شعريّةُ السّيرة الذّهنيّة؛ الأسدُ في مرايا الآخرين

د. هيثم سرحان
أكاديمي وباحث أردني
تتمثّلُ السّيرةُ الذّهنيّةُ الخاصّة بالأسد في نصوص الشّهادات والمذكّرات والسّير الّتي كتبها من اتّصل به في حياته الأكاديميّة، ومواقعه الوظيفيّة الّتي تسنّمها وارتقاها عبر مسيرة حياته الممتدّة.
لم يُعْنَ الأسد بكتابة سيرته الذّاتيّة؛ إيمانًا منه بأنّ ذاته ساكنة في ذوات الجماعة وأصوات الشُّعراء منذ فجر الشِّعر العربيّ . وفي هذا الجانب تتجلّى المُفارقة الحقيقيّة؛ فعلى الرّغم من خصوبة حياة الأسد، وغنى خبراته وتجاربه الذاتيّة والفكريّة، لَم يعدُ ما أورده عن ذاته شذراتٍ سِيريّةً مُتقشّفةً مبثوثةً في حواراتٍ إعلاميّةٍ، فضلًا عن شهادته الذّاتيّة في حفله التّكريميّ في اثنينيَّة الشّيخ عبد المقصود خوجة سنة 2002.
من موارد سيرة الأسد المُهمّة نُصوصُ أعلام الأدب والفكر والثّقافة الّذين عرفوه، ونصوص تلاميذِه الذين اتّصلوا به في الجامعة الأردنيّة، وهي نُصوص تكشفُ عن جوانب مهمّة من سيرته الذّهنيّة الموضوعيّة تُضيءُ بعض ملامح شخصيّته الفكريّة والعمليّة التي استأثرت بالعناية؛ فصاحبُها يُمثّلُ قُطبًا من أقطاب التّأليف والفكر والعمل والإنجاز خلال ستّة عقود، كان فيها الأسد أحدَ أعلام الثّقافة والتّنوير الوطنيّة والعربيّة.
وللقبض على ملامح صورة سِيرة الأسد الذِّهنيّة في مرايا الآخرين، يُمكنُ الإشارة إلى ثلاثة أصوات تُسْهم في إنتاج هذه الصّورة أوردُها تِباعًا:
رمزُ الإرادة والانفتاح:
يُقرِّرُ المفكّر فهمي جدعان في سيرته (طائر التّمّ: حكايات جنى الخُطا والأيّام) أنّ الأسد يُمثّلُ صوت الإرادة والانفتاح. ويورد جدعان حكايةَ استقطابه للعمل في الجامعة الأردنيّة سنة 1963 بعد أنْ وصلت إليه رسالة من عميد كليّة الآداب الأسد، أخبره فيها أنّ أُستاذ الفلسفة في جامعة دمشق الدّكتور عادل العوّا قد رشّحه للعمل الأكاديميّ في الجامعة الأُردنيّة.
ويسوق جدعان جُملة من أحواله العسيرة في باريس حيث انقطعت به سُبل إكمال مشروعه العلميّ، وأنّ رسالة الأسد مثّلت له قارب النّجاة؛ إذ قرّر قبولها وإجابة دعوتها؛ لأنّه كان "في حالة دفاع عن وجوده". ويقترن حضور الأسد في سيرة جدعان بالبناء وتوطين المعرفة وإنزال الباحثين منزلاتهم؛ إذ حرص الأسد على ابتعاث المُعيدين في كليّة الآداب في الجامعة الأردنية لاستكمال دراستهم، والحصول على درجة الدّكتوراه في جامعاتٍ عربيّة وعالميّة مرموقة، وتذليل جميع العقبات التي تعترض طريقهم، مثل: التّوصية إلى مجلس أمناء الجامعة بمَنْح، من يحتاجون، الجنسيةَ الأردنيّة التي كانت المدخل القانونيّ والإداريّ للحصول على منحة الابتعاث. وهو ما وقع مع فهمي جدعان الذي تمكّن من الانتفاع بعوائد الجنسية الأُردنيّة في إتمام الدكتوراه في جامعة السُّوربون، والعودة إلى الجامعة الأردنيّة للمساهمة في بنائها علميًّا وإداريًّا .
إقامة ميزان الاعتدال والنّصفة والعقل هي أبرز مقوّمات الحضور الأسديّ الّذي كان رافضًا مُغالبةَ العصبيّات والإملاءات الخارجيّة الّتي تتعارض مع قيم النّزاهة الأكاديميّة، وتخالف مبادئ البناء المنشود التي أنشأها المؤسِّسون من طليعة أبناء الأردن.
رمزُ التّأسيس والشُّموخ:
يعرضُ المُبدعُ وليد سيف في سيرته (الشّاهد والمشهود: سيرة ومراجعات فكريّة) أبرز ملامح الأسد الذي تعرّف إليه سنة 1966، عند التحاقه طالبًا في قسم اللّغة العربيّة في الجامعة الأردنيّة التي حرص رئيسها الأسد على الارتقاء بسمعتها العلميّة والتعليميّة في وقت وجيز بُعيد نشأتها. لقد حرص الأسد –بوصفه أحد أباء الجامعة المؤسِّسين ورئيسها الأوّل– أنْ يبدأ بالجامعة الأردنيّة "من حيث انتهت الجامعات العربيّة الأُخرى، وأنْ يقتبسوا من تجارب الجامعات الغربيّة المرموقة التي درَس فيها كثيرٌ منهم. فكأنّها وُلدت تامّةً في مستواها التّعليميّ، فكانت أعوامها الأولى عصرها الذّهبيّ" .
