من هو أحمد بن عصمان؟

لمَ وقع تجاهلٌ لأعماله؟ رغم أنَّه أوّل من وقف على الرسم المسندي بتونس، وقدّم لوحاتٍ عدة في رسم البايات...؟
صفاء قنومة
كاتبة وباحثة تونسية
يُعتبر أحمد بن عصمان أحدَ ضباط الجيش الانكشاري، وهو ابن الجنرال عثمان، بدأ بتعلم الرسم في المعسكرات العثمانية ثم بُعث لإيطاليا في النصف الثاني من القرن العشرين، لتعلم الرسم على الطريقة الأكاديمية الكلاسيكية. حيث تخصّص هناك في فنّ "البورتريه" واستفاد من التّقليد الفنّي الإيطالي في المجال الذي يعود إلى عصر النّهضة وتاريخ الفنّ الكلاسيكي. وبعد عودته إلى تونس، أصبح من رسّامي القصر الباياتي، ثم قام برسم صورٍ شخصيّة للكثير من البايات وأفراد حاشيتهم. فكان أوّل من أدخل الرسم المسندي لتونس." بدأ الفنانون التونسيون الأوائل خطواتهم مثل" الهادي الخياشي" وهو التونسي الثاني بعد " أحمد بن عصمان" الذي مارس التجربة التشكيلية."
وحوّل الإرث الأكاديمي من عصر إلى عصر أو من مجالاته الإيطالية إلى موضوعات تونسيّة حميمية مثل الشخوص، وقد كشفت أعماله عن خبرته الواسعة في الرسم التّشخيصي وحذره الكبير في توزيع الإضاءة على المشهد. "فكان أحمد بن عصمان (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) أوّلَ رسامٍ تونسيّ يمارس فنّه طبقًا للتقاليد الغربيّة في مجال الصور الشخصية على الأخص".
لقد استخدم الألوان على القماش حسب القواعد الجماليّة الغربية. وعمل على ترويض حدّة الألوان وتضاربها للتّوصّل إلى حساسيّة ضوئيّة هادئة، مشبعة بالألوان الترابيّة والبنيّة فلا هي بساخنة ولا هي بباردة.
لكن لماذا وقع تجاهل أعمال بن عصمان؟ ولماذا لم يُعترف به كإرثٍ عثمانيّ؟
لا يمكن النّظر إلى تجربة ابن عصمان من خلال المفاهيم الفنيّة السائدة اليوم؛ ففي الزمن الذي ظهر فيه ابن عصمان كان المسعى الوظيفي للرسم هو الأساس؛ فكان جلّ ما يطمح إليه الرسام أن يلتفت إليه البلاط "وقد اختصَّ بعض الرسامين القلائل برسم الوجوه فاحتضنهم بلاط البايات ونذكر منهم الخياشي وابن عصمان ".
و كان يُعتقد آنذاك أنّ الرسم يهب الشخصية المرسومة هيبة مضافةً إلى تلك الهيبة الكامنة في أعماقها، فكان الباي يعتبر الرسم يهب شخصيته قوّة، وغير مسموح للفنان أن يُخرج مزاجيته في العمل. ولم يكن الرسم يعني شيئًا للناس العاديين يومها، فلا يقع تقييم أعمال الفنان كما ساد اليوم لأنَّه في ذلك الحين كان الهدف هو نيل رضا الباي؛ بالتالي كان طموح الفنان جلب انتباه صاحب السلطة بعمله، ولم تكن غاية الفنان إرضاء الجمهور.
لأحمد بن عصمان موروثٌ بصريٌّ كبيرٌ متواجدٌ في المتاحف، لكن لم يتم التحدث عنه والبحث فيه وإفراده الاهتمام اللازم خاصةً وأنَّه أوّل من استعمل الرسم المسندي في تونس.
و يمكننا اعتبار أنَّ هذا الأمر يعود لقلة وعي التونسي بالفن التّشكيلي والثقافي في تلك الفترة، حيث اقتصر الفن على من يملكون المال وارتبط بالسّلطة والنّفوذ واعتُبر دعاية سياسية، كما يمكن أن نرجع هذا الإهمال الكامل لتجربة ابن عصمان إلى أصول الفنان في حدِّ ذاته خاصةً وأنَّه ذو أصول عثمانية فيبدو أن عدم اعتراف التونسي بالإرث العثمانيّ وعدم إعطائه الأهمية الكاملة إنَّما يعود إلى المواجهة التي وقعت بين الأتراك وأوروبا مما جعل التونسي يستجيب للفن الأوروبي ويتغافل عن ما قدمه الأتراك. أو ربما كان ذلك بسبب موقف الدين الإسلامي في تلك الفترة من الرسم والتصوير، جعل الفكر التونسي خاصةً والعربي عمومًا يبتعد عن الفنون والتّصوير ويكتفي بالزخارف والخط والأشكال الهندسية المجردة.
