قراءة في قصيدة "إني مُتعَبٌ جدًّا"‏ من ديوان "أحزان الفصول الأربعة" لـِ"نضال القاسم"‏

 ‏ د.أماني حاتم بسيسو

شاعرة وناقدة أردنية
amanibsaiso1979@gmail.com
 
صَوْتان في قصيدة "إني مُتعَبٌ جدًّا" يتجاذبان انتباهَ القارئ واهتمامَه: صوتٌ رخيمٌ جذّاب، عَذُبَ به صوتُ ‏الماضي، وصوتٌ أجَشُّ مزعجٌ نشاز يُلقيه في أسماعنا صوتُ الحاضر! فأيُّهما ينتصر، ويملك أن يكون ‏صوتنا في المستقبل! أيهما نختار! ما هو كائنٌ، أم ما ينبغي أن يكون؟
 
هذا التَّضادّ بين الصوتين يورِثُ النَّغَمَ، والظلال -المُحيطَين بِجَوِّ الإبداع- مزيدًا من التَّشتُّتِ، وعدمِ الانسجام:‏
‏"تُضيءُ الحكاياتُ قلبي فأصحو".‏
ما هي... (الحكايات)؟! قِصَصٌ ورثناها عن أجدادِنا السابقين، تَسَلّينا بها كثيرًا، ورواها الجيلُ للجِيل الذي ‏تلاه، مُفعمة بالألق والأثرِ الإيجابيِّ، فهي (تُضئُ): بصيغة الفعل المضارع، الذي يوحي بالاستمراريّة ‏والفعاليّة، إلى مزيدٍ من النّموّ، والتَّشَبُّثِ بالحياة، لقد أثَّرت هذه الحكايات في (قلبي) أثرًا عميقًا صاغ ‏شخصيّتي الخاصّة، وأضاءته بنور البصيرة واليقين.‏
لقد ملَكَت (قلبي)، وعاشت في وجداني، وسيطرت على تفكيري وصاغته، فحُزتُ أن (أصحو) من غفلتي ‏التي كادت تقودني للهلاك، أيقظتني ذكرى إنجازاتِ أُمّتي بواجبيَ تجاهها، لأبني وأسطر سيرة إنجازاتي فوق ‏ماضيها المُشرِّف. ‏
‏"وأرتدُّ طفلًا كُنتُه ذاتَ يومٍ".‏
طفولتي البريئةُ الصّادقة، كانت ترى (وطني) رحْبًا ممتدًّا بلا حدود، ودون قيود، لَطالما رسمتُه -في يقيني- ‏في أبهى صورة، وعلى أرفع مَقام:‏
‏"وأرتدُّ طفلاُ كنتُه ذات يومٍ
أشتهي...‏
شجرًا وفاكهةً وماء".‏
هذه صورةُ وطني كما أصبو لِأن أرى، كما شاء له وجداني أن يكون، (خرافيًّا): عالم الخرافة مرتبطٌ ‏بالخيال، لكنَّ مبدعَنا رآه حقًا -فيما مضى- كذلك، ما بالُه اليوم؟!‏
‏"قد أنهَكَتْني الحرب والمدنُ الغريبة
إنّي مُتعبٌ جدًّا
ورثتُ من الحرب أوْزارَها والخواء
موحِشٌ ظِلُّ الهزيمة فوق بلدتِنا الصغيرة يا أبي
علقمٌ طعمُ الشقاء".‏
هذه السُّطور مُشجِّيةٌ، تَغصُّ بالمعاناة القاسية، لستُ متعبًا حَسْب، لقد (أنهكتني) الحرب، كانت في منتهى ‏القسوة، إذْ تصدَّت بكامل عُدّة جيوشِها لِـ(بلدتنا الصغيرة): بلدتنا لم تُزوَّد بالعتاد بعد، ليست دولةً عدائيّةً، لقد ‏نشأت في رحاب السَّلام والطمأنينة والإخاء والمودّة، فهالَها ما واجهها به العدوّ (من المدن الغريبة)، التي لا ‏يشعر –إزاءها- إلّا بمرارةِ الغُربة الموحِشة.‏
تُعيدُ عواطفُ المبدعِ –هذه- إلى ذاكرتي أوجاعَ صلاح عبدالصبور في قصيدة (يا صاحبي إني حزين):‏
‏"في غرفتي دَلَفَ المساء
والحزنُ يولَدُ في المساء لأنه حزنٌ ضرير
حزنٌ طويلٌ كالطريق من الجحيمِ إلى الجحيم!‏
‏...‏
