نوافذ ثقافية

محمّد سلّام جميعان
ثقافة عربية

في حين تنأى دلالة العنوان عن المألوف في كونه يجعل المرأة والقصيدة والحياة في حالة نأي عن الذات، فإنَّ الشاعر تنغرس قصائدُه في جوهر الحياة والقصيدة والمرأة. وبهذا يغدو النأي الأقصى انغماراً لا شعوريّاً في موضع الاقتراب الأدنى.
وتتنوع قصائد هذا الديوان وتبقى مخلصةً لحالة كبرياء النّأي في مدينة الشعر الفاضلة المحاطة بأسوار الحرية التي تحمي الحبَّ الشغوف، حيث فيه تتمركز الأمومة في بؤرة تُترجم عن كلِّ الرغائب والتطلعات، فتشتبك مع غيوم الحلم الشاعريّ المليئة بأسئلة الواقع الصعب، وهو ما يفصح عنه الشجن الذي يسيل في مفردات القصائد ولغتها العذبة، عبر فضاء تخييلي تتعانق فيه لذةُ الألم وألمُ اللَّذة، كما في قصيدة " وجع أربعيني" حيث يبدو فيها اغتراب المكان والزمان.
ويبدو التنويع في الأسلوب البنائي وصوره سمة أنقذت الشاعر من الوقوعِ في أسْرِ تجاربه الشعرية في دواوينه السابقة. ففي هذا الديوان تبدو مكاشفة الذاتِ أشدَّ وضوحاً، فشواهد المعاناة تتبدّى في فضاءات قصائد هذا الديوان على نحو ما يمثّله هذا المقطع:
"أنا شاعرٌ/ يستغيث الصباح/ على ليل هذي الخرائب/ حزينٌ أنا/ غير أنّي/ سيُنبتُني الحبُّ/ من عرقِ المُتعبين".
فالشاعر في مجمل قصائد الديوان يراود الشعر عن نفسه وهو يصارعُ لحظات الإحجام والإقدام بين نأيٍ واقتراب، وكأنَّه في حالة صراعيّة بين الأم والحبيبة، ويبني كل هذا الصراع ببراعة معمارية في إقامة قصيدته على بنية حداثية على مستوى اللغة والصورة.


الدوري- مأساة الدم والرحيل/ إبراهيم الخطيب
يتداخل في هذه الرواية ما هو سيري ذاتي وتاريخي وروائي، وتقدِّم صورة بانورامية لمأساة الشعب الفلسطيني في النكبة الأولى عام 1948، فيكشف عبر استرجاع الماضي تاريخياً لتقلُّبات الجغرافيا/الأرض لنوازع التاريخ المتواطئ منذ العثمانيين وعملهم على قوانين "الطابو" وتسوية الأراضي، ونابليون وتحالفات زعماء الصهيونية العالمية في أوروبا على بسط نفوذهم على فلسطين التاريخية.
وتقف الرواية على بدايات الاستيطان وهجرة يهود الشتات لِتُسْلم الأطراف الدولية دفة الصراع ليكون صراعاً عربياً– إسرائيلياً عبر بنية حكائية تضع القارئ في صلب تاريخ الصراع. ولا تغفل الرواية الوعي دور البرجوازية الفلسطينية وبعض العائلات في التواطؤ مع المشروع الصهيوني في بيوعات الأراضي وإجهاض حركات المقاومة. ويبدو هذا من خلال شخصيتي حسن علّام وأحمد النجار، وتماهي ابنيهما كمال وعلاء. وهاتان الشخصيتان الأخيرتان تمثّلان الدُّوري الأصيل الذي لا يترك وطنه حتى يموت، وهو ما يتعانق دلالياً مع بؤرة العنوان. فهما رمز للجيل الذي يرفض التواطؤ والتضحية بالمكاسب العابرة على حساب الوطن، بما تمتعا به في الرواية من وعي تمثّل في التعليم، ومن خلال عاطفة الحبّ الجياشة التي جمعت كلاً منهما بسامية وبثينة.
وتنبني الرواية على مسارٍ تاريخيّ، وعبر هذا المسار تطوف بالأوضاع الاجتماعية بالمدن والقرى الفلسطينية، والأحوال السياسية في العالم وتأثير مجريات الصراع العالمي وانعكاساته على فلسطين، والطبقية الاجتماعية بين الفئات.
ولجعل الرواية أقرب للواقعية لجأ الكاتب إلى استخدام اللغة العامّيّة الدارجة للتعبير عن النبض الشعبي تجاه المواقف والأحداث، وهي اللغة المساندة بنائياً مع اللغة الوصفيّة في بناء أحداث الرواية.

