د. سامح محمد الضروس
كاتب وأكاديمي أردني
Droos1976@yahoo.com
كانت الأغنيةُ الوطنيّةُ في ما مضى مبعثًا علىْ شحذِ الهممِ، وبثِّ الحماسةِ في أوقاتِ الرّخاءِ والشِّدَّةِ، أما في وقتنا الحاضر فيعتري ساحةَ الفنِّ اختلال في المنتجِ الغنائيِّ الذي خرجَ عن أبجدياتِ البساطةِ والسّلاسةِ في رفدِ الأسماعِ بغناءٍ يحثُّ على حبِّ الوطنِ وحبِّ ناسِهِ وأهلِهِ وآثارِهِ وذرّاتِ ترابِهِ، ويدعو إلى اللحمةِ الشّعبيّةِ، بعيدًا عنْ بثِّ سمومِ الفرقةِ وإثارةِ الفتنِ.
إنَّ الغناء من أهمِّ وسائلِ التّعبيرِ عنْ مجرياتِ الأحداثِ الإنسانيّةِ والاجتماعيّةِ والنّفسيّةِ، ولا يُمكنُ التّسليمُ بمقولةِ فصلِ الغناءِ عن حياةِ النّاسِ قديمًا وحديثًا؛ لأنَّهُ نابعٌ من الأحاسيسِ والمشاعرِ الوجدانيّةِ، ومتعلّقٌ بما يعانيهِ الفردُ والجماعةُ من ظروفٍ معيشيّةٍ أو حالاتٍ عاطفيّةٍ أو مناسباتٍ متنوّعةٍ سواء في الأفراحِ أو في الأتراحِ، والإنسانُ العربيُّ بطبعِهِ يميلُ إلى التّعبيرِ الشّفويِّ الّذي يخرجُ عفوَ الخاطرِ من مستودعِ الثّقافةِ التّراثيّةِ، والذّكرياتِ الطّفوليّةِ أو الشّبابيّةِ الّتيْ عاشَها ومارَسَها.
وللغناءِ ارتباطٌ بالشّعرِ الّذي يُعَدُّ المادّةَ اللغويّةَ لإنتاجِهِ بمراحلِهِ الأولى قبلَ الدّخولِ على خطِّ الإنتاجِ الآخرِ وهو التّلحينُ، إذْ إنَّ الشّعرَ بأشكالِهِ المتعدّدةِ يخضعُ لأنظمةٍ صوتيّةٍ تفرضُ على قارضِهِ أنْ يؤسّسَ لقاعدةٍ موسيقيّةٍ تجذبُ انتباهَ السّامعِ؛ لتُقنِعَ أذنَهُ الموسيقيّةَ بصلاحيّةِ ذلكَ النّصِّ للصّعودِ على درجاتِ السّلَّمِ الموسيقيِّ؛ فتتحوّل الكلماتُ حينَها من كلماتٍ مقروءةٍ إلى كلماتٍ مسموعةٍ أكثرَ جذبًا وتشويقًا.
والأغنيةُ الوطنيّةُ في هذا السّياقِ شكلٌ من أشكالِ التعبيرِ الغنائيِّ، وهيَ تمثّلُ أيقونةً رمزيّةً في الجانبِ الوطنيِّ تُشْبِهُ إلىْ حدٍّ ما العَلَمَ ذا الشّكلِ المميّزِ لأيِّ دولةٍ من الدّولِ، فكما أنَّ للعلمِ حالةً ترميزيّةً تحدّدُ المكانةَ المُحالَ فيها، أو تُشيرُ إلى الأفقِ المرفوعِ فيهِ فإنَّ للأغنيةِ الوطنيّةِ دلالةً رمزيّةً على المكانةِ الوطنيّةِ الّتي تعبّرُ عنها نماذجُ الغناءِ المتمتّعةِ بهذهِ الصّفةِ؛ لتتحقّقَ معها مبادئُ الانتماءِ والمواطنةِ الصّالحةِ والحثِّ على المحبّةِ والفضيلةِ، فالأغاني الوطنيّةُ لمْ تأتِ عفو الخاطرِ بلْ جاءتْ "نتيجةَ تفاعلٍ حميمٍ بينَ مبدعِها والأحداثِ الّتي عصفتْ بالمنطقةِ أمامَ ناظريهِ؛ فسجّلَها حيَّةً حارةً كالدّماءِ الفوّارةِ"(1).
