الفنُّ الإسلاميّ قراءة في استعادة المفهوم والدور

كايد هاشم

كاتب وباحث أردني

kydhashem@hotmail.com

 

برهن الفن الإسلامي في العديد من مراحل مسيرته على أنه بمثابة معمل ثقافي في ‏بيئاته الأصليّة، يمكن له أن يشكِّل دعامة نهوض مضادة للتخلف والتقهقر على صعيد ‏الفكر والعلوم والتعليم والتنمية المجتمعية والصناعة. وتهدف هذه الدراسة إلى وضع ‏إشارات على طريق استعادة مفهوم الفن الإسلامي ودوره، ربّما تحمل في طيّاتها ‏أسئلةً أخرى جديرة بالبحث. ‏

 

 

هُناكَ الكثير من الكتابات التي رصدت تاريخ الفن الإسلامي ودرست منابعه الإبداعية ‏وتجلياته وأدواره عبر بيئاته المتنوِّعة، ومن ذلك أثره في العلاقات بين الشرق ‏والغرب، بل وفي حياة المسلمين والغربيين أنفسهم حتى ضمن دائرة الصراعات ‏التاريخية الكبرى بينهم. وقد برهن الفن الإسلامي في العديد من مراحل مسيرته على ‏أنه بمثابة معمل ثقافي في بيئاته الأصليّة، يمكن له أن يشكِّل دعامة نهوض مضادة ‏للتخلف والتقهقر على صعيد الفكر والعلوم والتعليم والتنمية المجتمعية والصناعة، وأن ‏يكون "سفيرًا للسلام والوئام... ويقوم بدورٍ هام في مصائر المستقبل"(1)، ذلك بإدراك ‏معانيه وأبعاده الروحية والعقلية والفكرية وتجاوز المظهر المادي، في ظلّ مناخات ‏ملائمة لتطبيق هذا الإدراك وإدارة الوعي بشكل يُغني الواقع. ‏

وفي المقابل، ما تزال هناك حاجة لدراسة إمكانية إحياء مفهوم الفن الإسلامي ودوره ‏في حياة العرب والمسلمين المعاصرين أنفسهم، مع التركيز على العوائق والمشكلات ‏التي تعترض عملية الإحياء هذه، ولا سيما في ما يتعلق بقضايا مثل إشكالية المصطلح ‏وارتباطه بالدين أو بالقومية، وبمسألة ما يبيحه الدين وما يحرِّمه أو يمنعه التي جرى ‏حولها الكثير من الجدل، على الرغم من أنَّ التركيز على شخصية الفن الإسلامي ‏وتطوُّرها وميزة تنوُّع مصادر تكوُّنها، وبالتالي استنباط عناصر القوة والتميُّز في هذا ‏الفن وتمثيلها كقيم تنويرية، هي أمور جديرة بالاهتمام لتبيّن أثر المبادىء وروح ‏الحضارة والثقافة الإسلامية الممثَّلة كرموز فنية، وفهمها ضمن سياقاتها التاريخية ‏والبيئات الاجتماعية- الثقافية لمواطن الفن الإسلامي في الشرق.‏

وفي إطار تعرُّف موقع الفن والفن الإسلامي في الحياة العربية والإسلامية المعاصرة ‏وما يمكن أن يعزِّز من دوره في معالجة ومواجهة الجمود والانغلاق والتطرف، فإنَّ ‏فهم الروح التي تشيع في هذه الحياة واقعيًّا، هو أيضًا أمر ضروري للعمل ثقافيًّا على ‏إحداث التوازن بين مكونات الحسّ والخيال والروحانية من جهة، وتداعيات الأزمات ‏الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، فضلًا عن طغيان الماديات التي تطبع عصرنا ‏الحالي بطابعها وعلى نحو شديد الوطأة. ثم إنَّ هنالك أدوارًا أخرى للأنظمة الدينية ‏ينبغي ألَّا تُهمَّش ساهمت إلى حد بعيد في حفظ ذخائر من الفن الإسلامي وساعدت في ‏رسم مسار تطوُّره وازدهاره، والمقصود هنا الحجّ، ونظام الوقف، والحسبة، وغيرها.‏

