إنتاج الأغنية الأردنيّة بين التغني بالماضي وفوضى الإنتاج الحديث

د. محمد واصف

موسيقار وأكاديمي أردني

abu_wasef2005@yahoo.com

 

طغى التفكير بالمكاسب على الفن واحتياجات الوطن والشعب، فتاهت أغنيتنا وتخبَّطت، ‏وتاهت أرواحنا معها. فأصبح الأهم عند مَن يحصل على الدعم المالي لإنتاج أغنية أو ‏أكثر، توفير أكبر نسبة ممكنة من منحة الإنتاج، فبخلوا على هذه الأغاني وعادوا إلى ‏الموروث فأفقدوه طعمه، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه. ‏

 

الغناءُ ظاهرة إنسانية اجتماعية، يقوم بدور أساسي في تهذيب الذوق والأخلاق، وهو ‏شيء فطري، فقد قلّد الإنسان ما حوله من أصوات، ثم ابتكر الآلة الموسيقية التي صنعها، ‏ولكن لا بدَّ من وضع حدود تراعي الغناء وما يتَّصل به من موسيقى. ويظن بعضهم أنَّ ‏الموسيقى تأتي مجرَّد وسيلة لقضاء أوقات الفراغ في الترويح عن النفس والاستمتاع ‏بحالة الطرب أو النشوة التي تُحدثها في النفوس. والواقع أنَّ للموسيقى وظائفَ اجتماعيّة ‏أخرى قلّما نلمس أثرها في مجتمعاتنا المعاصرة. ونحن ندَّعي التقدُّم والتحضُّر فإنَّ ‏مؤسساتنا -بما فيها الأكاديمية أو المعنية بالفعل الثقافي والتنموي- تنظر إلى الموسيقى أنَّها ‏ترفٌ وليست حاجة. وفي كل مرّة نتحدَّث فيها عن موسيقانا أو أغنيتنا في الوقت الراهن، ‏فإنَّ الحديث يذهبُ فورًا إلى التغنّي بالماضي، والحديث عن موروثنا الغنائي. مع أنه، إلى ‏جانب أغنيتنا الحديثة أيضًا، بحاجة ماسّة إلى أن يكون موضع عناية كبيرة في دراساتنا ‏وندواتنا ومؤتمراتنا ومقالاتنا، ونحن نتصدّى لثقافة أصبحت كالسرطان في إنتاج نمط ‏واحد من الأغنية الأردنيّة. ليس فقط لأنَّ موروثنا حمل قيمًا فنيّة وجماليّة خالصة، أو ‏أبعادًا فلسفية عريضة، وإنَّما لأنَّ أغانيه موجودة دائما تلعبُ دورًا مهمًّا في مجتمعاتنا، ‏لغياب إنتاج الأغنية الأردنيّة الجديدة المتجددة. لكن، علينا أن نعلم أنه ليس أضرّ على ‏شعب -في موقفه الحضاري والثقافي والفني- من أنْ يحاكي مرحلة فنيّة سابقة، وأنْ يظلَّ ‏يُعيد ويُكرِّر تلك الموسيقى والأغاني في محاكاة حرفيّة إلى مالا نهاية، ذلك لأنَّ صميم ‏الحياة وتجدُّدها يكمن في إبداعها الجديد الذي لا بدَّ وأن يساير متطلّبات العصر والتقدُّم ‏الفكري والحضاري. ‏