رئاسة الأسد الجامعةَ الأردنيّةَ بشّرت بأنْ تكون الجامعة رافعةَ "التّغيير والتّقدّم في المجتمع على الجملة، وأنْ تُعِدَّ قياداتٍ شابّةً في المجالات المختلفة، تكون طليعةَ التّنمية الشّاملة". وقد حرص الأسدُ على إشاعة أجواء التّواصل والرّعاية والتّقدير والاحترام في أوساط مجتمع الجامعة الّتي كان حظّها "أنْ يكونَ مؤسِّسها رجلًا كبيرًا وعالمًا موسوعيّ الثّقافة في اللّغة العربيّة وآدابها". يقول وليد سيف واصفًا الأسد: "وقد أُوتي من سحر البيان ما إنْ تحدّث أطربَ سامعَه حتى كاد أنْ يشغله ببلاغة اللِّسان عن المسألة الّتي جاءه فيها. ولقد رأيتُ من علماء العربيّة وأدبائها من يُجيدُ الكتابةَ، فإذا تحدَّث شفاهًا خيّبَ ظنّك. أمّا الأسد، فلا يكافئ أسلوبَه في الكتابةِ إلاّ أسلوبُه في الكلام. وكانت الفُصحى البليغةُ تجري على لسانه عفوًا دون تكلّف، يزيدُ من جمالها وتأثيرها صوتٌ جهوريٌّ فخمٌ. فإذا أُضيفَ إلى هذا كلِّه قامةٌ منتصبةٌ وسمتٌ مَهيبٌ وحضورٌ آسرٌ، فقد اكتملت له آلة التّأثير" .
اقترانُ الأسد بصيانة التّقاليد والقيم الجامعيّة ذات الطّابع الكونيّ مكَّنَ الجامعة من تحقيق استقلالها في اتّخاذ قراراتها، ومن الصُّمود أمام قُوى الشّدّ العكسيّ. وقد ظلّ الأسد وفيًّا لتلك الرُّوح الجامعة التي أسهمت في حماية استقلال الجامعة. وبالجملة فإنّ الأسد "كان عروبيًّا أصيلًا بدون ضجيج الشِّعارات الثّوريّة الرّنّانة، ومُسلمًا وسطًا مُنافحًا عن تراثه الإسلاميّ وهُويّته الحضاريّة. وأَشهد أنَّه قد برئ بتكوينه الفكريّ ومزاجه الشّخصيّ من أيّة شُبهة من شُبهات التّحيّز الجهويّ أو التّعصّب الدّينيّ والمذهبيّ. فكان الجميعُ عنده سواء، لا يتفاضلون إلاّ بالكفاءة وحُسن الخُلق. فلم يكن غريبًا أنْ يحظى باحترام الجميع ومودّتهم على اختلاف منابتهم وخلفيّاتهم العقديّة والسياسية والاجتماعية" .
رمزُ التّواضع والجَلَد والالتزام بالقانون:
يستحضر النّاقد محمّد شاهين الأسدَ في مقاله (كيف عرفت الأسد؟)، ويُعبّر فيه عن أبرز شمائل الأسد التي استطاع اكتشافها عن كثب إثر عمله مساعدًا له إبّان رئاسة الجامعة الأردنيّة في أواخر السبعينات من القرن المنصرم.
يقف محمّد شاهين على حدث مفصليّ يتمثّل في المظاهرات الطلّابية الّتي اجتاحت الجامعة الأردنيّة في شهر نيسان سنة 1979، ومحاولة الأمن دخول حرم الجامعة، والتّدخّل لفضّ الإضرابات والمظاهرات الطلابيّة. ويرى محمد شاهين أنّ موقف الأسد الهادئ والثّابت مكّن الجامعة من تخطِّي تلك المحنة، وأنّ الأسد خطب في حشود الطَّلبة المتظاهرين أمام مكتبة الجامعة، وطلب منهم عدم الاحتكاك بالشّرطة على مدخل الجامعة، ووعدهم بمخاطبة الأمن لثَنْيِهم عن اقتحام الجامعة والتَّعرُّض للطّلبة المتظاهرين. غير أنّ المفاجأة التي وقعت أنّ الأسد جازف بنفسه بأنْ سار في المساحة التي تتوسط بين الطلبة المتظاهرين ورجال الشرطة، فكان قدره أنْ يتلقّى جسدُه بعض حجارة المتظاهرين الطائشة، وأنْ يستنشق صدرُه الغازات المسيلة للدّموع، فما كاد يصل إلى بوّابة الجامعة الرئيسيّة حتى سقط على الأرض مَغشيًّا عليه.
 


انظر: هيثم سرحان، الكتابة والمحو: بحثُ في السّيرة الموؤودة، جريدة الحياة، العدد 19503، 27/8/2016، ص 14.
فهمي جدعان، طائر التّمّ: حكايات جنى الخُطا والأيام، ط1، الأهليّة للنشر والتوزيع، عمّان، 2021، ص 205 – 211، 307 – 309.
وليد سيف، الشّاهد والمشهود: سيرة ومراجعات فكريّة، ط1، الأهليّة للنشر والتوزيع، عمّان، 2016، ص 143.
نفسه، ص 144.
نفسه، ص 144.