الأغنية الأردنيّة بين الأصالة والحداثة

د. هيثم سكرية

موسيقار وأكاديمي أردني

h_sukkarieh@yahoo.com

 

تَعيشُ الأغنية الأردنيّة أزمة حقيقيّة، فهي تائهة بين الهويّة والمعاصرة، وعلى الرّغم ‏من المحاولات العديدة من قِبَل بعض الجهات المعنيّة بالثقافة والفنون لتقديم الأغنية ‏الأردنيّة بشكل ينافس الأغنية العربيّة من خلال المهرجانات والمسابقات الخاصة ‏بالأغنية، إلا أنَّ المسافة ما زالت بعيدة بين الأغنية الأردنيّة والأغنية العربية، لحنًا ‏وبناءً وتوزيعًا وتنفيذًا ونصًّا وإنتاجًا وترويجًا.‏

 

لا يَخفى على أحد بأنَّ الموسيقى بشكل عام والغناء بشكل خاص هو الفن الأكثر جذبًا ‏للمتلقي، وذلك ليس لأهميَّتها ومكانتها فقط، بل لانتشارها ولسهولة الوصول إليها ‏والسماع لها والاستمتاع بها في أيّ وقت ومكان، بالإضافة إلى الحاجة لها في مختلف ‏المناسبات الاجتماعيّة؛ إذ تعبِّر الأغنية عن حالة الفرح والعمل والحماسة وغيرها من ‏الانفعالات النفسيّة للفرد وللمجتمع.‏

ولعلَّ التطوُّر الهائل للتكنولوجيا في أيامنا هذه وانتشار القنوات الإذاعية والتلفزيونية ‏والتطبيقات الخاصة بالموسيقى والأغاني كان له الدَّوْرُ الأساس في انتشار الأغنية ‏على نطاق واسع، إذْ يسمعها الفرد بشكل يومي وفي أيّ وقت يشاء، في المنزل، في ‏العمل، وأثناء قيادة المركبة، وذلك من خلال تطبيقات خاصة بالموسيقى والأغاني أو ‏تطبيقات خاصة ببثّ القنوات من جميع أنحاء العالم أو من خلال مواقع اليوتيوب ‏وغيرها.‏

والأغنية شأنها شأن أيّ منتَج ثقافي يتأثَّر بالتطوُّر التكنولوجي، والذي يلقي بظلاله ‏على ثقافة وسلوك الفرد، فالأغاني التي انتشرت في النصف الثاني من القرن الماضي ‏تختلف تمامًا عن الأغاني في أيامنا هذه، إذْ تميَّزت الأولى بالألحان العريضة ذات ‏الشَّجَن وكذلك عنصر السرعة الذي تميَّز بالبطيء، بالإضافة إلى عنصر التكرار ‏والارتجال، كذلك طول الأغنية التي تراوحت بين 10 دقائق و60 دقيقة، بينما ‏تميَّزت الأغنية المعاصرة بالألحان السريعة المليئة بالإيقاع النابض، وقصر طول ‏الأغنية الذي يتراوح من 3- 5 دقائق، وهو زمن يكاد لا يكفي لمقدِّمة الأغنية القديمة.‏

كيف لا وهي تعبِّر عن نبض الحياة الواقعيّة وإيقاعها السريع؟ فزمن الأجداد الذي تميّز ‏بالحركة البطيئة في التنقلات والتواصل والاتصال يختلف كليًا عن زمننا الذي يتميّز ‏بالسرعة الفائقة، إذ يمكن للفرد إرسال رسالة مليئة بالمعلومات والصور والفيديوهات ‏والرسالة الصوتية أيضًا بزمن لا يتجاوز الثانية، فكيف لهذا الجيل أن يستمع لأغنية ‏مدّتها ساعة؟ ‏

كما تُعتبر الأغنيةُ مرآةً للمجتمع من خلال التعبير عن الحالة العامة له، سياسيًّا، ‏اقتصاديًّا، اجتماعيًا، ولكل مجتمع نمطٌ غنائيٌّ يعبِّر عن هويته وشخصيته، والذي ‏ارتبط بموروثه الشعبي الذي انتقل وتطوَّر عبْر الأجيال.‏

وفي الحديث عن الأغنية الأردنيّة بشكل خاص، فهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالموروث ‏الشعبي، إذ يتم استخدام الألحان الشعبية من الموروث كمادة خام لبناء ألحان جديدة ‏تحاكيها وتقلّدها لدرجة كبيرة تكاد تماثل وتطابق الأصل، وهذا يعتبر أمرًا جيدًا من ‏ناحية المحافظة على الهوية الأردنيّة، ولكنه قد يكون السبب في انحصار الأغنية ‏الأردنيّة في نمطٍ واحدٍ متكررٍ يحول دون نجاح باقي الأنماط، كالأغنية الشبابيّة، ‏الطربيّة، القصيدة، الدينية...إلخ.‏