وعند الحديث عن إنتاج الأغنية الأردنيّة، علينا الحديث بدايةً عن عملية إعادة إنتاج أغاني ‏موروثنا أو أغاني روّاد الأغنية الأردنيّة الذين حلّقوا بها في الأفق العربي، بواسطة ‏مطربين جُدُد. هذه العملية التي أثارت حالة من الجدل بين الموسيقيين أوّلًا، وفي صفوف ‏الجماهير ثانيًا. فعلى الرغم من تباين الآراء وتقييمات الجماهير حول أداء المغنيين الجُدُد ‏لهذه الأغاني ووضعهم في موقف مقارن مع ألمع نجوم الأغنية الأردنيّة في أواسط القرن ‏الماضي، الذين قدّموها بصدق الأرض، وعفويّة تفاصيل الحياة آنذاك، وبساطة أدوات ‏الإنتاج؛ إلا أنَّ ذلك وللأسف أصبح مبرّرًا عند بعضهم، فهناك العديد من الدوافع التي يلجأ ‏إليها المغني في بلدنا لإعادة إنتاج أغانينا القديمة، وأبرزها غياب الإنتاج الجاد المدروس ‏لأغنية أردنيّة اجتماعية ومجتمعية وعاطفية، أو أغنية وطنية راقية تليق بالوطن وأهله. ‏وإن تم ذلك، فلا تجد هذه الأغاني مساحةً في البثّ الإذاعي والتلفزيوني المحلي، حتى ‏تكون قادرة بعد ذلك على الخروج خارج أسوار الوطن. ‏

ولا تتعجبوا إذا قلنا إنَّ مَن يتحكَّم في ما يُبثّ من أغانٍ على أغلب إذاعاتنا منذ أكثر من ‏عشرين عامًا هم ليسوا أردنيين، ولا يعلمون شيئًا عن أغانينا وسماتها. وفي كثير من ‏الأحيان تطلب بعض هذه الإذاعات وفنيوها أجرًا مقابل بثّ الأغاني الأردنيّة ولفترات ‏محدّدة!!‏

ولو سألنا أنفسنا: كيف نجحت أغنيتنا في خمسينات وستينات القرن الماضي في ملامسة ‏وجدان المواطن، ومحاكاة تفاصيل حياته اليومية، وتغنّى بها العديد من المطربين ‏والمطربات العرب؟

بعدما تمَّ تكليف هزاع المجالي بتشكيل الحكومة، ذهب إلى مكتب مجاور في الديوان، ‏وتحدث مع موظف برقيّات اللاسلكي في وزارة الخارجية، وقال له: "ابعث البرقية التالية ‏للسكرتير في سفارتنا بطهران (وصفي التل)"، ونص البرقيّة: "يد في الكتاب ورجل في ‏الركاب"، وكان أوّل قرار لحكومة هزاع المجالي تعيين وصفي مديرًا للإذاعة الأردنيّة. ‏وكانا -رحمهما الله- يقفان على كل صغيرة وكبيرة تعنى بالأغنية الأردنيّة التي ستُبث ‏للشعب، لدرجة حضورهما تسجيل العديد من الأغاني في استوديوهات الإذاعة. ‏

تتشابه الظروف المحلية والإقليمية والتحديات السياسية والاقتصادية آنذاك مع التي تواجه ‏الوطن في الوقت الراهن، لكن الوعي السياسي والوطني والثقافي لأهمية الأغنية ورقيّ ‏مضمونها وتنفيذها وأدائها ساهم مساهمة مباشرة بوصول أغنيتنا إلى أبعد مدى، ودورها ‏في الإجابة عن العديد من الأسئلة التي كانت تراود الشعب آنذاك. ‏

فهل تعي الحكومة ومؤسساتها ورجالاتها وأجنحتها الثقافية والإعلامية في أيامنا هذه ‏أهمية الاهتمام بالفعل الموسيقي وإنتاج أغنية أردنيّة راقية تليق بالوطن وأهله، ومنح ‏شبابنا الواعد صاحب الطاقات والقدرات الفنية المميزة الدعم والفضاءات الصادقة لعرض ‏منجزهم؟ لا سيما أنه، ومنذ سنوات، لم تقم أيّ فعالية رسميّة من مهرجان أو مؤتمر يُعنى ‏بهذه الطاقات وأغنيتهم وموسيقاهم، وبأغنية الطفل، ولا حتى بالموروث الغنائي الأردني ‏وآلاته الشعبية المميّزة.‏

