حكاية قطنة السرديّة بين الرُّؤية الاستشراقيّة والحقيقة
هدى أبو غنيمة
أديبة وباحثة أردنيّة ‏
huda_abughaneemah@yahoo.com
 
إنَّ رفض اعتبار التاريخ الشفوي مصدرًا تاريخيًّا، يُعدُّ موقفًا رجعيًّا من التاريخ، ‏فالتاريخ الشفوي حقل سخيّ واعد، ورافد معنويّ مهمّ لدمقراطيّة التمكين للجميع في ‏معرفة التاريخ وتفاصيل أحداثه، ولا أدلّ على ذلك من المقارنة التي تعقدها الباحثة أبو ‏غنيمة بين روايتين لحكاية قطنة السردية، واحدة بعيْن الغريب، والأخرى بعين ‏المُحبّ، الأمر الذي يستدعي الحديث عن الاستشراق ومركزيّة خطابه
 
إطلالة الرُّؤية
قَدْ يدلُّ مصطلح الموروث الشفوي على كل ما يتناقله الناس شفاهةً، رأسيًّا عبْر الزمان ‏من جيل إلى جيل، وأفقيًّا من مكان إلى آخر. ولكن هو التجربة الإنسانيّة، سواء ما ‏ابتدعه المخيال الشعبي أو تناقلته الأجيال من قصصٍ وأشعارٍ وأغانٍ، ووقائع تداولها ‏الناس عبْر الزَّمن وأسقطوا عليها أمنياتهم وأحلامهم ومشاعرهم، وهم يضيفون إليها أو ‏يعيدون صياغتها. فما الذي جعل التراث الثقافي غير المادي عاملًا مهمًّا في الحفاظ ‏على التنوُّع الثقافي في مواجهة العولمة المتزايدة، ومساعدًا على تنمية الحوار بين ‏الثقافات ومشجِّعًا على الاحترام المتبادل لطريقة عيش الآخر؟ وكيف أتاح التقدُّم في ‏مجال التقنية الحديثة لهذا النوع من البحث التاريخي أن يكون مقبولًا إلى جانب التاريخ ‏الكتابي المعروف بتقاليده العلميّة؟ بل أصبح التاريخ الشفوي في مقدمة دراسة التاريخ، ‏لاسيّما مع تزايد أعداد الباحثين والمؤرخين المختصين بجمع الروايات الشفويّة.‏
وعلى الرغم من مواقف المؤرخين التقليديين المشكِّكين بمصداقيّة هذا المنهج في تقديم ‏الحقائق بصورة موضوعيّة موثوقة، وحجَّتهم مشروعة، بأنَّ ذاكرة الإنسان ليست ‏دقيقة، وبأنَّ الرُّواة قد ينجرفون وراء عواطفهم ورغباتهم في رواية الأحداث، فإنَّ ‏رفض اعتبار التاريخ الشفوي مصدرًا تاريخيًّا، يُعدُّ موقفًا رجعيًّا من التاريخ، لأنَّ ‏التاريخ الرسمي (تاريخ النُّخبة) من شأنه أن يختزل دوْر الشعب أو العامّة من الناس، ‏والتاريخ الشفوي يعطي أبعادًا إنسانيّة كانت منسيّة ومهمَّشة عن ميدان التاريخ الكتابي.‏
يعدُّ التاريخ الشفوي وسيلة لإعادة رسم الحياة الحافلة بأحداثها وتفاصيلها، وما يقدِّمه ‏بمثابة إعطاء الدم واللحم للأحداث الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ويعكس المزاج ‏العام للناس العاديين، ويُنظَر اليوم إلى التاريخ الشفوي باعتباره حقلًا سخيًّا واعدًا، ‏ورافدًا معنويًّا مهمًّا لدمقراطيّة التمكين للجميع في معرفة التاريخ وتفاصيل أحداثه، ‏وهو حق الأجيال المقبلة في الاطِّلاع على الأرشيف الوطني، والوعي بأهميّة جمعه ‏والاهتمام به. ولا تكفي حماسة الباحثين في هذا النوع من التاريخ، وإنَّما يلزمها قيام ‏مؤسسات وهيئات بحثيّة تتبنّى مشاريع كبيرة في هذا الحقل.‏