فعندَ التّحوّلِ ببوصلةِ الزّمنِ إلى الوراءِ كانت الأغنيةُ الوطنيّةُ مبعثًا علىْ شحذِ الهممِ، وبثِّ الحماسةِ في أوقاتِ الرّخاءِ والشِّدَّةِ، وقدْ بدأتْ بفرضِ نفسِها على السّاحاتِ الوطنيّةِ وفي المناسباتِ الاجتماعيّةِ بصورةٍ قويّةٍ حتّى باتتْ من المتطلّباتِ الأساسيّةِ في التّفاعلِ معَ الواقعِ الاجتماعيِّ، ومعَ القضايا الوطنيّةِ الّتي تحرّكُ أنفاسَ الجماهيرِ؛ لتبدأَ حناجرهم بالتّلويحِ بها بصوتٍ جمعيٍّ متداخلٍ تضيعُ فيهِ خشونةُ الصّوتِ الذّكريِّ معَ تعالي الأصواتِ الأُنثويّةِ الرّقيقةِ النّاعمةِ.
فالدّورُ الّذي لعبتهُ الأغنيةُ الوطنيّةُ ليسَ دورًا وظائفيًّا بقدرِ ما كانَ حفظًا للموروثِ الوطنيِّ الجميلِ؛ حتّىْ يظلَّ مطبوعًا في ذواكرِ الأجيالِ، وحاضِرًا في الذّائقةِ الفنّيّةِ الإعلاميّةِ في ظلِّ ما اعترى ساحةَ الفنِّ من اختلالٍ في المنتجِ الغنائيِّ الّذي خرجَ عن أبجدياتِ البساطةِ والسّلاسةِ في رفدِ الأسماعِ بغناءٍ يحثُّ على حبِّ الوطنِ وحبِّ ناسِهِ وأهلِهِ وآثارِهِ وذرّاتِ ترابِهِ، ويدعو إلى اللحمةِ الشّعبيّةِ، والحفاظِ على النّسيجِ الاجتماعيِّ، وتعزيزِ قيمِ التّسامحِ وتقبّلِ الآخرينَ واحترامِ وجهاتِ النّظرِ، بعيدًا عنْ بثِّ سمومِ الفرقةِ وإثارةِ الفتنِ وخلقِ حالةٍ من الخروجِ على التّقاليدِ والأخلاقِ والمبادئِ.
وقد كانَ للأغاني الوطنيّةِ حضورًا لافتًا خلالَ القرنِ الماضي، وذلكَ من حيث الإنتاج الفنّيّ لها، وتداولها على ألسنةِ النّاسِ؛ ويعودُ ذلكَ إلى الظّروفِ السّياسيّةِ التي مرّتْ بها المنطقةُ العربيّةُ، وأهمّها نكبةُ فلسطين الّتي تفاعلتْ معها كلّ الشّعوبِ العربيّةِ، واعتبرتها قضيّةً قوميّةً؛ فكانَ أنْ تطوّرتْ الأغنيةُ الوطنيّةُ تطوّرًا ملموسًا، ناهيكَ عن القضايا المرتبطة بالاحتلالِ ومخلّفاتِ الاستعمارِ والصّراعاتِ الدّاخليّة النّاجمةِ عن أسبابٍ متعدّدةٍ دفعتْ لأنْ تتحوّلَ الأغنيةُ الوطنيّةُ إلى موروثٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ وفنّيٍّ اهتمَّ بالتَّأريخِ للأحداثِ والمتغيّراتِ السّياسيّةِ والاجتماعيّةِ، وكانَ عاملَ دعمٍ لتنميةِ الإرادةِ الشّعبيّةِ.
