما ينتظره المجتمع من المثقف. ولعلّ العنوان الأكبر، في هذه المساحات، ينتظم في تساؤلِ كثيرٍ من الناس: هل استطاع المثقف أنْ يحمل رسالته باقتدار، ويجذب إليه أطياف المجتمع وثقافاته المحليّة أم أصبح أسيرًا لهذا كله؟! وفي موقف آخر، هل استطاع أن يمتلك روح عصره؛ فيجسّد ما يرى الحقيقة فيه من خلال إبداعه وفنّه ورؤاه؟! أعتقد أنَّهما سؤالان فيهما شيء من مكاشفة الذات لا جلدها. فالمثقف المؤثّر اليوم دروبه طويلة في تجاوز القضايا الكبرى، والتزامه مع هذه القضايا بداية التأثّر والتأثير بينه وبين المجتمع، وهي مسؤوليةٌ كبيرةٌ تستنهض روافع جديدة تعلو بمشروعه وتعزّزه.
ولن يبلغ المثقف ما يصبو إليه من تأثير إنْ لم يندمج مع رؤى مجتمعه؛ فيكون محاورًا مخلصًا متبنّيًا لقضاياه وهمومه اليوميّة والوطنيّة وحتى الإنسانيّة العامّة، فلا دور له إنْ تقوقع على نفسه، وكوّن حوله مجموعته التي يأنس بها وتأنس به، لأنَّ مفهوم التأثير يُبنى على التّضحية بما نؤمن به ونسير في دروبه؛ بمعنى أنّ المثقف المؤثِّر لا بدّ أنْ يتجاوز المسائل الفردية، وينشد المصلحة العليا، مصلحة الناس كلّ الناس، وبذلك يكون جزءاً أصيلاً من ضوابط الحياة مثل القانون والعادات والتقاليد وغيرها، وإنْ تنازل إنَّما يتنازل عن حقّه في الوجود.
ولا أستطيع أنْ أتجاوز في هذا المقام الشخصية التي تصدّرت هذا العدد، وأعني الدكتور ناصر الدين الأسد الذي مثّل شخصية المثقف المنتج الحرّ الملتزم بقضايا الأمة وهمومها، وفي الوقت نفسه لم ينس نفسه وأهله وتلاميذه. إنّها شخصيّة جديدة آمنت بالتّوازن منهجًا، فقُدّر المثقف من خلاله، ورُفعت صورته في عيون أهل الفكر والسياسة والإبداع بما قدّم من دراسات عميقة أسهمت في بناء أجيال، كان لها وقْعها في الحركة الأدبية الأردنية والعربيّة؛ فما كان في حركة حياته إلا مدافعًا عن العربية والحثّ عليها، مؤنسًا طيّبًا ودودًا؛ يقدّر العلميّة والصّدق في الباحث، ويرمي إلى الحق بالدّليل والحوار والتأمّل بلغة علمية واثقة، فيها سمو العربية وتطوّرها، ورفعة العربيّ وتواصله؛ فكانت لغته لغة عقل وقلب. ولهذا آمن بالحوار مع الآخر على أن يكون حوارًا هادئاً يخرجنا من ضيق التعصّب والإخلاص غير المبرر للذّات الفرديّة أو الجمعية إلى سعة الحريّات المسؤولة، وفي الوقت نفسه، الحذر من الانزلاق في رؤى لا تمثّل وجودنا. إنَّه حوارُ الواثق المتمسّك بقواعد هذه الأمّة وثوابتها وطموحاتها؛ لذلك ملأ الدنيا، دنيا الأدب والصحافة في خمسينيات القرن الماضي بحواره الهادئ وحجته الثّابتة مع أستاذه طه حسين حول ما ورد في كتابه "في الشّعر الجاهليّ" الصادر عام 1926م من أفكار حول انتحال الشّعر، ظلّت مسيطرةً على مساحات كبيرة في قاعات الدّرس الجامعيّ والصّحافة على مستوى الوطن العربيّ، علمًا أنّ رأيه الذي قدّمه لم يكن ردّة فعل، كما يظنّ بعضهم، بل جاء بعد ثلاثين عامًا من صدور الكتاب، وما كان في خَلده يومئذ، ولا أشكُّ في ذلك، أن يدخل نفسه في طوفان النّقاش حول أصالة الشّعر الجاهليّ وعلاقته ببيئته، بل ما كان في حدسه أن يكون ختمة الحديث فيه على يديه، وتبصير الباحثين في قضايا جديدة لخدمة أصالة هذه الحقبة، وقد تحدّث في مقدمته عن هذا وعن كدّه وحيرته بين جموع الآراء وتعدد مصادرها؛ فجاء البحث جادّاً أصيلاً قدوةً للدّارسين.
وللمثقّف دورٌ محوريٌّ في بناء المستقبل والرّؤى التي تقترب من المجتمعات، وتؤثّر فيها من خلال إبداعه، فيشدّها للجديد من الحياة؛ هدفه من ذلك الفكرة، وقصده التّغيير وعلو التّفكير ونزاهته، ولا بدّ أن يؤمن بمن كان بجوار أفعاله لا أقواله، مستندًا لتراثٍ عريقٍ وواقعٍ يدفعه إلى جمع الجهود وتكثيفها في محاور محدّدة قابلة للتّطبيق والنّجاح في نفوس النّاس قبل مؤسساتها، فما أجمل العقول عندما تبحث عن سبل المعرفة والجدّة في اقتناص النتائج التي تحمي هذا التراث، وتحفّه بقلوبها قبل عقولها مبتعدةً عن العواطف والشّجون، وإنْ وافقت هذه النّتائج الرّوايات المتوارثة أو خالفتها!!
ولهذا كلّه نستطيع القول إنَّ المثقفَ الذي يُحدث حركة فكرية في الأجيال هو المثقف الموجود روحًا وفكرًا، وقد تتعدّد الطرق في هذا غير أنّ الحاكم عليها هو الإيمان بأنَّ العقل هو مركزُ التوجيه في الدّراسات الإنسانيّة ما لم يتضادّ مع ثوابتنا، وإن لم نحصد نتائج تماثل حدّة النّتائج العلميّة؛ إلا أنّها قريبة من واقع الناس وآمالهم؛ ولا أعتقد أنَّ للمثقف دورًا إنْ نأى بنفسه، كما نلمسه اليوم، فالحماسة للنفس والقريب والحبيب مطلب شرعيّ، لا شكّ في ذلك، لكنّ إصلاح المجتمع ودفعه إلى الحياة برؤى جديدة، هو الدّور الحقيقيّ للمثقّف.
وفي هذا العدد من العمق، كما عهدنا مجلة "أفكار"، ما يجسّد شيئًا كبيرًا ممّا نشدته هنا؛ فدروبه كثيرة لكنها جامعة بين المثقف العالِم والنّهوض بالتّراث والحريّات المؤنسة وحوار الثّقافات وعدد من نصوص قد تشفي ظمأنا. وما كان لهذا العدد أن يستوي على سوقه لولا النيّة الطّيبة والعمل الدّؤوب.