في العام 2001 قامت اليونسكو بالتحقق لدى الدول والمنظمات غير الحكومية، بهدف ‏تحديد مفهوم التراث اللا مادي. وفي العام 2003 تبنَّت الدول الأعضاء في اليونسكو ‏اتفاقية لصون وحماية التراث الثقافي، ودخلت في حيِّز التنفيذ في 20 نيسان 2006.‏
لمحة عن المناخ الاجتماعي المحيط بالمرأة الأردنيّة ‏
أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين
في منطقة شرقي الأردن، التي شكَّلت جزءًا من جنوب سورية البعيد نسبيًّا عن مركز ‏الدولة العثمانيّة، كانت العشيرة هي الوحدة السياسية الاجتماعية الأقوى، التي لم تخضع ‏للدولة العثمانيّة، وبقيَتْ تمارس عاداتها وتقاليدها وتحتفظ بكيانها السياسي والاقتصادي ‏والاجتماعي، وكان وجودها متلائمًا مع مستوى التطوُّر الحضاري في حينه. علمًا أنَّ ‏عشائر المناطق شبه الحضريّة، التي تعيش في المدن الصغيرة أمثال: إربد/ عجلون/ ‏مادبا/ السلط/ الكرك/ ومعان، على الرغم من تطوُّرها النسبي في المجتمع العشائري ‏العربي بشكل عام، وفي شرق الأردن بشكل خاص، نلاحظ أنَّ القانون العشائري ‏سابق لمفهوم الدولة، في ما يتعلّق بمنظومة قيمه الأساسيّة، وما ينبثق عنها من أعراف ‏وتقاليد. فالعُرف البدوي يملك قوة القانون بالمعنى المعاصر، ولعلَّ المثل المرتبط ‏بحكاية قطنة السرديّة "قانون قطنة فوق كل قانون" بحاجة إلى استقصاء أوسع يتجاوز ‏الحكاية التي سطرها الرحّالة الأميركي المستشرق "وليم سيبروك" ‏William ‎Seabrook‏ في كتابه: ‏Adventures in Arabia among ‎Bedouines،Druses
وفي الفصل الذي عنونه: ‏For the eyes of Gutne‏ (ص143) يسرد حكايات ‏التجربة التي عاشها بين رجال بني صخر والأحاديث التي كان يستمع إليها في حلقات ‏القهوة كصديق للشيخ مثقال الفايز، ومنها حكاية قطنة السرديّة برؤية أنثروبولوجيّة ‏بحسب إطاره المعرفي وفكرته الأسطوريّة عن الشرق والصحراء، وكأنه يعيد إنتاج ‏نفسه وقِيَم مجتمعه؛ وكأنه يتحدَّث عن "هيلينا الطروادية" في الإلياذة. وكذلك ما عرفه ‏من قصصها في حلقات السَّمَر وصداقته لشيوخ بني صخر حول ما تناقلته العشائر ‏من حكاية لم تكتمل، وهي زواجها من طراد الزبن، مصوِّرًا قوّته الجسديّة وكأنه ‏يصوِّر طوطمًا نصفه يشبه الفهد ووجهه وجه نسر.‏
قال "سيبروك" في بداية الفصل: "ليس هناك زهور في الصحراء العربيّة، ولا في ‏جبل الدروز، وحينما كان شيخ السرديّة ابن الكنج يتجوَّل ذات شتاء جاف في وادي ‏الفرات، وجد حقول قطن مزهرة حرَّكت روحه الضارية ‏Moved his fierce ‎soul، بعد سنتين رزق بطفلة من أصغر زوجاته، فسمّاها قطنة. كان ذلك قبل جيل. ‏عرفها كثيرون، وتحدَّثوا معها، وآخرون ممَّن مات آباؤهم أو إخوانهم من أجل عيون ‏قطنة. لم يصوِّرها أحد بحسب علمي، ولكن يستخدم البدو لغة الشِّعر لوصفها، فلا ‏تظهر الصورة بوضوح. الشعر مثل سماء الشتاء يشوبها السواد حينما يغرق القمر في ‏الرمال. العينان بحيرتان في واحة. الصدر مثل تفاح ناضج، والخصر مثل نخلة ‏صغيرة، وقدماها مثل قدميّ الغزال. حدَّثَني الأمير أمين أرسلان، الذي عَرَفَ نساء ‏جميلات في كل العالم الأوروبي، والذي رأى قطنة في عمّان مرتين حينما التقيتُ به ‏في النادي العسكري للبحريّة، إنَّها لم تكن مثل أيّ امرأة رآها. كانت أنثى متوحشة لم ‏يكن هناك شيء رقيق أو ليِّن في جمالها، سوى شيء حادّ كحافة السيف". ‏
ويمضي "سيبروك" في رواية الحكاية التي بدأت بعد مقتل أخيها الأصغر على إثر ‏غزو قبيلة العنيزي لمضارب أهلها حينما كان أخوها الأكبر متعب غائبًا مع مئة من ‏رجاله، وهو الذي أصبح شيخًا لقبيلة السرديّة بعد وفاة أبيه الشيخ ابن الكنج، فقد ‏تجوَّلت قطنة بين القتلى بكامل زينتها لتعيِّر رجال القبيلة بتخاذلهم عن مواجهة الغزو. ‏ومضى المستشرق في رواية قصة حب ربطتها بطراد الزبن كانت سببًا في قتل كثير ‏من الرجال بسبب رفض أخيها متعب تزويجها من طراد الزبن من قبيلة بني صخر ‏لنزاع بين القبيلتين، ولغاية في نفسه. نلاحظ في رواية "سيبروك" أسطرة الحكاية ‏وربطها بالملاحم الإغريقيّة مثل الإلياذة والأوديسة، إضافة إلى وصف الإنسان البدوي ‏الرجل أو المرأة بالتوحُّش والشهوانيّة والعنف والقسوة وحُبّ المال والغرائز العدوانيّة ‏في سلوكه(ص39/40 من كتابه).‏
رواية الديبلوماسي د.كليب سعود الفواز ‏
لعلَّ رواية الدكتور كليب الفواز في كتابه "أمراء حوران آل الفواز مشايخ السرديّة، ‏تُبرز ما وقع من مغالطات في رواية "سيبروك" لحكاية قطنة.‏
‏"لقد تناول سيرة قطنة العديد من الباحثين، كل من وجهة نظره ومنهم "سيبروك" ‏المستشرق الأميركي، والأمير حيدر الشهابي والكاتبة مها حويان الحسن، إضافة إلى ‏ما نحفظه عنها من المرويّات الشعبية. والحقيقة أنَّ الحكاية تعود إلى نهايات القرن ‏التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين. قطنة ابنة جدّي الكنج بن ظاهر الكليب إخوتها ‏ثمانية هم: صيتان وشلاش ومتعب ومشاري وفارس وحران وطلال وجدعان. ‏تزوّجَت قطنة من سطام بن شعلان، ورُزقت بولد سمي عافت، لكنه توفي وعمره ‏سبع سنوات، ثم بعد أن تركها سطام الشعلان تزوَّجت من ابن عمها متروك ذياب ‏الكليب، ورُزقت بعدد من البنات هنّ رفعة وشيمة والدلما، وقد عايشتُهُنّ لأنّ النساء ‏في عائلتي يعمِّرن بحدود المئة سنة تقريبًا، إضافة إلى أنَّ ابنتها رفعة كانت زوجة ‏والدي وتوفيت عام 1992 بعد أن تركت شقيقة لي. وقد مثَّلت الشيخة رفعة معاني ‏الشيخة أصدق تمثيل. كانت تتمتع بشخصية قوية إضافة إلى جمالها. هذه الرفعة ‏رحمها الله كانت لا تهاب الرجال، بل كانو يهابونها، لأنَّها فرضت احترامها بخلقها ‏وسمعتها الطيبة"(ص254).‏