لعلَّنا حين نتناول موضوع "الفن الإسلامي في مواجهة التطرُّف"، نبدأُ تلقائيًّا بالتفكير ‏في معنى المواجهة هنا، في ضوء الأسئلة التي يثيرها الذهن حول شكل هذه المواجهة ‏أو صورتها، وكيف تكون بين قيم فنية بمفهوماتها التجريدية، ومجالها من الفكر ‏والشعور والحسّ والتذوُّق الجمالي، وبين بُنية أفكار متطرِّفة ذات تراكيب نفسية تنحو ‏إلى التضادّ وتشويه(2) المفهوم الحقيقي للفن ودوره، وتستطيع أن تتمثَّل بأدوات ‏وتعبيرات وسلوكات قابلة لأن تتحوَّل إلى فعل عنف مادي أو لفظي مؤثِّر بشكلٍ ‏مباشر؟

يتبع ذلك السؤال: هل الفن والفن الإسلامي كمفهوم وقيم وخصائص، وحتى كحضور، ‏له وجود خصوصًا في حياة المجتمعات العربية المعاصرة، وهل يمكن توظيف هذا ‏الحضور واستثمار مضامين الفن الإسلامي في خطاب فكري تنويري يمتلك عناصر ‏القوة والتأثير، بما يساعد على تعزيز الأبعاد الجمالية والروحانية والحضارية للفن في ‏نسيج هذه المجتمعات، وإيجاد التوازن المُفتقد لديها في بعض الجوانب، والذي استبد به ‏الخلل، ونتج عن ذلك إشكالية التشوّه المفاهيمي والتطرف في النظرة والحكم على ‏المفهوم المُقابِل والممارسة المُخالفة، وكذلك في انتشار انطباعات سلبية عن هذه ‏المجتمعات في العالم الخارجي وتصويرها على أنها بيئات حاضنة للتطرف، فضلًا ‏عما تعانيه من أزمات وصراعات فكرية وحضارية متلاحقة في نسيجها الاجتماعي- ‏الثقافي، وأزمات سياسية واقتصادية، تسبَّبت في تداعيات انقساميّة عنقوديّة في الهوية ‏والانتماء؟

لا أريد أن أسترسل هنا في طرح المزيد من الأسئلة، فالغاية هي وضع إشارات على ‏طريق استعادة مفهوم الفن الإسلامي ودوره، ربّما تحمل في طيّاتها أسئلةً أخرى ‏جديرة بالبحث. ‏

إنَّ قسمًا غير قليل من الإجابات برأيي يعتمد على مقياس الشواهد التاريخية لمسيرة ‏الفن الإسلامي مع الأخذ بالاعتبار الجانب النظري الذي يشرح المفاهيم الفنية ‏وفلسفتها، ويستند إلى وعي منتجات الفن الإسلامي بقيمتها الفنية الجمالية، وباعتبارها ‏وثائق تحمل قيمة معرفيّة ودلاليّة كبيرة.‏

لا بد من الإشارة هنا إلى أنَّ ركائز الفن الإسلامي المستندة إلى روح التعاليم الإسلامية ‏لم تكن يومًا سببًا في أن يكون الفن الإسلامي فنًّا محصورًا بصفة دينية وحسب، أو ‏بصفة التابع، وإنما منحته المنابع والركائز الإسلامية مزايا وخصائص أطلقت تجلّياته ‏في التفاعل واستيعاب المؤثرات الثقافية المحلية لبيئات مختلفة (مثل إيران، وتركيا، ‏والأندلس، والهند)، انضوت في ظل الحضارة والثقافة الإسلامية، دون أن تفقد سماتها ‏المحلية، وفي الوقت نفسه أصبحت تشكِّل عناصر التنوع في إطار الوحدة المميزة ‏لشخصية الفن الإسلامي.‏