ومع وجود العديد من المحاولات من قِبَل المبدعين الأردنيين من صنّاع الأغنية في ‏تطوير الأغنية بهدف انتشارها على نطاق أوسع، إلّا أَّن هذه المحاولات غالبًا ما تبوء ‏بالفشل، بسبب انحصار الأغنية في النمط الشعبي الأردني الذي يستهوي الأردنيين ‏أكثر من باقي المجتمعات العربيّة، وبالتأكيد المجتمعات الغربيّة.‏

وعلى الرّغم من المحاولات العديدة من قبل بعض الجهات المعنية بالثقافة والفنون ‏لتقديم الأغنية الأردنيّة بشكل ينافس الأغنية العربيّة من خلال المهرجانات والمسابقات ‏الخاصة بالأغنية، إلا أنَّ المسافة ما زالت بعيدة بين الأغنية الأردنيّة والأغنية العربية، ‏لحنًا وبناءً وتوزيعًا وتنفيذًا ونصًّا وإنتاجًا وترويجًا، فأين الخلل؟

فلو ناقشنا جميع العناصر السابقة لتبين لنا أسباب هذا الفشل:‏

عنصر اللحن: ‏

ما تزال الأغنية الأردنيّة تحاكي الأغنية الشعبية في نمطها المحدود، والذي يستهوي ‏المتذوّق الأردني فقط، وبذلك فهي تائهة في بحر الإنتاج العربي الضخم الذي يضخُّ ‏أمواجًا هائلة من الأغاني بشكل شبه يومي، الأمر الذي يُخرج الأغنية الأردنيّة من ‏دائرة المنافسة العربية. ‏

عنصر البناء: ‏

تُبنى الأغنية الأردنيّة على أسلوب التنويع للَّحن الشعبي، وبأساليب بدائيّة تجعلها أسيرة ‏اللحن الشعبي، حتى وإنْ قام صانع الأغنية بابتكار ألحانٍ جديدة إلا أنها محصورة في ‏رحم الموروث، وإذا ما قام بابتكار ألحانٍ بعيدة عن موروثه فغالبًا ما تكون تقليدًا ‏حرفيًّا لأغنية عربيّة معروفة، الأمر الذي يبعدها عن مسار المنافسة العربية.‏

عنصر التوزيع الموسيقي: ‏

ويُعتبر العنصر الأهم في إنتاج الأغنية، وهو إخراج اللحن الأساس في شكله النهائي ‏من حيث ابتكار ألحانٍ متماشية مع اللحن الأساس، وكذلك إضافة عنصر الهارموني ‏‏(وهو تجانس الأصوات والنغمات بشكل عمودي) وهو العنصر المسؤول عن إثراء ‏اللحن وجعله جاذبًا للمتلقي، ولهذا العنصر أسس وقواعد يتم تدريسها في المعاهد ‏والجامعات المتخصصة، ولعلَّ أكثر المشغولين في التوزيع الموسيقي في المشهد ‏الأردني هم من الهواة، وإن كان أحدهم من المتخصصين إلا أنه يتجه إلى عنصر ‏التقليد، إذ يقوم بتوزيع الأغنية بأسلوب يحاكي إحدى الأغاني المنشرة، متأملًا بذلك ‏انتشار عمله كتلك الأغنية المشهورة التي يقلّدها، ويقوم بعملية التوزيع بأسلوب التقليد ‏الأعمى، متناسيًا أنَّ لكل أغنية نمطها الخاص الذي يتماشى مع أسلوب توزيع يختلف ‏عن الآخر.‏

كما أنَّ عملية التوزيع الموسيقي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالتكنولوجيا الحديثة، من حيث ‏استخدام البرامج الخاصة بالتسجيل، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للهواة بالقيام ‏بهذه العملية التي يعتبرونها عملية سهلة وبسيطة، فالتراكيب الهارمونية والإيقاعية ‏والأصوات المختلفة متوفرة في تلك البرامج، ولا تحتاج لجهدٍ أو إبداعٍ لاستخدامها ‏واستغلالها في عملية التوزيع، وأصبحت أشبه بلعبة الـ"ليغو" التي تعتمد على تركيب ‏مجموعة من الأشكال للحصول على ناتج جديد، وهذا ما جعل من عملية التوزيع ‏الموسيقي أمرًا متاحًا لغير المتخصصين في التأليف والتوزيع، ما أدّى إلى ضعف ‏الناتج الإبداعي. ‏