‏"لقد أراد "سيبروك" أن يخلق عنصر التشويق في بحثه، ومعلوم أنه قد عاش مع ‏الشيخ مثقال الفايز، وخالط بني صخر، ولم نكن كسرديّة نتمتَّع بصلات حسنة معهم ‏آنذاك، وأساء إلى قطنة (ص256 و257) وبالغ في الوصف، وقد أشار روكس بن ‏زائد العزيزي في متن كتابه الموسوم "نمر بن عدوان" إلى قطنة قائلًا: إنَّ أصل المثل ‏الشعبي المعروف تحلّ عن حبل المشنقة قد قيل من أجل قطنة شقيقة متعب. علمًا أنَّ ‏قطنة كما أعرف لم تكن صاحبة جمال أخّاذ، بل كانت شقيقتها نورة هي الأجمل، ‏ولكن شخصية قطنة شخصية قوية تميل إلى التمرُّد، ومن أسباب شهرتها الحقيقيّة ‏موقفها مع الوالي العثماني حين سُجن شقيقاها ولا أستطيع تحديد المكان هل هو إربد أم ‏السلط؟ تقول الرواية إنهما كانا محكومين بأحكام قاسية، ويقول بعض الرواة بأنها ‏وصلت الإعدام، ورغم توسُّط وجوه الأهل وزعماء القبائل من أجل إطلاق سراحهما ‏إلا أنَّ الوالي رفض ذلك، وأغلق الأبواب. الأمر الذي دعا قطنة إلى القيام بالمهمة، ‏فسارت مع العبيد على الخيل، وهي على هودجها، إلى حين وصول مقر الحاكم ‏العثماني، وتوسّطت لديه لإطلاق سراح شقيقيها. عندها استجاب الوالي متأثرًا بموقفها ‏وخطابها، فعفا عن أخويها ومعهما جميع المسجونين المحكومين، طار صيت قطنة إثر ‏هذا الموقف في المنطقة، وتسابق الشعراء لنظم القصائد التي تقول إنها قد سنَّت قانونًا ‏سمّي "قانون قطنة". كم وددتُ لو عرفتُ ما مضمون الحوار بين قطنة والوالي".‏
تقول إحدى القصائد التي تناوَلَت الموقف: ‏
الشوفة يلّي شفتها ياأبو فدعوس ‏          عليها جرّ القلب لولا الضلوعي
قطنة حرير وماية بالذهب حوس     ‏ بنت الشيوخ مصنجين الدروعي
قانون قطنة مطلق كل محبوس               فايق على قانون الوزر والشروعي
قطنة مهرة متغاوية ببرنوس           ‏ متعب سندها والسرديّة فروعي
أمّا ما دار حول خطبة طراد بن زبن لقطنة، فهي حقيقة ثابتة تخالف تفاصيلها خيال ‏‏"سيبروك"، فقد "تقدَّم طراد لخطبتها من شقيقها متعب حليف بني صخر آنذاك، ‏وشاءت الظروف أن يذهب متعب إلى منطقة طبريا ويحل ضيفًا على ابن عمه ‏عرسان الملاك من الصقر، فيقوم عبد الشيخ عرسان ليصبّ القهوة لمتعب، لكن ‏عرسان يبلغ العبد بأنه سيصب القهوة بنفسه لضيفه، وقام بذلك، ولكن عندما مدَّ متعب ‏يده، لأخْذ القهوة قام الشيخ عرسان بسكْب الفنجان قبل أن يمسكه متعب، وهذه عادة ‏متبَّعة عند البدو، إذا أرادوا أن يُشعِروا الضيف بأنه إمّا غير مرغوب به، أو إنه دلالة ‏على جبن، أو إنه ارتكب عملًا لا يستحقّ عليه شرب القهوة من يد المعزِّب. فاحتجَّ ‏متعب قائلًا: لستُ من الرجال الذين يُكبُّ فنجانهم. فقال له عرسان: إذا أعطيتَ قطنة ‏إلى طراد، فإنني أكبُّ فنجانك. عندها قال متعب: لن تكون قطنة زوجة لطراد بن ‏زبن. وبعد عودته أرسل إلى طراد، وأخبره برفضه لزواج شقيقته منه. غضب طراد ‏وبعض شيوخ بني صخر لهذا الرفض، وارتحل متعب إلى منطقة قريبة من منطقة ‏سطام الشعلان، وبعد مدة قليلة زوَّج شقيقته إلى سطام بن شعلان"(أمراء حوران، ‏ص261).‏
