الثقافة ورسالة الدولة

 وَنَحْنُ نحتفلُ في العدد الجديد من مجلّة "أفكار"، مع هيئة تحرير متميِّزة من الزملاء المثقفين والإعلاميّين، بمرور عشرين عامًا على تولّي جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الحكم، ونحن -كذلك- على أعتاب مئويّة الدولة الأردنيّة، فإنّه من الضروريّ تسليط الضّوء على الجانب الثقافي وأهميّته في بناء رسالة الدولة وتطوير القوّة النّاعمة لها داخليًّا وخارجيًّا.

نَجَحَ الأردن -تاريخيًّا- باجتياز منعطفات خطيرة، وعبور أزمات كبرى، وتجاوز عواصف أطاحت بدول راسخة، وتمكَّنَت هذه الدولة (الأردن) التي راهن الجميع على أنَّها مؤقَّتة أو وظيفيّة بأنْ تثبت للجميع ديمومتها ورسوخها وقوّتها، إلى درجة أنْ بدأ بعض المحلِّلين والمثقفين والاستراتيجيّين في العالم يتحدَّثون عن "الاستثناء الأردني" مقارنةً بما يحدث حوله في المنطقة العربيّة.

على الرّغم من كل ذلك، فإنَّ هذه الإنجازات والنَّجاحات لم تنعكس بصورة حقيقيّة وأمينة على صورة الأردن داخليًّا وخارجيًّا، والأغرب أنَّ هذه الدولة قد لُوحِقَت دومًا باتِّهامات داخليًّا وخارجيًّا، نالت من مواقفها ومصداقيّتها، ولم تستطع أنْ تبني رسالة سياسيّة قويّة قادرة على مواجهة الدِّعايات المضادّة، ولا الصورة التي أُريدَ رسمُها لها، والسبب يتمثَّل بعدم اهتمام الدولة بمؤسّساتها ونُخَبِها وسياساتها في بناء الرِّواية الوطنيّة الأردنيّة؛ والمقصود هنا ليس الرواية كـ"مُنتَج"، بل كعمليّة، ترتبط بإعطاء الجانب الثقافي والفني والفكري ما يستحقه من اهتمام ودعم وتقدير كي يصل إلى مرحلة يكون أحد مصادر قوّة الدولة ورسالتها في الداخل والخارج.

لا أريدُ أنْ أجترَّ وأكرِّر شكاوى المثقفين والفنّانين -هنا- ممّا يسمّونه "عقوق الحكومات" لهم، لأنّ حتى الشكوى أصبحت مملّة، طالما أنّه لا توجد أذن منصتة لها، لكن الخطاب هنا هو لكم معشر المثقفين والفنّانين والأدباء والأكاديميّين وجميع العاملين في الحقل الثقافي عمومًا بأنْ تنتفضوا على هذا الواقع، وأنْ تصوغوا خطابًا وطنيًّا حضاريًّا عن أهميّة الثقافة والفنون في السياسات العامة، وأنْ تقدِّموا نقدًا ذاتيًّا لِما آلت إليه الأحوال أوّلًا، وموضوعيًّا ثانيًا للأسباب الأخرى التي أدَّت إلى ضعف المساهمة الثقافيّة في المجال السياسي والاقتصادي والدَّوْر الاجتماعي للمثقفين، ثم تقدِّموا لنا خارطة طريق للمستقبل، لتشكِّلوا معًا قوّة ضاغطة على الحكومات لتعديل رؤيتها وتصوُّراتها تجاه الثقافة والمثقفين.

آنَ الأوان ليكون هنالك مراجعة حقيقيّة وعميقة من قِبَل "أهل الثقافة والفن" لوضعهم ولأدوارهم ومهمّاتهم ومستقبلهم، وأنْ تؤدّي هذه المراجعة إلى تصميم استراتيجيّة وطنيّة لإصلاح الشأن الثقافي العام، بما في ذلك السَّعي نحو اعتراف الدولة بالثقافة كأحد أهم مداميك قوَّتها.

بهذا الصَّدد تعقد وزارة الثقافة الملتقى الوطني بعنوان الاستثمار في الثقافة والفن -الذي يهدف من خلال أوراق حضَّرَتها مجموعات عمل واستعراض دراسات الحالة الأردنيّة بصورة نقديّة، والتعرُّف على التجارب العربيّة والعالميّة في مجال إدارة الشَّأن الثقافي- للوصول إلى بناء تصوُّر واضح في كيفيّة إدماج الإنتاج الفني والثقافي في الدَّخل الوطني، ليكونَ الفنُّ رافدًا للاستثمار والصناعة الإبداعيّة الوطنيّة وبناء الهويّات الجامعة وعاملًا حيويًّا من عوامل النَّهضة والاقتصاد، وليس عبئًا على الحكومات والموازنة.

كيف نصل إلى هذه المرحلة؛ أي إدماج الفن والثقافة بالاستثمار والاقتصاد؟ هذا هو السؤال الذي نطرحه عليكم -معشر المثقفين والفنانين والمفكرين- وعلى أهل الاقتصاد والاستثمار؛ ما هي المراحل والخطوات اللازمة للوصول إلى هذه الأهداف..؟