حمّام

 حمّام

 

 قصة: د. ليندا عبيد

قاصة وناقدة أردنية

linda_obead@yahoo.com

 

لطالَما كان بلاط الحمّام البارد مكاني المفضَّل للفرار من حرارة زنّار أبي حين كنتُ ‏صغيرة؛ كلَّما وسْوَسَت له زوجته بأنّي لم أساعدها في أعمال المنزل أو رفعتُ صوتي ‏في وجهها، وكلَّما تذمَّرتُ من تناولي لبقايا الطعام بعد أن يأكل هو وزوجته وأولاده ‏الذكور. ثم صار مهربي من صفعات أخي الكبير الذي نابَ عن أبي في مراقبة سيْر ‏العمل في المنزل بعد أنْ سلّمه تفويضًا شفويًّا بمراقبة سلوكي وثيابي ومقدار ضحكتي ‏بوصفي شرف العائلة المبجَّل الذي أحاطوه بالمفاتيح والأقفال وجَلْد الحزام والرَّكلات ‏والصَّفعات، وأنهكوه بأعمال منزليّة شاقّة خوف أن تسوِّلَ الرَّاحة والرَّفاهية لجسدي ‏خاطرًا ما! فقد قالت زوجة أبي: "إنَّ البنات لايستقمْنَ إلّا بتكسير الرُّؤوس، وكلَّما ‏رفَعَت إحداهنَّ صوتها أو ضحكتها تحوَّلَت إلى عاهرة وتقاذَفَ الناس سيرتها مثل لقمة ‏سائغة!".‏

‏ في الحمّام يسكن كل الضَّجيج، يصفو رأسي، وتشفّ روحي، وينساب دمعي مثل ‏جَدْولٍ جارٍ، ترتفع تأوُّهاتي، وأتحرَّر قليلًا من صرخاتي المكبوتة، أضع رأسي بين ‏رجليّ وذراعيّ، وألتصق بالأرض مثل نبتة تريد الاختباء شتاءً في بطن أمِّها الأرض ‏لتنمو من جديد في الرَّبيع بعد أن تهدأ روحها ويسكنها السَّلام.‏

‏ في الحمّام أرى صورة أمي التي غادرتني باكرًا بعد أن نامت طويلًا في سريرها ولم ‏تصحُ.‏

‏ أغسل وجهي بماءٍ باردٍ، أرتِّب شعري المنكوش وأتنفَّس بعمق. أيّ سلام يبعثه بي هذا ‏البلاط البارد فيهدأ وجعي، شيء واحد يقلق سلامي هنا؛ ذلك الثقب الصغير في ‏مقبض الباب، ثمّة ضوء من الخارج ينسلُّ إليّ، وضجيج أصواتهم في الخارج يصل ‏إليّ مختلطًا غير واضح فيقلق راحتي.‏

‏ سأغلقه في المرَّة القادمة بمنديلٍ ورقيّ. خمس دقائق.. عشر دقائق لي وحدي. نعم لي ‏وحدي. بعيدًا عن نظرات تلك المرأة التي تبقِّع خدَّها وذقنها بأوشام مخيفة، وتراقبني ‏مثل فزّاعة بارعة بحجّة أنها أم زوجي، وأيّ تصرُّف خادش منّي يمسّ شرف عائلتهم ‏العظيم!‏

‏ هنا لستُ مضطرَّة للابتسام بوجه بناتها اللائي لا يتوقَّفن عن الثرثرة واختلاق ‏الحكايات ليمتلئن زهوًا إذْ تبقِّع لكمات أخيهنّ الثمين جسدي، ويعلو صراخي كلَّما مزَّق ‏جلدي، وأطلَّت قطرات الدم الملعونة التي سرعان ما تتحوَّل إلى بقع زرقاء وحمراء ‏وكدمات بشعة تحرص تلك الفزّاعة دومًا على أنْ أغطّيها بثياب بأكمام طويلة ووشاح ‏لا ينبغي أن يغادر عنقي.‏

في الحمّام تبدو السماء أقرب! أتوسَّل إلى الله أنْ يمنَحَني الخلاص والسّلام الأبديّ، فأنا ‏أشتاق كثيرًا لأمي. أعلم أنَّ الله عظيم ولا يطيق ضجيجهم وسوادهم وصراخهم مثلي، ‏وبالتأكيد لا يحبُّ أوشام تلك العجوز.‏

البلاط، والجدران، وصنبور الماء، وذلك المصباح وحدهم أصدقائي، يعرفون كلّ ‏شيء عني مذْ غابت أمي، وأسمَتْني زوجة أبي عاهرة، وهَمَسَت بأذنِ زوجِها وابنِها ‏أنَّ صوتي وضحكتي وخصلة شعري تهديدٌ لشرف العائلة المبجَّل! ثم قدَّمتني هديّة إلى ‏رجل غريب أسماني زوجته! وكلّما جلدني طال شاربه، وتوهَّجَت أوشام أمِّه التي ‏تحيط عينيها بكحل أسود، وانتَشَت أجساد أخواته المحاصرات بعيون الفزّاعة أيضًا.‏

الساعة الثانية عشرة ليلًا

رجلٌ في الصّالة ينادي بخشونة وفظاظة على امرأة أسموها زوجته بعد أنْ همَسَت ‏امرأة بأوشام شيئًا في أذنه. يفتح الحمّام بعد أن دفعه بقدمه، بينما كانت هنالك شابة في ‏التاسعة والعشرين من عمرها تغفو على بلاط الحمّام وتبتسم دون أن تصحو!‏

وحدهما مصباح الحمّام وصنبور الماء شعرا بحزن مريرٍ تلك اللَّيلة‎.‎