وقد اكتسبت الأغنيةُ الوطنيّةُ صفةَ الجماهيريّةِ في كثيرٍ من البلدانِ العربيّةِ، أو لنقُلْ: إنَّ بعضَ الأغاني الوطنيّةِ قدْ نالتْ شُهرةً واسعةً أدّتْ إلى فضِّ الحدودِ والحواجزِ بينَ الأقطارِ العربيّةِ؛ لنسمعَها تتردّدُ فيْ كلِّ بقعةٍ من أرجاءِ الوطنِ العربيِّ، ويعودُ ذلكَ إلى "بساطةِ أسلوبِها، وبدائيّةِ آلاتِها الموسيقيّةِ، وتعبيرِها المباشرِ عنْ لحظاتِ الوجدانِ والانفعالِ والتَّأثّرِ"(2)، حتّى صارتْ الأغنيةُ الواحدةُ تتردّدُ على اللسانِ الجمعيِّ العربيِّ في المناسباتِ العربيّةِ، إذْ إنَّ بعضَ الأغاني الوطنيّةِ تصلُحُ لأنْ تكونَ ثيمةً موحّدةً لكلِّ الدّولِ مجتمعةً، وخاصّةً عندما تكونُ زاخرةً بالمعاني الإنسانيّةِ السّاميةِ الّتي تتلقّفها القلوبُ والعقولُ، وتثيرُ في النّفوسِ حماسةً للتضّحيةِ بالأرواحِ لفداءِ وطنٍ كبيرٍ وإنْ تعدّدتْ أسماءُ أقطارِهِ، إلَّا أنَّ الأصلَ أنْ يظلَّ موحّدًا في وقوفِهِ ضدَّ من كانَ يتربّصُ لهُ، ويخطّطُ للنّيلِ من تراثِهِ وهُويّتِهِ الّتي توارثَها جيلًا بعدَ جيلٍ.
وللأغنيةِ الوطنيّةِ الأردنيّةِ خصوصيّةٌ جعلتْها جزءًا من التّراثِ الوطنيِّ للمملكةِ جنبًا إلىْ جنبٍ معَ المعالمِ التّراثيّةِ الأخرىْ، فقدْ حقّقتْ على مدى سنواتٍ متلاحقةٍ درجاتٍ عالية من التّميّزِ؛ إذْ ظلّتْ محافظةً على الحيّزِ المكانيِّ لها بينَ التّيَّاراتِ الفنّيّةِ، وحاملةً الرّسالةَ الوطنيّةَ المغلّفةَ بالقيمِ والمعاني السّاميةِ، فقدْ راعى مَن كتبوها ومَن لحّنوها ومَن أدّوها توظيفَها؛ لتكونَ رمزًا من رموزِ الوطنِ الدّالةِ عليهِ.
وقدْ بلغتْ الأغنيةُ الوطنيّةُ الأردنيّةُ درجةً عاليةً من التّعاطيْ الشّعبيِّ معها، فهيَ "من أكثرِ نماذجِ الغناءِ قربًا لذائقةِ المستمعِ الأردنيِّ، وتميلُ لها الشّريحةُ الأكبرُ من المجتمعِ الأردنيِّ على اختلافِ أطيافِهِ"(3)، حتّى أنَّ الأغنيةَ الوطنيّةَ قدْ حقّقتْ سمتًا ثقافيًّا كانَ فيْ فترةِ من الفتراتِ من أهمِّ معالمِ حياةِ الشّعبِ الأردنيِّ، فتجدُ الأغنيةَ الوطنيّةَ حاضرةً فيْ كلِّ مناسبةٍ من مناسباتِهِ، وفي كلِّ واقعةٍ اجتماعيّةٍ أو سياسيّةٍ أو ثقافيّةٍ.
وبالعودةِ إلىْ أرشيفِ الأغنيةِ الوطنيّةِ الأردنيّةِ ترتسمُ أمامنا لوحاتٌ من جماليّاتِ التّعبيرِ عن التّجاربِ الإنسانيّةِ في حبِّ الوطنِ والتّغنّي بهِ وبقيادتِهِ، وبمعالمِهِ الجغرافيّةِ والمكانيّةِ التّاريخيّةِ، وبشواهد وجودِهِ وفرضِ سيادتِهِ وامتدادِ نفوذهِ، وهذا من أهمِّ عواملِ ترسيخِ الأغنيةِ الوطنيّةِ في نفوسِ الجماهيرِ الّتي تلقّتها بصدقٍ، وتفاعلتْ معها؛ لعلمِها أنَّ القرائحَ الّتي بثّتْها فيْ ذلكَ الزّمن صادقةٌ؛ لذلكَ كانتْ الأغنيةُ الوطنيّةُ تلقائيّةً ومباشرةً وعلى مستوى جميعِ الأفهامِ، وتؤدّي دورَها الرّائدَ "في غرسِ المفاهيمِ السّليمةِ للوطنيّةِ والمواطنةِ، متّكلينَ على دورِها الفعّالِ الّذي لا يمكنُ إغفالُهُ أبدًا"(4).
