النقد الثقافي بين مفهوم التأويل وعلم الدلالة

‏ عبد المجيد جرادات

كاتب ومحلل أردني

Am_jaradat@yahoo.com

 

يَحْظى حوار المناهج النقديّة في اللغة والأدب، باهتمام المدارس الفكرية وأهل العلم ‏والمعرفة، وتُعْقَدُ لغايات التوسُّع في البحث المعرفي في هذا الاتِّجاه، الكثير من ‏المؤتمرات العلميّة والندوات الثقافيّة، وفي تتبُّعنا لما يتم التوصُّل إليه من استنتاجات ‏وتوصيات، نجد معظم الباحثين يرون أنَّ مفهوم التأويل وعلم الدلالة يأخذان جانبًا ‏مهمًّا في بلورة (النقد الثقافي) فما هو المقصود بالتأويل، وماذا نعني بالدلالة؟ ‏

 

التَّأويلُ في القرآن الكريم هو (التفسير)، الذي نتبيّن ونُدرك جوهر الحقيقة من خلاله، ‏وفي فقه اللغة، يُعرَّف التأويل على أنه: ردّ الشيء إلى الغاية المرجوّة منه، أو نقل ‏ظاهر اللفظ عن وصفه الأصلي، بدليل يستند على البيان والبرهان، والتأويل هو: ‏توضيح الكلام الذي تختلف معانيه عندما يتمركز النص بين ثنائيّة الذات والصفات، ‏وبحسب ما خلص إليه الناقد محمد عزام في كتابه (اتِّجاهات التأويل النقدي من المكتوب ‏إلى المكبوت)، فإنَّ التأويل هو فتح المعنى الخفي المتواري تحت العبارات الظاهرة، ‏وهنا يجيء دَوْر النص الذي يفرض المنهج الملائم بكل دلالاته.‏

يُعتبرُ مالك بن نبي (1905-1973) من أبرز المفكرين العرب الذين اهتمّوا بالفكر ‏الحضاري ومنهجيّة النقد الثقافي والأدبي فيه، وممّا قاله: "إنَّ مشكلة كل شعب هي في ‏جوهرها مشكلة ثقافته، ولا يُمكن لأيّ شعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكره ‏إلى مستوى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمّق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو ‏تهدمها".‏

في تحليل واقع الخطاب الثقافي ودوره في إذكاء الروح المعنوية، نلمح جملة مقاربات ‏يُمكن مناقشتها على النحو التالي:‏

‏-‏ عندما تتركَّز جهود أهل الفكر والمؤثرين من أبناء المجتمع بالاتِّجاه الذي ‏يُعزِّز مقومات الحريّة المسؤولة، فإنَّ النتيجة المتوقَّعة هي (زوال أسباب ‏الضغط الاجتماعي)؛ عندها تتهيَّأ الفرصة لانطلاق الطاقة الحيويّة من ‏قيودها، سواء كانت هذه القيود مفروضة بحكم العادات والقيم أو بموجب ‏الدستور والقوانين الوضعيّة.‏

‏-‏ المعروف أنَّ الأزمة الثقافيّة تنمو في المجتمعات التي يفقد الفرد فيها حريّته ‏بممارسة النقد الثقافي بسبب المحددات السياسية، التي كثيرًا ما تؤدّي ‏تراكماتها للشعور بالكبت وعدم القدرة على المشاركة في رسم السياسات ‏التي تنسجم مع ديمومة الحركة الإنتاجيّة، والجهود التي تنفع الناس وتمكث ‏في الأرض.‏

‏-‏ الشرط المطلوب من وجهة نظر مشاهير العلماء والنقاد والأدباء هو أنْ ‏يتكيّف الإنسان مع متطلبات الحياة المفروضة عليه، حتى يتمكَّن من التفاعل ‏الإيجابي مع بيئته ويتزوّد بالخبرات العملية التي تمنحه الإحساس بقيمة ‏الوقت وحيوية دوره.‏

‏-‏ فرضية التعايش مع تطورات واستحقاقات الزمن بحدود التجارب المعاصرة ‏وأحداثها، هي ضرورة حتميّة في عالم تُهيمن فيه التكنولوجيا التي توسّعت ‏في مختلف المجتمعات، وهنا يتم التركيز على القيمة المعنوية للثقافة والتي ‏تتُرجم الأفكار المتداولة وآراء القادة والخبراء، إلى أفعال ملموسة، وهذه هي ‏العوامل التي تُغذّي "عبقرية الحضارة".‏

