الإبداعات الإردنية في صناعة الأفلام

الإبداعات الأردنيّة في عالم صناعة الأفلام
أسئلة جريئة حول الذات والعيش المشترك
ناجح حسن
كاتب وناقد سينمائي أردني
abushomer@yahoo.com
جاء تنامي صناعة الأفلام الأردنيّةلينسجم مع ما طرحته الرُّؤى الملكيّة السامية من أفكار ومُبادرات في هذا المجال،انبثق عنهاإنشاء مؤسَّسات تُعنى بهذا الحقل الإبداعي وتنشيطه، والتَّعبير عن الكثير من موضوعاته وقضاياه بحريّة فكريّة وجماليّة مطلقة،مبشِّرة ببراعة صانعيها الشباب،فأزهرت العشرون عامًا الأخيرة من عمر الوطن، جملةً من الأفلام المُلهمة، التي نجحت،على الرّغم من إمكاناتها الإنتاجيّة المحدود.
تَأَثَّثَ المشهد السينمائي الأردني خلال العقدين الفائتين، بأطياف شديدة التنوُّع والجرأة والبساطة من الاشتغالات المتباينة الرُّؤى الفكريّة والأساليب الجماليّة، وصلت إلى شاشات محليّة وعربيّة وعالميّة، ونالت استحسان المشاهدين وثناء النُقّاد، وقطف بعضها جوائز مرموقة.
لم يأتِ تنامي صناعة الأفلام الأردنيّة من فراغ، لكنه جاء لينسجم مع ما طرحته الرُّؤى الملكيّة السامية من أفكار ومُبادرات في هذا المجال،انبثق عنهاإنشاء مؤسَّسات تُعنى بهذا الحقل الإبداعي وتنشيطه، والتَّعبير عن الكثير من موضوعاته وقضاياه بحريّة فكريّة وجماليّة مطلقة، مزنّرة بالمتعة والبهجة، وهو ما بشَّر ببراعة صانعيها الشباب، ومكّنهم من بلورة خطاب إنساني مليء بالتأمُّل في الواقع المعاش وما ينطوي عليه من أسئلة تدور حول دواخل الذات والهموم والآمال الإنسانيّة، في عناق مع تلاوين من الثقافات وأنماط العيش المشترك.
أزهرت العشرون عامًا الأخيرة من عمر الوطن، جملةً من الأفلامالملهمةالتي سيظلّ بعضها عالقًا في الذاكرة، وعلى الرّغم من إمكاناتها الإنتاجيّة المحدودة، إلّا أنَّها نجحت في تصوير وتوثيق وقائع ومصائر أفراد وجماعات، كاشفة في الوقت ذاته، عن مواقف فرح وغبطة وأمل وغضب واضطراب وقسوة وألم، في إصرار على تجسيد أعمال سمعيّة بصريّة مغايرة عن تلك السينما السائدة في الصالات، شدّدت على تقديم خطاب إنساني بليغ قوامه الصورة، في نأي عن ثرثرة الحوارات وفذلكة المشهديّات المجانيّة.
• جماليّات الصحراء
"بديعٌ، راقٍ، وعذب.." هي خلاصة ما أجمع عليه نقّاد السينما بالعالم لحظة عرض الفيلم الروائي الأردني الطويل "ذيب" للمخرج ناجي أبو نوار، الذي شكّل إنجازه لحظة تحوُّل في دنيا صناعة الأفلام الأردنيّة، وجسّد بالصورة قبسًا من الصُّمود والصَّبر والتحدي؛ ما لدى الإنسان العادي في مواجهة أعتى الظروف والتحوُّلات العصيبة، من خلالمغامرة تشويقيّة تتأمّل جماليّات الصحراء، استطاع فيها صُنّاع الفيلم منافسة قامات الفن السابع الرفيعة ،ونال العمل شهرة عربيّة ودوليّة ذائعة الصيت، من النادر أنْيكون قد حققها فيلم سينمائي أردني طيلة ستين عامًا من الزَّمان على ظهور أوَّل فيلم أردني طويل حمل عنوان "صراع في جرش" (1959).