في وقت مبكر، وفي العشرينات، بحث الأديب والمؤرخ والمحقق المصري أحمد زكي ‏باشا في ما عَرض للآثار، ولا سيما في مصر والمشرق العربي من نكبات الطمس ‏والتزوير والتدمير منذ العصور القديمة، مبيِّنًا أنَّ التاريخ الإسلامي في ما بعد شهد من ‏ذلك حوادث متعددة كان وراءها أشكالٌ من التعصُّب السياسي في الغالب الأعم، ‏ويمكن في بعض الحالات أن يتخذ ستارًا باسم الدين، أفضى إلى شكل من أشكال ‏التطرُّف ضدّ الخصم، كما هي الحال عند بني العباس يوم انتهت الخلافة إليهم وكان ‏أكبر همّهم تخريب ما بناه بنو أمية وبنو مروان من المدائن والمصانع في الشام، ‏كالرصافة وغيرها. ومحاولة المأمون تزوير قطعة من القاشاني في قبّة الصخرة ببيت ‏المقدس كان عليها اسم الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، لكنه لم يتفطّن إلى تاريخ ‏العمارة المرقوم على القطعة التي أراد إزالة اسم الخليفة الأموي منها، فاكتُشف ‏التزوير، وضرب أحمد زكي باشا أمثلة على الآثار الفاطمية والفرعونية التي نالها ‏التخريب على عهد الدولة الأيوبية، وكثير من الأمثلة من عهود أخرى... إلخ(3).‏

حين نتحدَّث عن "مواجهة" من نوعٍ ما بين الفن الإسلامي والتطرُّف، قد ينصرف ‏الذهن فورًا إلى مسألة ما سمّي حينًا على أنه "منْع" وفي أحيان أخرى قيل "كره"، ‏وقال بعضهم: بل إنه "تحريم" الإسلام تصوير البشر وتجسيم الكائنات الحيّة من ‏الحيوان، تجنُّبًا لتقليد الخالق في خلقه. وكما هو معروف فإنَّ هذه المسألة كثيرًا ما ‏أثيرت على الرغم من أنَّ الجدل فيها لم يعُد يؤدّي إلّا إلى مزيد من التنافر بين الآراء ‏بلا مبرر. ولعلَّ الرأي القائل بأنَّ كراهية التصوير ترجع إلى عصر النبي (عليه ‏السلام) ومصدرها رفض الوثنية وعبادة الأصنام والخوف من الرجوع إلى ما كانت ‏عليه العرب في الجاهلية، هو الأقرب إلى طبيعة الأشياء ومنطق الأمور، وليس هناك ‏ما يدعو إلى الإيغال في التأويل أكثر من ذلك.‏

ولستُ هنا في مجال المناقشة الفقهيّة لهذه المسألة، لكن أتوقَّف عند موضوع موقف ‏الإسلام من تصوير الكائنات الحيّة وتجسيمها لأنَّ التركيز على فكرة "التحريم"، ‏وخاصة من جانب بعض الباحثين الغربيين الذين أرادوا في البداية التقليل من أهمية ‏الفن الإسلامي، استفاد منه –في ما يبدو- خطاب التطرُّف لتبرير ممارسات إدانة ‏مظاهر الفن التصويري وتدميرها، فيما السياق الديني والتاريخي الذي انتزعت منه ‏الفكرة انتزاعًا، لا يعطيها الحق سواء في الإدانة أو في الفعل التدميري للآثار والمعالم ‏الفنية للمسلمين وغير المسلمين.‏

وسبق للدكتور عفيف بهنسي -رحمه الله- أنْ استنتج أنَّ منع التصوير "لم يكن قائمًا ‏كأمر ديني مرتبط بموقف الرسول (صلى الله عليه وسلم) من التصوير بصورةٍ شاملة، وإنّما هو تعليل ‏لاتِّجاه الفن الإسلامي ضمن خطّ جمالي يمتدّ من تقاليد الفن العربي القديمة، ويأخذ من ‏الإسلام أبعادًا جديدة"، تستند إلى المبادىء الروحية، وعلى المفاهيم التوحيدية، أي أنَّ ‏حقيقة المنع هي "دعوة لتثبيت التقاليد المتَّبعة" قديمًا عند العرب، فالروح العربية تعاف ‏الطُرز والأشكال الغريبة من رومانيّة أو بينزنطيّة التي كانت تُصنع عليها التماثيل ‏والمنحوتات الحجرية أو البرونزيّة وعليها أسماء الآلهة، أو الصور المطبوعة على ‏الأقمشة التي يستوردها تجار مكة من بلاد الشام أو اليمن. على أنَّ هناك شبه توافق ‏على أنَّ الفنّان في البيئة الإسلامية بانصرافه عن تصوير الكائنات الحيّة من البشر ‏والحيوان، توصَّل إلى إدخال مبدأ "التَّجريد والرَّمز" في الفن الإسلامي، ولا سيّما في ‏الزخرفة المستمدّة من الخطوط الهندسية، أو أنواع الخط العربي، أو بعض المظاهر ‏النباتيّة، بتجويد استخداماتها وفق الأساليب الخاصة التي ابتدعها ذلك الفنّان(4).‏