أترى؟ أليس هنالك فرق بين الروايتين لحكاية قطنة بعيْن الغريب وعين المُحبّ؟ ممّا ‏يستدعي الحديث، عن الاستشراق.‏
‏"يعتبر القرن التاسع عشر، قرن الاستشراق بلا منازع، ولعله القرن الذي أثَّث الخيال ‏الغربي بخصوص الشرق، تلك الصور، التي تعاقب على ترسيخها كل من غوته ‏ونرفال وهوغو وشاتو بريان وفلوبير. وقد سار هذا الاتجاه الاستشراقي الرومانسي ‏جنبًا إلى جنب مع الاستشراق المتخصص، الذي راح ينظِّم نفسه عبر مؤسسات ‏ودوريات علمية وأكاديمية رصينة وتصدر الواجهة علماء راسخون في الشرق مثل: ‏الفرنسي سلفيستر دي ساسي (1758- 1856) والألماني جوزيف فون هامر ‏بورجستال (1774-1856) اللذين أسهما في ترسيخ (السلطة المعرفية للاستشراق) ‏التي تمخَّضت عن تحويل الشرق والشرقي إلى موضوعين ثابتين للذات الغربيّة ‏الدارسة، كما تزايد توظيف هذه المعرفة لخدمة الطموحات الاستعمارية في الشرق ‏العربي، تلك الطموحات التي تناولها الناقد والمفكر إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق، ‏وأطلق صدور النسخة العربيّة من كتابه "الاستشراق" حالة من الهوس بالدراسات ‏الخاصة به.‏
لم يدخر إدوارد سعيد جهدًا، لإثبات حقيقة حضور المستشرق الغربي ومركزيّة خطاب ‏الاستشراق الاستعماري... وإذا كانت بدايات القرن العشرين، قد شهدت توثُّق عرى ‏هذا التحالف الوطيد بين غير قليلٍ من المستشرقين، وإدارات الاستعمار الغربي، فإنَّ ‏الحربين العالميتين الأولى والثانية قد وجَّهتا على التوالي، رضّة عنيفة لغرور أولئك ‏المستشرقين المولعين بالتعبُّد في محراب المركزية الغربية، ودورها في تنوير شعوب ‏الشرق الغارقة في ظلمات الجهل. لقد دفعت الأهوال والويلات، التي جرَّتها الحضارة ‏المركزية الأوروبية على أبنائها، مفكري هذه الحضارة إلى القيام بمراجعات جذريّة ‏بالإضافة إلى توالي حركات التحرر الوطني، التي أثبتت على نحو معرفي حاسم أنَّ ‏الشرق ليس كتلة تاريخيّة صمّاء ولا إنسانًا جاهلًا، ما أدّى بكثير من المستشرقين إلى ‏المبادرة للتقدُّم باقتراحات تشجِّع الإدارات الاستعماريّة على التقرُّب من الشرقي ‏باعتباره صديقًا!"(انظر: د.غسان عبدالخالق، الصوت والصدى، ص33-39، دار ‏فضاءات، ط1، 2017).‏
هل بقي للاستشراق ألقٌ بعد تطوُّر مناهج العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الحديثة؟ ربّما ‏أصبح الاستشراق معرفة بائدة، وربّما سلَّم رايته إلى مفكرين شرقيّين يتبنون رؤيته، ‏لكنه فقد ألقه بعد التقدُّم والتطور في آليات البحث في حقول المعرفة كافة، ما أدى ‏ببعض المستشرقين إلى المناداة بدفن الاستشراق الذي لم يَعُد قادرًا على مواكبة الشرق ‏في ضوء منهجيّاته التوثيقيّة الإحصائيّة اللغويّة، ولعلَّ ما أورده الدكتور سالم حميش ‏في كتابه "الاستشراق في أفق انسداده" هو رأي موضوعي "أنَّ الاستشراق سياق ‏معرفي تاريخي جغرافي سياسي، وليس خيرًا بإطلاق أو شرًّا بإطلاق"(الصوت ‏والصدى، ص40).‏