عنصر التنفيذ: ‏

عملية التنفيذ هي كعملية تحويل النص الأدبي إلى عمل درامي يؤديه الممثلون، إذْ يقوم ‏المنفِّذ (وهو في الغالب الشخص الذي يقوم بعملية التوزيع) يقوم بعملية تسجيل الأغنية ‏في الأستوديو من خلال العازفين مستغلًا تقنيات التسجيل المتقدّمة والمتطوّرة، وهي ‏عملية مرتبطة بالإنتاج، أي بعملية التمويل، وهي في الغالب محدودة في الأردن ‏وشحيحة، الأمر الذي ينعكس سلبًا على المستوى العام للعمل، وعلى الرغم من وجود ‏إنتاج سخي في بعض الأحيان، إلا أنَّ هذه المبالغ لا تنعكس على العناصر الفنية ‏للأغنية، إذ تذهب كأجور ومكافآت للعاملين عليها، كما أنَّ لعملية التنفيذ متطلبات فنية ‏وأجهزة صوتية وتقنية وعزل تحتاج إلى دراسة علمية وأكاديمية في علم الصوتيات، ‏وهو ما لا نراه في المشهد الأردني، إذ أنَّ كل مَن وجد في نفسه القدرة الماديّة لعمل ‏أستوديو تسجيل قام بذلك على الفور، الأمر الذي انعكس سلبًا على المستوى الفني ‏لعملية التنفيذ والمكساج والماسترينج.‏

عنصر النص: ‏

يعتبر النص هو نقطة البداية والانطلاق لابتكار الأغنية، وتكمن مشكلة الأغنية ‏الأردنيّة بارتباط النص في المؤسسات المنتجة، ومن هنا كان سبب انتشار ما يسمى ‏‏"الأغنية الوطنية"، إذ ارتبطت الأغنية بالمؤسسة المنتجة للعمل، وعلى الرغم من ‏أهميّتها وجمالها إلا أنها محدودة ومحليّة، لا تهتمّ بها أيّ قناة فضائيّة عربيّة أو عالميّة ‏متخصصة في الموسيقى والأغاني، كما أنَّ المشهد الموسيقي الأردني فقير بالنصوص ‏والشعر الغنائي الذي يتناول موضوعات اجتماعية وعاطفية مغايرة للأغنية الأردنيّة ‏السائدة. ‏

عنصر الإنتاج: ‏

من أهم عناصر الأغنية هو وجود إنتاج يضمن إخراجها بشكل احترافي له القدرة على ‏المنافسة العربية، وهو عنصر مرتبط بالتنفيذ كما أشرتُ سابقًا، والمشكلة تكمن في ‏عدم وجود شركات إنتاج أردنيّة؛ فبينما تتنافس العديد من شركات الإنتاج في الوطن ‏العربي على الاستثمار في الأغنية والفنان المحلي والعربي، فإنَّ الإنتاج في المشهد ‏الأردني ينحصر بالمؤسسات الوطنية أو بعض المؤسسات الخاصة على نطاق ضيِّق، ‏وغالبًا ما يقوم الفنان بإنتاج عمله، الأمر الذي ينعكس سلبًا على المستوى العام للمُنتَج.‏

عنصر الترويج: ‏

ويرتبط بشكل أساس بالقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي وموقع اليوتيوب ‏والتطبيقات الخاصة بالموسيقى والغناء، وفي هذا المجال لا وجود ملموس للأغنية ‏الأردنيّة، وذلك عطفًا على جميع الأسباب السابقة، وخصوصًا غياب شركات الإنتاج ‏وصناعة النجم، والتي تتكفّل بدورها في الترويج للعمل الفني بهدف الاستثمار.‏

ومن المعروف أنَّ تلك الأسباب مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعضها ببعض، ولا يمكن حل ‏أحدها بمعزل عن باقي الأسباب، فعلاقتها أشبه بعلاقة الأواني المستطرقة التي تتكافأ ‏في مستواها بغضّ النَّظر عن طولها وعرضها.‏

من هنا نجد أنَّ الأغنية الأردنيّة تعيش أزمة حقيقيّة، فهي تائهة بين الهوية ‏والمعاصرة، وتحتاج لتكاتف الجميع من أجل الخروج من بوتقة الموروث الشعبي، ‏كما تحتاج لمن يؤمن بأهمية الإنتاج والتسويق بهدف الاستثمار، وتحتاج إلى مَن يؤْمِن ‏بأهميّة الفنون بشكل عام والأغاني بشكل خاص في تهذيب السلوك المجتمي ومحاربة ‏التطرف والإرهاب والأفكار المسمومة، كما تحتاج إلى الاهتمام من قِبَل الجهات ‏الرسميّة المعنيّة بالشأن الثقافي من أجل ترويج وتسويق المنتج الفني الأردني من خلال ‏المشاركات والمهرجانات العربية والعالمية. ‏