‏-‏ يأخذ الدَّوْر التربوي مسارًا مؤثِّرًا في بلورة السلوك الثقافي، ومن المعروف ‏أنَّ بناء المجتمع يتأسَّس على منظومة القيم، التي توصف التربية فيها من ‏قِبَل معظم خبراء العلوم الاجتماعية، بأنها تُشكِّل الإطار الفكري للمجتمع، ‏ومن أبرز عناصرها: المنهج الأخلاقي، والذوق الجمالي، والصناعة، ‏وأساليب العمل المنتج.‏

يرتكز التأويل على أهمية البحث عن المعنى، ومن خلاله يُمكن قراءة النص، وهو ‏جهد استنتاجي يسعى لتحقيق المعرفة المنشودة، وهنا يبدأ دور اللغة بصفتها أداة تفكير ‏ووسيلة التواصل التي يتحقق من خلالها فهم مقابل فهم، وبالمحصِّلة فإنَّ التأويل هو ‏محاولة الحصول على المعرفة، وهنالك طرق معياريّة لتحقيق المعنى والدلالة: ‏وتأسيسًا على ذلك تبرز الحاجة لتوضيح القواسـم المشـتركة والأبعاد المعرفيّة بين ‏التأويل والدلالة (السيمائيّة).‏

يُشكل التراث العربي الإسلامي بشموليّته الحضاريّة، مخزونًا معرفـيًّا وثقافيًّا، يظهر ‏في صورة نظام من العلامات الدالة، وتتحقق سيمائيّة هذا النظام في إطاره التاريخي ‏والثقافي المتجانس على النحو التالي:‏

‏1.‏ الموروث اللساني: النحوي واللغوي والمعجمي.‏

‏2.‏ البلاغة ومنهجيّة النقد.‏

‏3.‏ الموروث الفلسفي.‏

‏4.‏ علم الأصول والتفسير والتأويل في الدين.‏

‏5.‏ الموروث الاجتماعي، والذي يتفق خبراء العلوم الاجتماعية على أنَّ ابن خلدون ‏يمثِّله دون سواه. ‏

 

في مجمل الأحوال، فإنَّ التمكُّن من الأداء اللغوي في المستويات الظاهرة، وفي مقدمتها ‏التأويل والماورائيّة، يُعطي أدقّ البراهين على مفهوم الاستدلاليّة، ويحول دون تعقـيد ‏التشابكات أو التداخلات اللغوية، ثم يُمهِّد إلى صدور المعنى وما وراء المعنى. وتلك ‏هي أبرز مظاهر الدلالة. ‏

‏ تمثل الدلالة من وجهة نظر الفيلسوف الأميركي "شارلز ساندروز بيرس" (1839- ‏‏1914)، إطارًا مرجعيًّا، يتضمّن أيّ دراسة أخرى، حيث يؤكد "بيرس" أنه ليس ‏بالإمكان دراسة الرياضيات أو الأخلاق أو الكيمياء وعلم النفس والصوتيات ‏والاقتصاد وتاريخ العلوم، على سبيل المثال، إلّا بوصفها دراسة علاماتيّة، ولهذا ‏جاءت أفكاره مستندة على أنَّ العلامات تسمح لنا أن نفكِّر، وأن نتواصل مع الآخر، ثم ‏نعطي معنى لما يقترحه الكون علينا، وحتى نمتلك تنوُّعًا كبيرًا من الدلالات الممكنة، ‏وتكون العلامات اللسانيّة من بينها فئة مهمّة، فقد أنشأ "بيرس" نظريّته العلاماتيّة، ‏مكرِّسًا نفسه لعلم العلامات عمومًا، وقد خصَّص مكانًا مهمًّا للعلامات اللسانية. ‏

‏ في نظرية التأويل، فإنَّ الصورة تحتاج من أجل إنتاج معانيها إلى معطيات يوفرها ‏التمثيل البصري الذي يعتمد على المحاكاة الخاصة بالكائنات أو الأشياء، وهي مرتبطة ‏بفكـر الإنسان وميله التلقائي إلى منح الطبيعة أبعادًا دلاليّة، تتجاوز الأبعاد الماديّة، ‏ولهذا فإنَّ الألوان والأشكال تسهم عادة بإضافة المعنى الدلالي للصورة. ‏