الحزن يفترِش الطّريق".‏
أوجاعٌ تجتاحُ أفئدةَ (الناس في بلادي/ صلاح عبدالصبور).. الناس –جميعِهم- في بلادي، في سائرِ أطياف ‏السنة، في الأجواء كلِّها: (أحزان الفصول الأربعة/ نضال القاسم)، تجارب الشعراء يُناجي بعضُها بعضًا، ‏ويدعو أحدُها الآخر:‏
يا عازف الناي، صوتُ النّاي أشجاني     قـل أنتَ بيتًا، وخُذْ من آهتي الثاني
ما كِدْتَ تنفخُ حتى باح ما أخــــفت           أنفاسُ صدرِكَ من حزنٍ، فأبكاني
‏ (نبيلة الخطيب)‏
‏..خرابٌ، وخواءٌ، ووَحشةٌ، وهزيمةٌ، وغربةٌ، وأثقالٌ، تضافرت كلُّها على جسدِ بلدتنا الصغيرة، فـَ(أنهكته)، ‏و(أوجعته) بالغَ الوجع.‏
‏"علقمٌ طعمُ الشقاء"‏
يختار نضال القاسم تقديمَ الخبر في هذه الجملة، لأنَّ المرارة اللاذعة آذتْه، وسيطرت على فنِّه ولِسانِه، فقدَّمَ ‏إفضاءة بطعم المرار اللاذع القاسي. ‏
‏"في الذاكرة
بيتٌ من الطين أذكره تمامًا على مفارق الطرقْ
وأحجارُ بيضاءُ مَرصوصةٌ من غير سُوءٍ
براعمُ وردٍ تضوعُ بالشذا
عصافيرُ تَمرُقُ بين الهُنا... والهناكَ
نعناعٌ طريٌّ
وبئرُ ماءِ جَفَّ طينُ قاعِها
وأصدقاء".‏
هذه لقطةٌ تصويريّةٌ لا تُبارِحُ ذاكرتي، لقد تعلّقتُ بهذه الذكرى القريبة إلى قلبي، لذا سأحفظها، سأتحدّى ‏النسيان، وسأُفعِمُ جيلي وجيل أبنائي بالإحساس بحياتِها التي اتّصلت بأعضائنا- نحن أبناءها. لقد أفرزت هذه ‏الأرضُ التّحدّي، حين (جفّ طين قاعها)، لم تَجفَّ الدموع حسْب يا نزار: (...بكيتُ حتى جفّت الدّموع/ ‏نزار قباني).‏
‏(وأحجارٌ مرصوصةٌ...) مَظاهرُ الحياةِ لا تزال نديّةً عامرةً بالذكرى التي تهَبها الحياةَ من جديد: (نعناع ‏طريّ، عصافير تمرق،...) إنَّها الحياةُ بسائر مَظاهرها، وجميلِ تكوينها، وراقي إبداعِ أبنائها في حماية ‏بيئتها وتنسيقِها: (وأحجارٌ بيضاء مرصوصة من غير سوء)، بِتَحَدٍّ بالغٍ في حمايتِها وحِفظِ أمنها، أحببتُ ‏أرضي، فغدوتُ وأهلُها (أصدقاء).‏
وبعد ذلك... يُفاجئ المُبدِعُ المُتلقي بِما آلَت إليه الحال، لقد صارت الصورة كئيبةً حزينة:‏
‏"ريحٌ كنودٌ في زحمةِ الخرابِ تعوي كذئبٍ
وأشجارُ سروٍ وكينا اشرأبّت فوق هاماتِ الأصيل
ذُبالةُ ضَوءِ يئنُّ ويرتجف".‏
وقامت الهِمَمُ العالية تُجالِد لتحفظ رأسَها مرفوعًا عَليًّا، وتشرئبّ به –على الرّغم من المُصاب- (فوق هامات ‏الأصيل)، لقد ملكت –بتحدّيها- أن تعلو فتُسابقَ ما قام يدلُّ على الزمان (الأصيل)؛ وقت الغروب، إنها ‏تشرئبُّ فوق هاماتِه لِتُدرِكَ الفجر/ النَّصر الذي تُعِدُّ له، بعد ليل طال، وحلُكَت ظُلمَتُه، والأمل البسيط، ضئيلُ ‏القدرة، يملك أن ينمو، بعد أن كان (يئنُّ) و(يرتجف)! والخوفُ والوجعُ يَعصِفانِ بهذا الأمَل، الذي يبدو ‏خافتَ الضَّوء، لكنّه، لا يزال... ‏
‏"وجدولٌ يَموجُ بالحياةِ رقراقًا شجيًّا
يموءُ مثلَ قِطَّةٍ أليفة
