مقدمة الملف:‏القصة القصيرة والكتابة الجديدة

د. هيثم سكرية

موسيقار وأكاديمي أردني

h_sukkarieh@yahoo.com

 

مع التطوُّر التكنولوجي الهائل، أصبح للأغنية صُنّاع محترفون لا يعتمدون فقط على ‏درايتهم ومعرفتهم بأصول صناعة الموسيقى والغناء، بل يعتمدون بدرجة كبيرة على ‏الوسائل التكنولوجيّة من برامج وتطبيقات جعلت من صناعة الأغاني أمرًا ميسّرًا، ‏الأمر الذي فتح الباب للدُّخلاء على هذا المجال. وفي خضمّ ذلك، تاه المتلقي العربي ‏بين الأنماط الجديدة المحدودة والمتكرِّرة، وراح يخبو ألق الإرث الفني الجميل للجيل ‏السابق.‏

عَبَّرَ الإنسانُ عن مشاعره وأحاسيسه من خلال الغناء الذي يُعتبر أهمّ وسيلة للتعبير ‏الإنساني، وأرقاها على الإطلاق، وأقربها إلى النفس البشريّة؛ إذْ أنها تعبِّر عن ‏العواطف والانفعالات النفسيّة، والغناء هو أقرب الفنون إلى القلب والوجدان لكونه ‏مرتبطًا بالشِّعر الذي يستهوي الإنسان المتذوِّق، فللشِّعر تأثيرٌ أقوى وأجمل إذا ما ارتبط ‏بالألحان والغناء، ولذلك نرى بأنَّ الشعوب بشكل عام، والعربيّة بشكل خاص، ‏ارتبطت بالغناء أكثر من ارتباطها بالموسيقى المجرّدة أو أيّ نمط من الموسيقى الآليّة.‏

ارتبط الغناء بالبيئة وأصبح جزءًا من الثقافة المجتمعيّة للشعوب، وشهد تطوُّرًا كبيرًا ‏عبْر التاريخ إلى أنْ تبلوَرَ إلى أنماط وقوالب ارتبطت بنواحي الحياة المختلفة؛ الأفراح، ‏الأحزان، العمل، السفر، الطقوس... ولكلِّ مجتمع نمط خاص من أنماط الغناء تتجسَّد ‏فيه هويَّته المحليّة المرتبطة بالبيئة، وكان لتطوُّر أنماط الغناء ارتباطٌ وثيقٌ بالثقافة ‏المحليّة التي تعكس الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فسافر الغناء عبْر ‏الأزمان من عصر لآخر وكان مرآةً تحاكي واقعه الإنساني والمعيشي والثقافي، ومن ‏هنا تطوَّر الغناء بتطوُّر الحالة المعيشيّة والمستوى الثقافي للمجتمعات.‏

وإذا نظرنا من نافذة التاريخ على واقع الأغنية العربيّة عبْر العصور نجدها تحظى ‏برعاية خاصة من الملوك والسلاطين، وذلك بسبب ارتباطها (أي الشعر) بالدولة ‏وشؤونها، وترويج فكرة الولاء والانتماء وحُبّ الوطن، كما أنها تُبرِز الجانب الراقي ‏للثقافة عند الملوك والسلاطين الذين يحاولون دائمًا إيجاد مكانةٍ رفيعةٍ لهم بين أهل ‏الثقافة والفن، وبذلك أصبح لفنِّ الغناء دورٌ محوريٌّ وأساسيّ في عكس صورة الثقافة ‏العامة للمجتمع، الأمر الذي أدّى لولادة أنماط الغناء الوطني والسياسي والحربي ‏والديني، بالإضافة إلى استخدام فن الغناء كمادة ترفيهيّة كحاجة مُلحّة للنَّفس البشريّة.‏

أمّا في عصرنا الحاضر، فنجد تغييرًا جذريًا في المشهد، إذْ أنَّ الفن والموسيقى ‏والأغاني أصبحت علمًا يدرَّس في الجامعات والمعاهد، وأصبح لهذا العلم أصوله ‏وقواعده ونظريّاته، وزاد عدد المنشغلين به، الأمر الذي أدّى إلى تطوُّر ملحوظ ‏وابتكار أنماطٍ كثيرة تُرضي جميع الأذواق والثقافات المتنوِّعة، وأصبح لكل مجتمع ‏نمطٌ مميّزٌ له يحمل بين طيّاته هويّته الوطنيّة، وذلك من خلال استخدام عناصر فنيّة ‏تميِّز مجتمع عن آخر. ‏

ومع التطوُّر التكنولوجي الهائل، أصبح للأغنية صُنّاع محترفون لا يعتمدون فقط على ‏درايتهم ومعرفتهم بأصول الصناعة، بل يعتمدون بدرجة كبيرة على الوسائل ‏التكنولوجيّة من برامج وتطبيقات جعلت من صناعة الأغاني أمرًا ميسّرًا، الأمر الذي ‏فتح الباب للدُّخلاء على صناعة الموسيقى والأغاني، فزاد الإنتاج بشكل مهول، ولعبت ‏العولمة دورًا أساسيًّا في تقليص الأنماط إلى نمطٍ سائدٍ أطلق عليه اسم "الأغنية ‏الشبابية"، تعتمد على الألحان السريعة والإيقاعات النابضة بالحياة والجاذبة للشباب، ‏وبذلك امتلأت سماؤنا وفضاؤنا بالموسيقى والأغاني، منها ما هو مقبول، ومنها ما هو ‏مرفوض شكلًا ومضمونًا، منها ما يحمل الهويّة ومنها ما فَقَدَ البوصلة وأصبح تقليدًا ‏ومحاكاة للموسيقى الغربيّة، ولكن ذلك لا يشكِّل هاجسًا عند صانعي الأغاني من ‏شركات ومؤسسات ربحيّة هدفها الأوَّل هو الكسب المادي السريع، بغضّ النَّظر عن ‏المضمون، وفي وسط تلك الأمواج تاه المتلقي العربي الذي انحصرت خياراته ضمن ‏الأنماط المحدودة والمتكرِّرة، وفَقَدَ المُنتَجُ الفنيّ الثمين الذي تمتّع به مَن سبقنا من ‏الأجيال. ‏