بين مبدأ السببيّة ونظرية الأنساق أو المنظومات، تبدأ مهمة البحث عـن المعرفة، ومن ‏المهم هنا القول: إنَّ فكرة النسق تحديدًا تعني، وجود مجموعة عناصر، تتوزع بين ‏العنصر المركزي، والذي يُعرِّفـه أساتذة الفيزياء والفلسفة بالنواة أو بؤرة القطب ‏الرئيس، والعناصر الفرعيّة المتمثلة بالأطراف والحواف أو الأجزاء الملحقة.‏

يُجمع خبراء اللغة، على أننا نفهم من النص، أي النص المكتوب، أن يكون وثيقة ‏مرجعية بمثابة قانون قيمي ومن شأنه تأدية وظيفة الذاكرة الجماعـية وتوثيقها، ولهذا ‏يتم عادة الربط بين فكرة النص والتأويل، ومخزون الذاكرة من زاويـة علاقة النص ‏باللغة، وبما أنَّ اللغة تمثل المسكن المألوف، وتشكل الذاكرة التي تصون الهوية، فإنها ‏لا تستقر في بنياتها الصرفـية والنحوية والدلالـية، إلا بوجود النص، ولهذا قيل إنَّ ‏اللغة التي يُكتبُ بها نص مركزي مرموق، تكون خالدة وتأخذ مكانتها بين اللغات ‏الحية.‏

‏ في محاولة الربط بين (التأويل والدلالة)، ومهمة البحث عن المعرفة، نقول: إنَّ الحياة ‏الاجتماعية ليسـت متجانسة في تركيبتها، وبحسب وصف علماء الاجتماع، فهنالك ‏نماذج من الوجود الاجتماعي التي يتم داخلها تفاعل نوعي بين الأشخاص المشكلين ‏لمنظومة اجتماعية محددة، وهنا يأتي الحديث عن القيمة باعتبارها شرطًا محددًا لبنية ‏هذا النموذج أو ذاك، وعليه فإنَّ الاختيار بين القيم هو الذي يؤدي بالأفراد والجماعات ‏إلى أن يقرِّروا أنَّ النموذج المفضَّل بالنسبة لهم أكثر ملاءمة من غيره. ‏

‏ في عملية المقارنة بين الضرورة والكينونة، نلمس أنَّ الضرورة تمثل الإطار ‏الرؤيوي المرجعي، والذي ينبثق منه كامل النسق المنطقي والفلسفي، وتؤول إليه سائر ‏أجزائه وترتيباته وعملياته، في حين أنَّ الكينونة تأخذ معناها الجوهري من كونها نظام ‏تعقل، يبدأ بالمقولة إلى أنْ يستخلص النتيجة المنشودة بما تطمح إليه من تحقيق للنظام ‏المعرفي.‏

تفترض اللغة اللفظية وجود الدلالة بالمعنى الذي يحتاج للتأويل، وبما أنَّ موضوع ‏التواصل اللساني، يرتبط في معظم الأوقات بالحقيقة اللسانية المفهومة من عوامل ‏السياق الخارجية، فإنَّ مهمّة المبادر بالحديث أو الخطاب، تستند على مبدأ قدرته ‏لتعيين الأشياء التي تهدف لتكوين الحقيقة المراد التوصُّل إليها، وهذه هي الوظيفة ‏المرجعيّة إلى اللغة.‏

اللغة هي كل إنتاج متَّسق لأنواع الرموز والدلالات التي تؤدي وظيفة حقيقيّة في ‏الخطاب الإنساني، وكان "دي سوسير" قد أكد على أنَّ جزء العلامة الذي يُمثل الجانب ‏المحسوس يسمى "الدال"، أمّا الجزء الغائب فهو "المدلول"، في حين أنَّ العلاقة التي ‏تربط بينهما تسمى "الدلالة". ‏

‏ نخلص إلى القول إنَّ الثقافة في طبيعتها التاريخية، تُشكّل طاقة امتداد وتأثير متبادل، ‏تُعيد صياغة وحدتها من خلال إبداعات أبنائها، كما هي مسيرة الحضارة الإسلامية ‏والحضارات القديمة، وفي سبيل التصدّي لعوامل الهيمنة الخارجية، فإنَّ أهل الفكر ‏يهتمون بتعزيز مقومات الدفاع المرن عن الهوية والمكتسبات بمنهجية ترتقي بالفعل ‏وتقوّي الإرادة، عبر معرفة الدوائر والحلقات التي تحيط بكياننا في العالم، ومن هنا ‏تتجلى رسالة الثقافة بالأسلوب الذي يعزِّز وجود الأمة، حتى لا تبقى متأثرة أو ‏مستهلكة لثقافة الدول العظمى والصناعية.‏