يُعتبر ابن عصمان رسامًا محايدًا، ليس من أسلوبٍ شخصيٍّ يميّز رسوماته، ميزته الوحيدة أنَّه أجاد الرسم حسب القواعد الأكاديمية الكلاسيكية؛ لذلك فإنَّ العودة لأعماله لا تتم إلا لأسباب متحفية، فرسوماته لم تُر على نطاق واسع حيث ظلّت محصورةً في أماكن ضيقة، وكان الحديث صعبًا عن العودة لتلك الرسوم باعتبارها مرجعيةً فنيّة، كما أنَّ اعتماده الأسلوب التقليدي في الرسم لا يستجيب اليوم مع الفن الحديث، وهذا ما قد يكون سبب آخر لعدم التّطرق لأعمال ابن عصمان من قبل الباحثين أو النقاد.
إلى أي مدى بقي ابن عصمان مخلصًا في طريقة رسمه للأسلوب العثماني؟
عرفت المنطقة العربية في فترة ما قبل الإسلام بعدة فنون اشتملت على أسسٍ جماليّة، وهي تؤلف بين الفن الغربيّ عن عصر النهضة الأوربيّ، وعناصر مستقاة من التقاليد العربية الإسلاميّة؛ ومن هذه الفنون يمكن أن نذكر الخط والرقش والفخار والخزف في الشام وبلاد الرافدين و"الزليج ( نوع من الموزاييك/الفسيفساء المنتظم الدقيق) في المغرب، وهو من الفنون الزخرفية الراقية التي انتقلت إلى أوروبا عبر الأندلس. أيضًا؛ رسم الأيقونات الدينية المسيحية ازدهر في مصر ثم باد، والخط العربي" ، والمنمنمات التركية وغيرها.
وانتقلت هذه الفنون لتونس "عن طريق الأتراك قبل ظهور الرسم المسندي "الكولونيالي" الاستعماري، كما صرح بذلك الناقد والمؤرخ "علي اللواتي" .
هذا الفنُّ الذي نعت إنجازاته الناقد "عفيف البهنسي" بالأعمال الشعبية الملونة التي "تمثلت منها القصص الشعبيّة والتاريخيّة الأسطوريّة، والكتابات المزوقة بالرقش والصور".
تأثر به العديد من الفنانين الهواة في تلك الفترة منهم ابن عصمان الذي درس في إيطاليا واتّبع المنهج الأكاديمي وتأثر بالتراث الجمالي العربي وبالرسوم الشعبيّة التي ظهرت في القرن التاسع عشر "فهذه الرسوم الشعبيّة المصوّرة على الزجاج تظهر فيها بشكل جلي آثار الفن الإيطالي والفرنسي والإيراني والتركي، وهي في مجموعها تخدم فكرة دينية شيعيّة الأصل، أو هي تسجيلات خرافية وأساطير متوارثة".
بقيت راسخةً في أسلوب ابن عصمان حتى وإن لم يكن ذلك بشكل واضح، لذلك نجده يرسم حسب الطريقة التقليدية الحرفية، وكان استعماله للألوان والتّسطيح فيه تشابهٌ كبيرٌ مع فنون العمارة والرقش والخزف والسجاد والتجليد والرسم على الزجاج وبقية الصناعات الحرفية، ومع طباعة هذه الأعمال في أواخر فترة حكم العثمانيين على الورق في مطابع تونسية كمطبعة "المنار" وتلوّنها بألوان وطرق خاصة جعلت أغلب هواة الرسم يزداد تأثرهم بها.
لذلك فإنَّ التونسي لم يسعَ جاهدًا لدراسة أعمال ابن عصمان باعتبارها أعمالاً تحاكي الواقع، بل أصبح التونسيّ ومع مرور الزمن وبعد تطوّر الحركة الفنية التشكيلية يبحث ويتحدث عن الوعي الجماعي، وأصبح يَنْحو منحى الفنان الخاص وأسلوبه، ورغم أنَّ المستشرقين قاموا أيضًا برسم الموروث الشعبي البصري إلا أنَّ ذلك كان بطريقة استشراقية استثنائية.
برغم مما حاولنا التطرق إليه في هذا المقال من إشكاليات إلا أنَّ هذه الإشكاليات لم تنته بعد، وفي حاجة للدّراسة والتّمعن أكثر من قبل الباحثين وخاصةً النقاد الذين عايشوا