وقد استمدّتْ الأغنيةُ الوطنيّةُ كلماتِها من البيئةِ الأردنيّةِ، ولمْ تكنْ خارجةً في مضامينِها أو في ألحانِها على النّمطِ المألوفِ والتّخصّصيّةِ الملازمةِ لتلكَ الأغاني الّتي تنبثقُ من مصدرٍ واحدٍ، وتصبُّ في مكانٍ واحدٍ لا يخرجُ عن سياقِ حبِّ الوطنِ والالتفاف حولَ قيادتِهِ الهاشميّةِ المظّفّرةِ، والنّشيدُ الوطنيُّ يمثّلُ شكلًا من أشكالِ الأغنيةِ الوطنيّةِ، وعنوانًا عريضًا للانتماءِ للوطنِ، وعدمِ الانسلاخِ عنهُ في ساعاتِ الشِّدّةِ، وأكثرُ ما يُميِّزُ الأغنيةَ الوطنيّةَ هو المفرداتُ الّتي تؤخذً من معجمِ المواطنةِ والانتماءِ والولاءِ والحفاظِ على الهُويَّةِ و"إقناع النّاسِ بحفظِ التّاريخِ؛ ليكونَ النَّصُّ الغِنائيُّ الوطنيُّ بذلكَ حامِلًا لمجدِ الوطنِ، ومحمولًا في نفوسِ المتلقّين"(5).
وقد كانت المراهنةُ على نجاحِ الأغنيةِ الوطنيّةِ تعتمدُ اعتمادًا رئيسًا على الاستجابةِ لها من قبلِ النّاسِ، والتّفاعلِ معها، واستمراريّتها وتوارثها جيلًا بعدَ جيلٍ، وهذا الأمرُ لمْ يكنْ ليتحقّقَ لولَا الاعتناءِ بألفاظِ الأغنيةِ، ومراعاةِ أصالتِها وبساطتِها وعدمَ غرابتها وتقليديّتها وغرائبيّتها في الوقتِ نفسه، لتأتي مرحلةُ التّلحينِ الموسيقيّ الّتي تضفي على كلماتِ الأغنيةِ شكلًا جديدًا، وتجعلها أكثرَ قابليّةً للاستماعِ، خاصّةً عندما يكونُ الصّوتُ الّذي يغنّيها صوتًا طربيًّا رخيمًا ذا خبرةٍ في هذا المجالِ، منْ هنا فالتّأليف والتّلحين والغناءُ مكمّلاتٌ لبعضِها في نجاحِ الأغنيةِ الوطنيّةِ.
* الهوامش:
(1) ملحم، إبراهيم، الفنُّ التراث والشّعر، عالم الكتب الحديث، إربد، بيروت، 2010، ص21.
(2) جعفر، عبد الأمير، الفنُّ الغنائيُّ في الخليجِ العربيّ، وزارة الثّقافة والإعلام، دار الجاحظ، بغداد، 1980، ص11.
(3) أحمد عوني، عزيز، هلال حدّاد، صفاء، بحث منشور بعنوان: الأغنية الوطنيّةُ الأردنيّةُ: ما بينَ التّقليد وافتقاد التّجديد، مجلة دراسات العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، مج46، ع1، 2019م، ص197.
(4) المرجع السابق، ص198.
(5) فضيلة، يونسي، استراتيجيّات الخطاب في النّشيدِ الوطنيّ، دراسة تداوليّة، رسالة ماجستير، جامعة مولود معمري تيزي-وزو، الجزائر، 2011، ص11.