وفي ظلِّ عدم اهتمام الدولة بالفعل الموسيقي، وغياب المؤسسة المتخصصة، أو دوائر ‏فيها معنيّة بالموسيقى، وبإنتاج الأغاني الجديدة، وفي ظلِّ غياب شركات الإنتاج الفني ‏والموسيقي بالتحديد التي تضمّ مَن يتقنون لعبة إنتاج الأغاني وترويجها، والوقوف على ‏انتقاء عناصرها من كلمة ولحن وتوزيع عصري لا يضر بشخصيّتها، وأدائها، ظَهَرَت ‏ظاهرة دعم وتمويل نمط واحد من الأغنية الأردنيّة من قِبَل مؤسسات في الدولة حاولت ‏إنتاج أغنية وطنية تناسب المرحلة وتتواءم مع احتياجات الوطن والمواطن. لكن لعدم ‏وجود المتخصصين في هذه المؤسسات، وعدم مراقبة المضمون وآلية التنفيذ والنوعيّة، ‏خرجت إلى السطح مئات الأغاني التي لا تمثِّلنا، وبعيدة كل البعد عن إيقاع حياتنا في ‏المدينة والريف والبادية والساحل. ولا تلبي الاحتياجات الوطنية للمواطن الأردني، ولا ‏تحاور انتماءه، أو تجيب عن الأسئلة التي يحملها طوال الوقت. فعندما أغدقت هذه ‏المؤسسات المال على عدد محدَّد من المغنيين، وغابت الرقابة، وقعنا بمشكلة الكلمة ‏واللحن والإيقاع والتوزيع والأداء، لأنَّ التفكير بالمكاسب طغى على الفن واحتياجات ‏الوطن والشعب، فتاهت أغنيتنا وتخبَّطت، وتاهت أرواحنا معها. فأصبح الأهم عند مَن ‏يحصل على الدعم المالي لإنتاج أغنية أو أكثر، توفير أكبر نسبة ممكنة من منحة الإنتاج، ‏فبخلوا على هذه الأغاني وعادوا إلى الموروث فأفقدوه طعمه، ووصلنا إلى ما وصلنا ‏إليه. ‏

والآن هذه المؤسسات هي مَن تنادي للحدّ من ظاهرة فوضى الإنتاج. وما عظّم المشكلة ‏الترويج المُبالغ فيه لبعض هذه الأغاني وأصحابها على الإذاعات من خلال ضجيجها ‏الصباحي، فأكسبهم شهرة سريعة وواسعة على امتداد الوطن، بغضّ النَّظر عن ما قدَّموه، ‏فارتفعت أجورهم في الحفلات، وزادت احتمالات المنح والدعم من تلك المؤسسات التي ‏تأثرت أيضًا بتلك الشهرة، وكل ذلك بشرعيّة واحدة وهي: إنتاج الأغنية الوطنيّة؛ ممّا دعا ‏كل مَن يريد الغناء إلى التوجُّه نحو هذه الطريق السريعة في الآلية والمضمون لتحقيق ‏المكاسب. ودون رقابة أو تدقيق على الكلمة واللحن والتوزيع والتنفيذ والأداء. ‏

كلُّنا مع الأغنية الوطنيّة الجادّة المتجدِّدة التي تليق بوطننا وقيادته، وخصوصًا في هذه ‏الأيام. ولم تخلُ الساحة الغنائيّة من بعضها في السنوات الماضية. لكنّنا نحتاج إلى اهتمام ‏رسمي جادّ بأغنيتنا وموسيقانا، يرتكز على الموضوعيّة والتخصصيّة والرقابة والتدقيق ‏العلمي المدروس، ومنابر وفضاءات حقيقيّة لشبابنا الواعد لعرض أغنيتهم وموسيقاهم، ‏وإعلام مرئي ومسموع يهتمّ بأغانينا وتفاصيلها وحكاياتها ومؤدّيها، حتى نذهب بهم إلى ‏أعلى درجات الطموح.‏