تتلخَّص حكاية فيلم "ذيب" الذي يدور حول مغامرة في البادية الأردنيّة إبان العام 1916، حول الفتى البدوي "ذيب" وشقيقه حسين حيث يتركان مضارب قبيلتهما في رحلة محفوفة بالمخاطر مع بدء الشرارة الأولى للثورة العربيّة الكبرى، حيث تقع على الفتى مسؤوليّات جسام خاصّة عندما يتعلّق الأمر بإصراره على أن يعيش أمام كلّ هذا التطاحن والعنف والقسوة الآتية من الصراعات التي تنشب بين مجموعات من الناس المتنافرين في رؤاهم، فهناك عساكر العثمانيّين والجنود البريطانيّين ورجالات الثورة العربية الكبرى وعصابات قُطّاع الطُّرُق، كل ذلك يسري في مناخات وتضاريس البيئة الصحراويّة الشديدة القسوة.
وظّف أبو نوّار تصويره البديع لوقائع الفيلم داخل فضاءات الصحراء الأردنيّة وتكويناتها، وقدَّمها في جماليّات مليئة بالغموض والتوتُّر والتَّشويق وفطنة التدرُّج في تصعيد الأحداث والتأمُّل في معانيها وأبعادها الإنسانيّة والسياسيّة البليغة. نال فيلم "ذيب" في طور إنتاجه دعمًا لتغطية جزء من تكاليف طاقم العمل، وذلك من خلال برنامج (قطار الأفلام) التابع للهيئة الملكيّة الأردنيّة للأفلام، الذي يرمي إلى خلق فرص عمل للطاقم المحلي والاستثمار في تدريبهم، إلى جانب توفير حافز مالي للمنتجين، كما قدَّمت الهيئة التسهيلات وخدمات الإنتاج اللازمة لتسهيل عمليّة التصوير. قبل سنوات قليلة من إنجاز "ذيب"، كان المخرج أمين مطالقة، يشقّ طريق صناعة الأفلام الأردنيّة بفيلمه الروائي الطويل الأوّل المعنون "كابتن أبو رائد"، وفيه يجري تعقّب أحوال عامل بسيط مُسنّ يعمل في المطار، ويقضي أوقاته في التَّواصل مع أطفال وفتيان حارته؛ يقرأ عليهم الكثير من القصص والحكايا الغريبة عمّا شاهده في أسفاره الماضية قبل أنْ يقرِّر العودة إلى الوطن والاستقرار في بيت كائن في حارة شعبيّة، وفيها يتعرَّف على ظروف الواقع الصَّعب لهؤلاء الفتية، ويأخذ في مشاركتهم بهمومهم والسَّعي إلى انتشالهم من مآزق الانحراف والفقر والجريمة. وكشف المخرج محمود المسّاد عن روعة اشتغالاته البصريّة والدراميّة في ثلاثيّته التسجيليّة "الشاطر حسن"، "إعادة تدوير"، و"هذه صورتي عندما كنتُ ميتًا"، وصولًا إلى فيلمه الروائي الطويل "انشالله استفدت"، حرص فيها على كسر الصَّمت وتأجيج طاقاته الإبداعيّة في توثيق وقائع أحكمت قيودها على مصائر أفراد في مواجهة محيطهم الاجتماعي والسياسي والثقافي والنفسي، تنقَّلَت فيها الأحداث بين ماضٍ قريب وحاضر يمتزج بأمكنة متعدِّدة محمَّلة بنفحة من مخيّلة المخرج الرحبة، أو هي تسير على أعتاب مستقبل لا يتوانى عن طرح أسئلة الضمير ونزعات القِيَم والأخلاق على نحو يرتقي بوجع شخوصه وعذاباتهم الآتية من مشهديّات بصريّة تعبيريّة بليغة.