تلوكُه مَخالبُ البعوض والغزاة".‏
لقد ملك مواءُ القطّة الأليفة أن يتصدّى لصوتِ الغزاة الصاخب، لأنَّ هذه الأرضُ حقٌّ لهم، والغزاةُ ما هم إلا ‏‏(بعوضٌ) قام يتطفّل على مائدة الأُصلاء، فخالَ مائدتهم حقًّا له! وخّيّل له غرورُه أنْ قد غدت له (مخالب)! ‏وهو -في الحقيقة- لا ينهش، بل (يلوك) ما افترسَه أصيلُ القوّةِ بمَخالبه القويّة.‏
‏"في الذاكرة
صوتٌ بعيدٌ موحِشٌ
ضوءٌ يملأُ البيت
نوافذُ ناعِمة".‏
هجماتُ الأعادي تتلاشى، وتصير إلى (صوتٍ، بعيد، موحِشٍ)!! لقد بات أثرُها ضعيفًا، لم يَعُد قاسيًا، وما ‏عاد صوتُها مُجلجلًا مُفزِعًا! اللوحةُ تحمِلُ الأمل، على الرغم من الإحباطات والآلام المُضنية، الضّوء يملأ ‏البيت، وسيظلُّ يملؤه، لقد تحوّل الغزاة إلى صوتٍ موحِشٍ بعيد.‏
لقد أصبح صوتُ الوحشة بعيدًا، وأخذ الضوء يملأ المكان، لم يعد الأمل في تجربة الشاعر: (ذُبالةً من ‏مصباحٍ ضعيف)! لقد بات (يُضئ) ويملأ المكان بفعاليّةٍ وإشراق، و(المكان) -مُعرَّفًا بأل التعريف- سبق ‏العهدُ به، وسبقت المعرفة بماهيّتِه؛ (نوافذ ناعمة): إنها منافذ للضوء والأمل المُتجدّدين، وهي -إلى ذلك- ‏‏(ناعمة): تُفضي إلى النَّعيم، والتفاؤل، والعيشِ المُرَفَّه الذي إليه تَصبو النفوس.‏
‏"عينان حانيتان لامرأةٍ مَضَت نحو السماء"‏
ما زال بوسعنا أن نصوغَ الحُلم بالبقاء والعودة، حتى مع ذكرى مَن يموت مِنّا، مُربّيةُ جيل الثورة لا ولن ‏تموت! الرّوحُ تغدو -إثرَ وفاةِ صاحبها صاحب الرسالة- (رمْزًا) يُعِدُّ الأجيال القادمة للسَّير في الطريق ‏المؤدّية للنَّصر.‏
‏"وأُناسٌ مكدودون كالأشباحِ في الطُّرقات
أسمعهم
أنفاسُهم حَرّى
يَدُهم تَدُقَّ الباب
لو أنَّهم..‏
لكنَّهم...".‏
الشَّعبُ كلُّه هَبَّ مُقاوِمًا مُتحدّيًا، لقد أثبتوا حضورَهم –على الرغم من موتِهم- لأنَهم صاروا شهداء، ورمزًا ‏للتّضحية والفِداء، "ولا تحسبنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون"(آل عمران: ‏‏169).‏
‏"وقميصٌ ضيّعته الرّيحُ خَلْفَ المدى
كان فضفاضًا وأخضرْ واختفى منذُ أن ضاعت بلادي
لو أنّه..‏
لكنّه...".‏
‏(القميص) في قصّة يوسف، كان بشارةً لأبيه يعقوب -عليهما السلام- بحياةِ ابنه، وهذا القميص جاء واسعًا ‏‏(فضفاضًا) بالأمل، والدّلالات الرّحبة في كلِّ قِصّة، كم فقدنا الأمل -يومَ ضاعت بلادي- لكنّ (قميصَ ‏الأمل) لن يضيع- بوعْدِ الله تعالى لنا.‏
كان في وسعنا أن نفقد الأمل، (لو أنّه) مُجرَّدُ حُلمٍ، أو وهمٍ كاذب!‏
‏(لكنّه).. "نصرٌ من الله، وفتحٌ قريب"(الصَّف: 13)، و(لو أنه).. غيرُ وعدِ الله.. لَشككنا!‏
‏(لكنه).. وعدٌ من الله "فاصبر إنَّ وعد الله حق ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون"(الروم: 60).‏
‏ آن لنا أن نكون على يقين!‏