ممّا لا شكَّ فيه أنَّ علاقة الفن بالإسلام لا يمكن اختزالها بما أشرنا إليه حول مسألة ‏منع التصوير، والتصوير فرع من الفن الإسلامي إلى جانب فروع العمارة وفنون ‏الخط، وفنون الزخرفة (المنسوجات، والفخار، والخزف، والزجاج، والتحف المعدنية، ‏والخشب والعاج، والطنافس، وزخارف الكتب أو المخطوطات).‏

إذًا، هنالك حاجة لإعادة التَّعريف بدوْر النظم الإسلامية في إنضاج الفن الإسلامي ‏والحفاظ عليه، ودراسة العوامل التي باعدت بين هذه النظم وإنماء المجتمعات، مثل ‏دور الوقف في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا النظام فضل حفظ روائع من ‏الفن الإسلامي في العمارة والفنون الفرعية، فضلًا على المخطوطات الثمينة مما كان ‏موقوفًا على المساجد والمدارس، كما أنَّ نظام الحسبة له دور عظيم في تجويد ‏الصناعات والحرف وفنونها(5).‏

إنَّ إستعادة مفهوم الفن الإسلامي ودوره في حياتنا هو استعادة لوعي أبعاد التجارب ‏التاريخية للثقافة والفن في الحياة العربية، وما يمكن أن يسهم به هذا الوعي في استعادة ‏الحسّ الجمالي الفنّي والمَلَكة الذوقيّة والقدرة على التفكير التجريدي، وبالتالي ترسيخ ‏معاني التناغم مع الكون والسلام الداخلي للإنسان وإشباع حاجته الروحية وتوازنه ‏النفسي الحياتي، يدعونا إلى التفكير في منهج جديد وعصري لاستعادة مفهوم الفن ‏الإسلامي ودوره في بناء الإنسان وتطوير هويته الثقافية وإمكاناته الفكرية ضمن إطار ‏الوعي باستعادة المجتمعات العربية والإسلامية للتوازن المطلوب نحو النهوض ‏والارتقاء. ‏

 

‏* الهوامش:‏

‏(1) هذه العبارة في الأصل للمستشرق الأميركي ريتشارد أنتجهاوزن ("الشرق الأوسط في مؤلفات الأميركيين"، ‏ترجمة محمد مصطفى زيادة، ينظر مجلة "الهلال"، 1 يناير 1956). وينظر: توماس ارنولد، "الفن الإسلامي وتأثيره في ‏التصوير في أوروبا" في كتاب "تراث الإسلام في الفنون الفرعية والتصوير والعمارة"، ترجمة د. زكي محمد حسن، ‏دمشق، دار الكتاب العربي، 1984، ص103-109.‏

‏(2) وجيهة البحارنة، "التطرف وأدواته وجذوره في المجتمعات العربية"، مجلة "المنتدى" الفكرية الفصلية، العدد ‏‏266-267، عمّان، منتدى الفكر العربي، صيف – خريف 2016، ص98.‏

‏(3) أحمد زكي، "الآثار المصرية بين يدي المُلك والدين"، مجلة "الهلال"، القاهرة، أكتوبر ونوفمبر – ديسمبر ‏‏1923، ويناير 1924. ‏

‏(4) عفيف بهنسي، "جمالية الفن العربي"، الكويت، (سلسلة عالم المعرفة)، فبراير (شباط) 1979، ص20-21. ‏وكذلك سعد زغلول، "الفن الإسلامي: لغته ومعناه"، الكويت، مجلة "عالم الفكر"، إبريل 1979، ص 254.‏

‏(5) محمد عبد العزيز مرزوق، "الفن الإسلامي: تاريخه وخصائصه"، بغداد، ساعدت جامعة بغداد على نشره، 1965، ‏ص167-171.‏