• مناخات بصريّة
يقحمنا المخرج فادي حداد في فيلمه المسمّى "لمّا ضحكت موناليزا" بمناخات صارخة الجمال، متّشحة بالألوان والتوظيف الفَطِن للَّونين الأسود والأبيض، جعلت من فيلمه أنموذجًا في محاكاة التنوُّع الثقافي في البلد الواحد الذي يضمّ مكوّنات إنسانيّة متعدِّدة، قارَبَها بلغة بصريّة تتماشى تمامًا مع الواقع مدعّمًا بالحنين إلى تلك الفترة الزمنيّة من صناعة الأفلام، يروي من خلالها محطات ومواقف في الحياة اليوميّة مستمدّة عن سِيَر أفراد، في خطوةٍ تكشف علاقته بالميلودراما التي يغلّف بها فيلمه اللافت، وهو ينطوي على مشاعر مكبوتة منحت الفيلم جماليّات استثنائيّة، تنتهج لغة الأداء والموسيقى والتَّشكيل، دون أن يفلت منه ذلك الإحساس والشعور بأصالته في لوحات تروي في جملة من المفارقات والدعابات الآسرة قصة حبّ وعلاقات مضطربة،إلّا أنَّها تتجسَّد دفئًا وحميميّة.
على جبهة الأفلام القصيرة حَضَرَت في فترة العشرين عامًا الأخيرة أفلام نابهة من توقيع المخرجين عبدالسلام الحاج ومحمد رحاحلة، الأوّل بفيلمه التسجيلي "مدينتي"، البديع التكوين من كادر وتفاصيل، والمدروس بثقة وبلاغة حرص فيه على تصوير أهواء شخوصه ومشاعرهم الدفينة، على نحو جعل منه تجربة وجدانيّة فريدة تنغمس في اللّحظة والمكان، لإدانة سلوكيّات مغلّفة بإرث وعادات وقناعات كانت بمثابة الكارثة، في حين صوَّر رحاحلة بفيلمه القصير "سمر"، في استلهام ذكيّ مطَّلِع على تحوُّلات بيئته الصّعبة، حكاية الفتاة سمر؛ابنة أسرة تقطن على أطراف المدينة، رسَمَ عَبْرها لوحة مشهديّة آسرة وهو يتتبَّع الفتاة وهي تتنقل بصعوبة، لتنال تعليمها في مدرسة ببلدة قريبة. صوّر الرحاحلة الرحلة الشاقة للفتاة بمشاعر متدفِّقة تجاه الحاجة إلى الخلق والرّغبة في التعلُّم والإبتكار، كأنه يحاكي تلاوين من الأفكار السائدة، في قراءةٍ واعيةٍ للحقيقة الكامنة في تلك الأماكن النّائية، وما يسود فيها من التصاق بمورث ثقافي ما زال يحكم على تفاصيل العيش اليومي.
هناك الكثير من الاشتغالات السمعيّة البصريّة التي يقف وراءها جيل جديد من صُنّاع الأفلام الذين نجحوا في إثارة الإعجاب والجدل بالكثير من الملتقيات السينمائيّة العربيّة والدوليّة، برزت منها طاقات مخرجين ومخرجات على غرار يحيى العبدالله "الجمعة الأخيرة"، و"توقيت 7 ساعات" لديما عمرو، و"المنعطف" لرفقي عساف، و"17" لوداد شفاقوج،و"طرفة" لماجدة الكباريتي، و"الببغاء" لدارين سلام وأمجد الرشيد، وكلها تزخر بأطياف من الحكايات والقصص التي نكاد نشعر فيها بوطأة التحوُّلات المستلّة من الواقع والذاكرة والهويّة، في عناق مع تطلُّعات وهموم لشرائح متباينة ضمن مكوّنات المجتمع الأردني.
• طاقات شابّة
ليس ثمّة ما هو أجمل من المنحى الذي صُوِّرت فيه تلك الأعمال مجتمعة؛ويتمثل في مصاحبتها لوجود هيئات ومؤسسات أخذت على عاتقها دعم وتمويل صناعة الأفلام، وتنشيط الثقافة السينمائيّة، فضلًا عن تسهيل وصولها إلى عين المتلقي داخل الوطن وخارجه، مثل تلك الجهود التي قدَّمتها: الهيئة الملكيّة الأردنيّة للأفلام والصندوق الأردني لتمويل الأفلام ومؤسسة عبدالحميد شومان وأمانة عمّان الكبرى وصندوق الملك عبدالله الثاني ووزارة الثقافة، بالإضافة إلى العديد من مؤسسات التعليم العالي التي أخذت ترفد المشهد المحلّي بطاقات شابّة متسلِّحة بالمعرفة والتَّأهيل والتَّدريب المنهجي في عالم الأطياف والأحلام.