هذيان ميّت/ زياد أبو لبن
يكاد الموت لا يغيب لحظة عن مصائر الشخوص والأشياء في هذه المجموعة. فالمؤلِّف يميت نفسه عبر عَنوَنة المجموعة "هذيان ميت". والمزاوجة بين الهذيان والموت يتيح للسارد أن يكون خارج عصمة القانون، وهو مراوغة أسلوبية لقول ما هو مسكوت عنه. ففي كل قصة نجد القاصّ مقتصداً في التعبير، لا ينجرُّ وراء الاستطرادات الزائدة في اللغة والبنية، فالنصُّ متماسكٌ لا يزعزعه اللغو الفارغ ولا يقوده حماس الأناشيد.
لقد قال لنا الميت في هذيانه ما لا يقوله الأحياء العقلاء، لا سيّما في قصة (عبث الأحلام)، التي تنطوي على مفارقة سياسية بليغة عندما تحتشد الجموع الغفيرة لاستقبال زعاماتها، ويكون بين هذه الجموع شخصٌ مُعوَّق، وتحت وطأة انتظار الموكب المهيب للزعامات التاريخيّة وتحت صَهد الشمس الحارقة يقف المحتشدون، فيما يكون مرور الموكب من طريق أخرى.
وأوضحُ القصص التي تلخِّص الهمَّ الاجتماعي والسياسي، وتجمع الماضي والحاضر في إهاب واحد قصة (عصف الذكريات) ففيها يعلو الشهيق والتنهّد في حالة من التراسل والتداعي بين ذكرى وذكرى، وجغرافيا وجغرافيا، وتستحيل الأخبار البيضاء إلى أخبار سوداء. وأنا هنا لن أفصِّل القول في مضامين القصص بالكلِّية أو الاختيار منها، لكي لا أفسد على القارئ متعة التلقي. ففي هذه القصص بوحٌ سياسيٌّ واجتماعيٌّ يعرّي الواقع والتباساته في كلِّ أشكالها.


ثقافة عالمية
صلواتُ العندليب / ساروجيني نايدو، ترجمة نزار سرطاوي
بلغةٍ شفيفةٍ ومهارةٍ لغوية يختار المترجم أربعين قصيدة للشاعرة "ساروجيني نايدو" ويبعث فيها حيوية اللغة العربية ويقدّم في شعرها رؤية نقدية يكشف فيها عن عمق موهبة الشاعرة وتجربتها الحياتية، والحرائق الوجدانية المشتعلة في ذاكرتها على الصعيد الأسري، حين وقفت أسرتها في طريق زواجها بدعوى اختيارها شريكاً من غير طائفة البراهمة التي تنتمي لها "ساروجيني". وقد جاء نضالها الاجتماعي حين اشتركت مع "المهاتما غاندي" في نضاله لمواجهة الاستعمار الإنجليزي للهند، فصوّرت في قصائدها السياسية في تلك الفترة عذابات الشعب الهندي وآماله وتطلعاته، بلغةٍ إنجليزية فياضة بالرصانة والعذوبة، تضاهي رصانة لغة الشعراء الإنجليز.
واتّجهت "ساروجيني" –فيما بعد- إلى الكتابة بروح هندية، تسلط الضوء على الحياة اليومية للهنود بكل إيقاعاتها الصاخبة والهادئة، فكشفت عن مهارة شعرية عالية في الإيماء في قصائدها إلى المذاهب والأديان، والمهن والعادات، والمغنين وصيادي الأسماك، وسحرة الثعابين والمتسوّلين، والغجريات الراقصات، بتشكلاتها الطبيعية ونباتاتها وحيواناتها، وغيرها من الموضوعات المليئة بكل ما تدور عليه تجربتها الشعرية في أعمالها الشعرية، وبخاصةً " العتبة الذهبية" و" طائر الزمان" و" الجناح المكسور"، وهي الأعمالُ التي انتقى منها المترجم القصائد الأربعين. ومن أصداء شعرها في قصيدة " المتسوّلون المتجوّلون":
"من طلوع الفجر
ننطلق في تجوالنا، لا نتوقف أبداً
إلى أن يختفي الضوء الودود
الله الله!!
نحن أبناء القدر الذين ولدنا أحراراً
ماذا يهمنا من أمر الثروة والسلطان
أو مجد العظماء؟".